الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشريعة، وفصلت القول في أصولها العالية تفصيلاً.
*
فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر:
ولا يزال علماء الإسلام في سائر الأقطار، يشهحون أن أحكام الشريعة تدور على مقتضى الحاجات والمصالح، وهذا أحد الفقهاء (1) الناشئين في قرية (2) من صحراء الجزائر في المئة الثالثة عشرة، كان يفتي بجواز استناد الحاكم إلى آثار الأقدام في نحو السرقة، حيث كان لأهل بلاده حذق زائد في معرفة آثار أقدام الأشخاص، فأنكر عليه علماء بلد يقال لها "الخنقة"، فأجابهم بقصيدة لوح فيها إلى مستنداته في الفتوى، وقال فيها:
إلى السادةِ الأشرافِ من أهل "خنقة" .... لهم في ندور الواقعاتِ نُقولُ
تمسكتم بالأصل والحقُّ واضحٌ ..... ولا ينكر المعلومَ إلا جهول
ولكن إذا عمّ السداد بحادثِ
…
تقدم أصلاً والقياسُ دليل
كتضمين سمسارِ وتغريمِ صانعِ
…
وما هو إلا مودع ووكيل
ومن ذاك ما قد جوزوا في سفاتج
…
إذا عمَّ بالخوف الشديد سبيل
وفي كلها خلف الأصول لأنها
…
مصالحُ عمّت والصلاحُ جميل
ومن أدب المسؤول قبلَ سؤالهِ
…
إذا وردت يوماً عليه سُؤول
تعرف عرف السائلين بأرضهم
…
ليعلم ما يفتي به ويقول
وما أنتم منّا بأعلم بالذي
…
به الضرّ يكفي عندنا ويزول
(1) الشيخ خليفة بن حسن.
(2)
قمار من بلد سوف.
فلو أهملت آثار سرّاق أرضنا
…
لكان فساداً للخراب يؤول
وفي الأخذ بالآثار إصلاح أمرنا
…
وفي الترك عن قصد السبيل عدول
وما الأثر إلا كالخطوط شهادة
…
كذا قال قومٌ في القياس عدول
فعرفانك الخطَّ الذي غاب ربُّه
…
لعرفان إثر المستراب عديل
وفي ولدي عفراء لما تنازعا
…
جهاز أبي جهل وهو جديل
بأثر دم في السيف كان نبينا
…
قضى أنه للسيدين قتيل
وكان السلف يكرهون السؤال عن النوازل قبل وقوعها حسبما نقله الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1)، ولعلهم كرهوا ذلك حذراً من أن يفرضوا لصورة النازلة حكماً، فتبرز للخارج، فيتصل فيها بعض أحوال لو شاهدها المفتي، لغيّر حكمه، وفصله على ما تقتضيه طبيعة النازلة محفوفة بتلك الأحوال.
قال المؤلف في (ص 78): "ذلك من الأغراض التي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم أو تدبير، فقال عليه السلام: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
كيف ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له في سياسة الأمة حكم أو تدبير، ونحن إذا قلبنا نظرنا في سيرته، نجده كان يحكم فيما شجر بين الناس، ويقيم الحدود والزواجر على من يجني على نفس أو مال، أو عرض أو عقل، ويجمع المال من حيث أمره الله، وينفقه في وجوه المصالح، وإسعاد ذوي الحاجة، ويتولى عقد التحالف والمعاهدات والصلح وإعلان الحرب، ويدبر أمرها، ويرسم لها الخطط مع المشاورة في هذا السبيل والأخذ بأرجح الآراء.
(1)"مختصر جامع بيان العلم وفضله"(ص 178).
يتولى هذه الأمور بنفسه، وقد يندب للقيام بها من فيه الكفاية والخبرة، وهل بعد هذا التصرف الثابت كتاباً وسنة متواترة يخرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في واد حافل بعلماء الشريعة، ويصيح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر أن يكون له في شؤون الأمة حكم أو تدبير؟!.
وأما حديث: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فإنه وارد في واقعة تأبير النخل، فيحمل على هذا المعنى، وما شاكله من فنون الزراعة والصناع وغيرها من وسائل العمران المادية.
قال المؤلف في (ص 78): "ذلك من أغراض الدنيا، والدنيا من أولها لآخرها، وجميع ما فيها من أغراض وغايات، أهونُ عند الله تعالى من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلّمنا من أسماء ومسميات، هي أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل الله تعالى من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدابيرها".
ننظر في الكتاب العزيز، فنجده طافحاً بما يدل على أن إرشاده لا يقتصر على العقائد والعبادات، فنجد فيه نصوصاً في بيان ما يحلّ أكله أو شربه، وما لا يحل فيه ذلك، قال تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
ونجد نصوصاً في بيان من يحل نكاحهن، ومن لا يحل، ونصوصاً تحرم مباشرة الزوجة في بعض الأحوال؛ كما قال تعالى:{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222}
ونجد نصوصاً في قسمة تركات الهالكين على ورثتهم؛ كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11} الآية.
ومن البين بنفسه: أن الأكل والشرب والنكاح والأموال الموروثة عن أولي القربى، كل ذلك من أغراض هذه الحياة وغاياتها.
إذن، فالمؤلف يريد بهذه المقالة استدراج السذج والأطفال إلى إنكار كل ما زاد على العقائد والعبادات، حتى يتسنى للإباحية السائبة أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، وتضرب خيامها في كل واد، فإذا أصبح الناس يدخلون في دينها أشتاتاً، قام الشيطان مرة أخرى، واستفز من استطاع منهم لتأليف كتاب يسمى الإسلام وأصول العبادات.
قال المؤلف في (ص 79): "لا يريبنك هذا الذي ترى أحياناً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملت، لم تجده كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وليس عجيباً أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل، هو وسيلة عنيفة وقاسية، ولكن ما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان، وربما وجب التخريب ليتم العمران".
أريناكم أن من مقاصد الإسلام: إصلاح السياسة، وإقامة دولة، وأنه وضع لهذه الدولة أركاناً وأصولاً، وأن ما يحسبه المؤلف من مظاهر الحكومة النبوية هيناً، هو عند ذوي العقول الراجحة والآراء الرصينة عظيم، وإنما نقلنا لكم هذه الفقرة من فقرات الكتاب؛ لنريكم مثلاً من أمثلة تخاذل نسجه، وصورة من صور موارباته.
يقول المؤلف فيما سلف: "وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان، وتوسيع الملك". وأخذ يقرر هذا المعنى، ويسوق في تقريره كل ما يملك من شبهة، ولم يزد هنالك على أن قال عقب البحث:"فذلك سر الجهاد عندهم".
وقال هاهنا: إن الجهاد وسيلة من الوسائل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وبعد أن وصفه بأنه وسيلة عنيفة وقاسية، أتى بعبارة يتقرب بظاهرها إلى آراء أهل العلم، ويدس في لحن خطابها تشكيكا لقوم لا يتفكرون، فقال: وما يدريك؛ لعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان.
وهل من الذوق الملائم للإيمان، أن ينعت المسلم عملاً مشروعاً بأنه شر، ثم يقول على سبيل الاعتذار منه: وما يدريك؛ لعل الشرّ ضروري للخير في بعض الأحيان!!
ومن يأخذ قول المؤلف في (ص 52): "من أمثلة الشؤون الملكية التي ظهرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم: مسألة الجهاد" إلى قوله هنا: "إن الجهاد من الوسائل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إليها تثبيتاً للدعوة"، وضم إلى هذا قوله في (ص 71):"إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاع المجرد من كل معاني السلطان"، قام له شاهد عدل يناجيه بأن المؤلف يريد أن يضع في ذهن قارئ كتابه: أن جهاده صلى الله عليه وسلم من الأعمال التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قال المؤلف في (ص. 8): "ترى من هذا: أنه ليس القرآن وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية. وليست السنّة هي وحدها التي تمنعنا من ذلك، ولكن مع الكتاب والسنّة حكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها".
قد رأيت أن استشهاد المؤلف بتلك الآيات والأحاديث مبني على قصور في فهمها، أو قصد إلى تحريف الكلم عن مواضعها، فالكتاب والسنّة لا يمنعان "من اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية،، بل يدلان بصراحة كفلق الصبح، على أنه عليه الصلاة والسلام كان مبلّغاً ومنفّذاً، وأن قيامه على التنفيذ داخل في حدود وظيفته السماوية.
ودعوى المؤلف: أن حكم العقل، وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها يمنعه من اعتقاد أن يكون التنفيذ داخلاً في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية، قد أريناك فسادها، وأنها كلمة هو قائلها، فلا العقل يمنع من أن يؤمر الرسول بالتبليغ والتنفيذ، ولا الأمر بإبلاغ شريعة يمنع بطبيعته من أن يضاف إليه الأمر بتنفيذها.