الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة، وبهم قُهر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر
…
ولو قدر أن بعض الناس كان كارهاً للبيعة، لم يقدح ذلك في مقصودها؛ فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة على أنه أحقهم بها (1) ". فقول المؤلف: إن البيعة لأبي بكر قامت على السيف والقوة، إنما هو وليد نظرة عجلى، وسقطُ فكر لا يفرق بين من يستولي على الأمة بخيله ورجله، ومن تبايعه الأمة أو جمهورها، ثم تكون له جنداً وظهيراً.
*
كلمة في سيرة أبي بكر:
قال المؤلف في (ص 92): "كانت دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارها: حماية تلك الدعوة، والقيام عليها. أجل، ولعلها كانت في الواقع ذات أثر كبير في أمر تلك الدعوة، وكان لها عمل غير منكور في تحول الإسلام وتطوره، ولكنها -على ذلك- لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكنت لهم في أقطار الأرض، فاستعمروها استعماراً، واستغلوا خيرها استغلالاً، شأن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار".
نصوغ من سيرة أبي بكر كلمة يتذكر بها القارى": أن ذلك الخليفة الأتقى، إنما كان يعمل لإعلاء كلمة الله، وإقامة شريعته الغرّاء، وإذا نال العرب من وراء هذا العمل مصالح دنيوية، فذلك ما لا يبخس من عمله الصالح نقيراً، ولا يمس نيته الخالصة بسوء.
(1)"منهاج السنة"(ج 1 ص 142).
اعتنق أبو بكر الإسلام عن يقين كفلق الصبح، وإخلاص لا يحوم عليه رياء. أسلم يوم قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الحق، وأولئك القوم الغلاظ الشداد ينغضون إليه رؤوسهم، ويسومون أتباعه سوء العذاب. أسلم يوم لا يخطر في خيال أحد أنه عليه السلام سيكثر تابعوه، ويعتز جانبهم، حتى تكون لهم دولة يخضع لسطوتها الجبابرة.
رمى أبو بكر وطنه وراء ظهره، وهاجر رفيقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم صابراً على مضض الاغتراب، ولم يغترب ليستدرّ عيشاً، أو لينهض من خمول، وإنما هي نفس أشربت إيماناً صادقاً، وتجردت لنصرة الحق وطمس معالم الباطل ما وجدت لذلك سبيلاً.
لا يسع المقام لأن نبحث عن سيرة أبي بكر في عهد النبوة أكثر من أن نقول: إنه هاجر إلى الله بقلب سليم، وكان مثال الزهد في غير بؤس، والحلم في غير ضعف، والعزّة في غير عظمة، وما برح يجاهد في الله حق جهاده إلى أن اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرض الوفاة، وقال لهم:"مروا أبا بكر فليصلّ للناس"(1).
صعدت الروح النبوية إلى الرفيق الأعلى، فأخذت الدهشة من الصحابة مأخذاً اضطربت له الأفكار، ونطقت فيه الألسنة بما لا تنطق به في حال وقار وسكينة، فجاء أبو بكر غيبة قريبة، وخطب بما دل على ثبات جنانه، ورسوخ علمه، فقال:"من كان يعبد محمداً، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت". وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
(1)"صحيح البخاري"(ج 1 ص 132). وكان هذا من أدلة تقديمه للخلافة، فقد قال بعض الصحابة رضي الله عنه:"رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟! ".
مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، ثم تلا قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
فكان له في هذا الموقف حكمة أعادت الحائر إلى يقينه، والمضطرب إلى سكينته.
جاء أبو بكر الخلافة إذ كانت له قدراً، ولم يبسط القوم أيديهم إلى مبايعته ليسوسهم بما يسوس به بعض الملوك رعايتهم من القوانين الوضعية، وإنما قلدوه تلك الرياسة على أن يقودهم بكتاب الله وسنّة رسوله، والاجتهاد الذي يلتئم بأصول الشريعة، وعلى أن يقوم بحراسة الدين، والدعوة إليه بحكمة وعزيمة.
والأدلة على أنه كان يتحرى في أحكامه وسياسته الكتابَ والسنّة مبثوثةٌ في كتب السنّة والآثار، وبالغةٌ في الكثرة إلى أن يحصل بها علم لا تخالجه ريبة. وأقرب مثل لهذا: محاورته لعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة؛ فإنها كانت تدور على فهم حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". ولم يقدِم أبو بكر على قتالهم حتى التمس الحجّة من قوله في الحديث: "إلا بحقها"، وقال:"فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم عليه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد ذكر غير واحد، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني (1) وغيره، إجماعَ أهل العلم على أن الصدّيق أعلمُ الأمة،
(1) منصور بن محمد بن عبد الجبار (426 - 489 هـ = 1035 - 1096 م) من علماء =
وهذا بيّن؛ فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنّة" (1).
وأما حراسته للدين، فمن شواهدها: أمره بجمع القرآن في المصاحف حين استحر القتل بالقرّاء في واقعة اليمامة، وقد كان أولئك الخلفاء يعاقبون من خرج عن الدين، ولو في مسائل العبادات، ومثال هذا: أن عمر بن الخطاب لما ثبت عنده حديث: "إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل" توعّد على عدم الاغتسال من المباشرة الخالية من الإنزال وقال: لا أسمع برجل فعل ذلك، إلا أوجعته ضرباً (2) ".
وأما قيامه بنشر الدعوة وحمايتها، فإن قتاله لأهل الردة لم يكن إلا لتثبيت دعائم الدين، وأخذه في فتح الشام والعراق لم يكن إلا في سبيل الدعاية إلى الإسلام، ورفع لوائه. ومن شواهد هذا: قول أحد رجال الدولة الفاروقية المغيرة (3) بن شعبة لرستم (4) قائد جيش الفرس: "فنحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله ورسوله، وتدخل في ديننا، فإن فعلت، كان لك بلادك: لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت، وعليك الزكاة والخمس، وإن أبيت ذلك، فالجزية، وإن أبيت
= التفسير والحديث، وكان مفتياً في خران، ولد وتوفي بمرو.
(1)
"منهاج السنّة"(ج 1 ص 124).
(2)
"إعلام الموقعين"(ج 1 ص 47) طبع سنة 1343 هـ.
(3)
المغيرة بن شعبة بن أبي عامر (20 ق. هـ - 50 هـ = 603 - 670 م) صحابي، ومن القادة والولاة. ولد في الطائف، وتوفي بالكوفة.
(4)
قائد فارسي انهزم في معركة القادسية (14 هـ = 635 م) أمام الصحابي القائد العربي سعد بن أبي وقاص.
ذلك، قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك (1) ". وهذه سيرة أبي بكر وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الجزية.
وإذا كان أبو بكر وغيره من الخلفاء الراشدين، يتحرى مقاصد الشريعة، ويسوس الأمة بأصولها، ويحرس الدين من أن تعبث به يد الجهالة أو الأهواء، ويقوم على أمر الدعاية جهد استطاعته، فذلك معنى كون دولته إسلامية، وذلك معنى الخلافة، ولكن بعض الناس لا يفقهون.
يقول المؤلف: "لا تخرج عن أن تكون دولة عربية أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب
…
إلخ".
الذي وقع أن أولئك الخلفاء رفعوا منار الإسلام حتى ضربت أشعته في قلوب أمم كثيرة، وليس من السهل على المؤلف أن يضع على فم التاريخ كمامة، وينكر خدمتهم للإنسانية، وإنقاذهم لتلك الأمم من عماية في العقائد، وسماجة في العادات، وجهالة بطرق السياسة الرشيدة، وإذا انجرّت إلى العرب مصالح، وتمكنوا في أقطار الأرض، فذلك من أثر قيامهم بالدعوة إلى الدين الحنيف، واعتصامهم بحبل شريعته الحكيمة؛ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].
ولم يسعَ أولئك الخلفاء لترويج مصالح العرب، ولا للتمكين لهم في الأرض، فإن من يزهد في الدنيا زهدَ أبي بكر وعمر، فيقنع منها بالثوب المرقع، والرغيف الخشن، ويعود إلى منزله بضواحي المدينة ماشياً على
(1)"تاريخ ابن جرير"(ج 4 ص 139).
قدميه، وهو قادر على أن يتمتع بملاذها كما تتمتع الملوك، لا تحمل مساعيه إلا على مقصد أسمى وأشرف من خدمة القومية وحدها، وهو امتثال ما أمر الله به من مدِّ ظلال هذا الدين حتى لا تكون فتنة.
وهذا عمر بن عبد العزيز -الذي كان ينسج في سياسته على منوال الصدّيق والفاروق- كتب إليه عدي بن أرطاة (1) يقول له: "إن الناس قد كثروا في الإسلام، وخفت أن يقل الخراج"، فكتب إليه عمر:"فهمت كتابك، والله! لوددتُ أن الناس كلهم أسلموا، حتى أكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا (2) ".
فالمؤلف يريد أن يقبض روح الإخلاص من سيرة الخلفاء الراشدين، ويبخس أعمالهم الجليلة قيمتها. وإذا التقت الضمائر النقية بالتاريخ الصحيح، يحدثها بأن أولئك السراة رفعوا لواء الحق، وجدعوا أنف الباطل، فجعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وكانوا واسطة عقد القوم المصلحين.
قال المؤلف في (ص 93): "كان معروفاً للمسلمين يؤمئذٍ: أنهم إنما يقدمون على إقامة حكومة مدنية دنيوية. لذلك استحلوا الخروج عليها، والخلاف لها، وهم يعلمون أنهم إنما يختلفون في أمر من أمور الدنيا، لا من أمور الدين، وأنهم إنما يتنازعون في شأن سياسي لا يمس دينهم، ولا يزعزع إيمانهم".
الاختلاف في المسائل العلمية ينشأ من اختلاف الآراء فيما يصلح،
(1) عدي بن أرطاة الفزاري (
…
- 102 هـ =
…
- 720 م) من الولاة الشجعان، ومن أهل دمشق، وقتله معاوية بن يزيد في واسط.
(2)
"سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن الجوزي (ص 99).
أو فيمن يليق، فقد يتفق الناس على أن الرياسة العامة غير منفصلة عن الدين، ويختلفون في تعيين من يتولاها وكفايته لها اختلافاً ناشئاً عن تفاوت في النظر، أو هوى في النفس. ومن شأن المؤمنين التنافسُ فيما يكون عمله أشق، وثوابه عند الله أوفى، فلا عجب أن يقع التنافس في الخلافة، أو لا يرضى أحد عن ولاية شخص بعينه، مع اتفاقهم جميعاً على أنها سياسة ذات صبغة دينية.
قال المؤلف في (ص 94): "وما زعم أبو بكر ولا غيره من خاصة القوم أن إمارة المسلمين كانت مقاماً دينياً، ولا أن الخروج عليها خروج على الدين".
ربما لم يخطر على بال أحد التردد في أن إمارة المسلمين مرتبطة بالدين حتى يحتاج أبو بكر إلى التصريح بذلك، ومع هذا، فإن خطبته التي ألقاها في مشهد المبايعة العامة ناطقة بهذا المعنى؛ إذ يقول فيها:"لا يدعْ أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيعُ الفاحشة في قوم، إلا عمّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم (1) ". فقد آذنهم بأنه سيجاهد في سبيل الله، ولا معنى لإطاعته الله ورسوله إلا اقتداؤه بما جاء في الكتاب والسنة من آداب وأحكام.
والخروج على الخليفة بغير حق يعد في نظر الشارع معصية، ولا يسمّى خروجاً على الدين، إلا إذا صح أن يقال لكل مرتكب جريمة: إنه خارج على الدين، وهم لا يقولونه إلا لمن يرتكب المعصية على عمد واستحلال.
(1)"تاربخ ابن جرير"(ج 3 ص 203).