الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العائدة إلى شؤون الدولة، إلا ما كان منوطاً بعلّة، فزالت، وخلفتها فيه علة أخرى، على ما سنبينه في غير هذا المقام بياناً شافياً.
فاستخفاف المؤلف بذهاب الباحث إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولاً ملكاً، وقوله: إن ذلك ليس بدعاً في الدين، ولا شذوذاً عن مذاهب المسلمين، ما هو إلا افتيات على الإسلام، ومن ذهب إلى أن الرسول لم يكن مدبراً لشؤون السياسة، فقد نبذ كتاب الله وراء ظهره، وشاقق الرسول، واتبع غير سبيل المؤمنين.
*
بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر):
ذكر المؤلف أن الرسالة غير الملك.
ثم قال في (ص 49): "ولقد كان عيسى بن مريم عليه السلام رسول الدعوة المسيحية، وزعيم المسيحيين، وكان مع هذا يدعو إلى الإذعان لقيصر، ويؤمن بسلطانه، وهو الذي أرسل بين أتباعه تلك الكلمة البالغة: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" وكان يوسف بن يعقوب عليه السلام عاملاً من العمال في دولة الريان بن الوليد، فرعونِ موسى، ومن بعده كان عاملاً لقابوس ابن مصعب".
أتى المؤلف بهذه المقدمة ليضع في ذهن القارئ تمثيل رسول الإسلام بعيسى ويوسف عليهما السلام في أن كلاً منهم لم يكن صاحب دولة، ولا رئيساً أعلى في السياسة. والذي يبطل هذا التمثيل: أن رسول الإسلام لم يدعُ إلى الإذعان لقيصر، ولا كان عاملاً للمقوقس (1) صاحب مصر، بل
(1) أطلق العرب اسم المقوقس على حاكم مصر البيزنطي لما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر.
دعاهما إلى الإيمان به، والدخول تحت سلطانه، وقد شاء ربك أن يكون انقراض دولتهما، ودخولُ مملكتهما تحت راية الإسلام على يد أحد خلفائه الراشدين.
لم يرض محمد بن عبد الله عليه السلام أن يقيم تحت سلطان غير سلطان الله، ولم يرض لمعتنقي دينه الحنيف أن يستكينوا لسلطة غير إسلامية، وفرضُ الهجرة والجهاد على ما نقول شهيد. وما ينبغي للمؤلف أن يحشر في غضون كتابه مثل هذه الكلمة التي تقضي حاجة في نفس المخالف المتغلب، وتبقي في النفوس أثر الاستكانة إلى أي يد تقبض على زمامها.
ولقد قلنا فيما سلف: إن هذه المقالة التي يعزوها إلى المسيح عليه السلام لا تجد في المناظرة أذناً صاغية؛ إذ لم نعلم السند الذي ينتهي بها إلى المسيح عليه السلام، علاوة على أن الإسلام شرع الهجرة والجهاد، وأبى لأتباعه إلا أن يلوذوا بالمنعة والعزّة التي ليس بعدها مرتقى.
قال المؤلف في (ص 50): "فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم ممن جمع الله له بين الرسالة والملك، أم كان رسولاً غير ملك؟ لا نعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه بحسب ما أتيح لنا، ولكنا قد نستطيع بطريق الاستنتاج أن نقول: إن المسلم العامي يجنح غالباً إلى اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ملكاً رسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسة مدنية كان هو ملكها وسيدها".
إن كانت لكتاب المؤلف مزية، فهي أنه يعلّم الناس كيف يتنكرون لما عرفوا، وكيف يتخذون من الصفاقة برقعاً كثيفاً، رأى أهلَ العلم يتحامون
أن يلقبوا الرسول عليه السلام بالملك، أو يسمّوا رياسته ملكاً، فاتخذ ذلك ذريعة لما يخادع به قراء كتابه من أن المسألة صالحة لأن تدخل تحت طائلة البحث، وأنه ما وجد فيها للعلماء رأياً صريحاً، ولا وجد من تعرض للكلام فيها.
لم يخطر على بال أولئك العلماء أن الأيام سيجيئها المخاض، فتضع في بيوت المسلمين وليداً يقال له:"كتاب الإسلام وأصول الحكم" حتى يُعِدّوا له ما استطاعوا من التصريح بأن الرسول عليه السلام كان ملكاً، وأن بجانب نبوته سياسة يقال لها: ملك.
ولا أدري لماذا لم تخطر على بالهم هذه النادرة، وهم كثيراً ما يفصلون أحكاماً لصور لم تجر العادة بوقوعها، ولعلهم لم يذهلوا عن مثلها، ولكنهم حسبوا أن القرآن والسنّة النبوية المتواترة، وبحثهم في الخلافة صريحة في أن للنبي رياسة سياسية، وأن هذه الصراحة تمنع من ينتمي للإسلام -وهو يحمل قلباً يفقه- أن يقول: لا نعرف لأحد من العلماء رأياً صريحاً في ذلك البحث، ولا نجد من تعرض للكلام فيه.
على أن العلماء يتعرضون لهذه الرياسة السياسية في بحث الخلافة، وفي غير بحث الخلافة، ولم يفتهم إلا أن يسمّوها: ملكاً، واختاروا أن يسموها: القضاء والإمامة؛ كما صنع الإمام شهاب الدين القرافي في: الفرق السادس والثلاثين (1). بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة.
(1) كتاب "الفروق"(ج 1 ص 249) طبع تونس.
ومن حذقِ المؤلف في الخلابة (1) أن جعل كون النبي عليه السلام ذا رياسة سياسية، مما يعتقده المسلم العامي، قال هذا، وهو إنما يقصد تنفير قارئ كتابه من أن يكون بمنزلة العامة حيث يشاركهم في هذه العقيدة.
قال المؤلف في (ص 50): "ولعله أيضاً هو رأي جمهور العلماء من المسلمين، فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام في شيء يتصل بذلك الموضوع، يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية، ودولة أسسها النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام ابن خلدون ينحو ذلك المنحى؛ فقد جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا شاملةً للملك، والملك مندرج تحتها".
يزعم المؤلف: أن العلماء لم يصرحوا بدخول الرياسة السياسية في وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو رأي العامة من المسلمين، وبعد أن فرغ من طريقته الشعرية، قال -كأنه لا يزال في تردد من كونه رأي أهل العلم -: ولعله أيضاً هو رأي جمهور أهل العلم
…
إلخ.
يؤكّد لك أن المؤلف اتخذ من اسم "ملك" نافقاء (2) يخرج منها إلى حيث يشاء: أنه قرأ ما يقوله العلماء في الخلافة من أنها نيابة عن الرسول عليه السلام في إقامة الدين وسياسة الدنيا، ولم يأخذ نفسه إلى الاعتراف بأن هذا صريح فيما يعتقدونه لمقام الرسالة من الرياسة السياسية، ونأى بجانبه عن هذا كله؛ حيث لم ينطقوا بكلمة: مُلْك، أو مَلِك، وإنما تعرض
(1) الخلابة: الخديعة برقيق الحديث. وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "إذا بايعت، فقل: لا خلابة".
(2)
النافقاء: إحدى حجرة اليربوع، يكتمها، ويظهر غيرها، وهو أصل النفاق.