الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضرب المثل لهذين المذهبين بمذهبي "هبز" الألماني، "ولوك" الإنكليزي.
*
مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة:
افتتح صاحب الكتاب البحث بحكاية كلمات وردت في تعريف الخلافة، وهي قول الشيخ عبد السلام (1):"رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقول البيضاوي (2): "الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة القوانين الشرعية، وحفظ حوزة الملة".
وقول ابن خلدون (3): "الخلافة هي: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها".
ثم أخذ ينحت في تفسير هذه الكلمات جملاً تشعر - بما انطوت عليه من غلو وإسهاب -: أن منشئها سيتخذها سلّماً لدعوى إفراط المسلمين في إكبار مقام الخليفة، وتوسيع سلطته.
وإليك نبذة من هذه الجمل ذات الكلمات المطلقة، والمعاني المكررة:
(1) عبد العزيز بن عبد السلام (577 - 660 هـ = 1181 - 1262 م) فقيه شافعي، ولد بدمشق، وتوفي بالقاهرة.
(2)
عبد الله بن عمر البيضاوي (
…
- 685 هـ =
…
= 1286 م) مفسر، قاض، ولد في المدينة البيضاء قرب شيراز بفارس، وتوفي بتبريز. من مؤلفاته:"أنوار التنزيل وأسرار التأويل" المعروف بتفسير البيضاوي.
(3)
عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون (732 - 808 هـ = 1332 - 1406 م)، ولد بتونس، وتوفي بالقاهرة، عالم اجتماعي له مؤلفات عديدة أشهرها:"العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر".
قال المؤلف في (ص 3): "فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل".
ثم قال: "وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها؛ لأنه نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سما إلى مقامه، فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر".
شغل المؤلف مقدار صحيفتين أو أزيدَ بتكرار معان تعدّ من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد؛ ليلمح بتأكيد إلى أن المسلمين يقررون لمقام الخلافة سلطاناً ومكانة فوق ما يستحقه رئيس حكومة عادلة، ثم هو لم يقف في بيان عبارات أولئك العلماء على حد ما تحتمله ألفاظهم؛ كما هو شأن طلاب الحقيقة بإنصاف، بل أخذ يرمي الكلم على عواهنه، ويعدل عن الألفاظ المطابقة إلى غيرها من الألفاظ التي ربما قدحت في الذهن معاني غير صحيحة.
فعلماء الإِسلام يقولون: تجب طاعة الخليفة فيما يأمر به من معروف. والمؤلف يقول: له عليهم الطاعة التامة، فيحذف ما اشترطوه للطاعة من الاقتصار بها على المعروف، ويضع بدله كلمة تذهب بها إلى أن تتناول الطاعة العمياء.
وهم يقولون: "يجب أن يكون مكرماً بين الناس -أي: غير مهان-؛ ليكون مطاعاً"(1). والمؤلف يقول: وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها! فيصرف القلم عن تعليلهم الذي يأخذ به المعنى قوة الحقائق، ويضع مكانه لفظ الشمول الذي يذهب بنفس القارئ إلى أقصى غاية.
(1)"مطالع الأنظار"(ص 470) طبع الآستانة.
وهذا النوع من التصرف في أقوال أهل العلم مما يغمز في أمانة صاحبه. وقد يغمض عنه الطرف في المقالات الأدبية، أو في مقام الوعظ، أما الباحث في العلم، فإنه حقيق بأن يؤاخذ به، وبالأحرى حيث يكون بصدد بيان رأي أو حكم انتصب لمناقشته أو نقضه.
وأعجب من هذا قوله بعد: لأنه نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عند المسلمين مقام أشرف
…
إلخ؛ فإنه ساق هذه الكلمة مساق التعليل لما عزاه إلى المسلمين في حق الخلافة، ومقتضى نسج الكلام: أن المسلمين يرون أن الخليفة بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر. وهذه الكلمات إنما هي من مصنوعات قلم المؤلف، وعليها طابع مبالغته الشعرية. والميزان الذي يرجع إليه المسلمون في المفاضلة بين البشر إنما هي الأعمال الصالحة المشار إليها بقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فمنزلة القائد الخطير ينقذ الأمة من سطوة عدو هاجم، والعالم الحكيم يحميها من ضلالات مبتدع خليع، هي أسمى في نظر المسلمين من صف له الخليفة إذا لم يكن له من العمل ما يساوي عملهما في عظيم الأثر، وشرف الغاية.
ولم يزد أولئك العلماء أن قالوا في الخليفة: إنه نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يقتضي أن يقال: سما إلى مقام رسول الله عليه السلام وبلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. ولو جرينا على هذا الضرب من الاستنتاج، لقلنا: قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فداود عليه السلام سما إلى مقام الألوهية، أو بلغَ الغاية التي لا مجال فيها لمخلوق. وهذا الضرب من الاستنتاج باطل بالبداهة، فليكن ما صنعه المؤلف خارجاً عن الأقيسة الصادقة.