الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحوال البلاد في عهد الرسالة مما يأبى العقل سماعه؟
كل ذلك لم يكن، ولكنه يبتغي مرضاة قوم لا يؤمنون، وتخيل أنه بلغ في البيان أن ينكر الحق، فيذهب هباء، أو يشير إلى باطل، فيستقبله الناس باحتفال وتكريم.
قد أريناك أن انتصاب معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب للقضاء، ثابت بأدلة ناطحها قلم المؤلف، فأوهى قرنه قبل أن يوهنها، وإن شئت زيادة تحقيق في الموضوع، فلدينا مزيد:
*
القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء:
عني الإسلام بوسائل العمران، وأركان الدولة، وبالأحرى: مقام الفصل فيما شجر بين الناس، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم لا يترك قوماً دخلوا في الإسلام إلا أمَّر عليهم من يسوسهم بأحكام شريعته.
وقد عرفنا في تاريخ عهد النبوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقلّد شخصاً الإمارة، ويكون له النظر في الحكم بين الناس، وتعليمهم شرائع الإسلام، وقبض صدقاتهم، وغير ذلك مما يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان حاضراً.
قال الحافظ ابن تيمية في "منهاج السنة"(1): "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولي الأمراء على السرايا، يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمّر أمراء على الأمصار؛ كما أمّر عتاب ابن أسيد على مكة
…
وكما كان يستعمل عمالاً على الصدقة، فيقبضونها ممن تجب عليه، ويعطونها لمن تحل له". فانظر في قوله: "الأمراء على
(1)(ج 4 ص 93).
السرايا"، وقوله: "أمراء على الأمصار"، وقوله: "عمالاً على الصدقة"؛ فإنه يطعن في قول المؤلف: إن الأمراء إنما كانوا غزاة، أو عمالاً على المال.
وقال ابن حزم في "كتاب الفصل في الملل والنحل"(1): "وقد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلّد النواحي، وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم أفضل منهم (2)، فاستعمل على أعمال اليمن معاذ ابن جبل، وأبا موسى، وخالد بن الوليد
…
".
وقد نقلنا لكم آنفاً قول الحافظ ابن حجر: "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمِّر عليهم".
وإذا كان المؤلف لا يلقي قلبه إلا بين يدي "أرنولد"، فإن أرنولد ومن معه يقولون في "دائرة المعارف الإسلامة" (3):"يجب أن يكون القاضي مسلماً عادلاً، عالماً بجميع أحكام الشرع". ثم قالوا: "فالنبي صلى الله عليه وسلم والراشدون كثيراً ما فصلوا في خصومات بصفتهم قضاة، كما جرى على ذلك الأمراء والحكام الموفدون من قبلهم إلى المقاطعات الإسلامية".
ولا يعدّ قيام الأمير بفصل القضاء، وتنفيذ الأحكام، وغير ذلك من شؤون الولاية أمراً شاقاً؛ فإن وسائل العمران من مثل: الفلاحة، والصناعة، والتجارة لم تكن ظاهرة في البلاد التي فتحت زمن النبوة بهذا المظهر الواسع، حتى تكثر الخصومات والمنازعات لحد أن يعين لها قضاة شرعيون زيادة
(1)(ج 4 ص 136).
(2)
يريد: أن الأفضلية لا تقتضي الإيثار بالولاية، بل يقدم كل عمل من فيه كفاية للقيام به.
(3)
في: الكلام على القاضي (ص 606).
على الأمراء السياسيين.
يقول المؤلف: "ولم يكن شيء من ذلك مفرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود"، وهذا مسلّم في أمراء السرايا، وأما أمراء البلاد، فإن ولايتهم كانت دائمة.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "فأما أمراء السرايا والبعوث، فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاك تلك الغزوة، وأما أمراء القرى، فإنهم استمروا فيها".
قال المؤلف في (ص 45): "إذا نحن تجاوزنا عمل القضاء والولاية إلى غيرهما من الأعمال التي لا يكمل معنى الدولة إلا بها؛ كالعمالات التي تتصل بالأموال، ومصارفها "المالية"، وحراسة الأنفس والأموال "البوليس"، وغير ذلك مما لا يقوم بدونه أقل الحكومات وأعرقها في البساطة، فمن المؤكد أننا لا نجد -فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة- شيئاً واضحاً، يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون أن نقول: إنه كان نظام الحكومة النبوية".
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأقام بها عشر سنين، أو ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما أذن الله بأن يقيم لهذا الدين دولة تحمي دعوته، وتحرس شعائره، وتدبر سياستها على محور تعاليمه، كان أول لبنة وضعها صلى الله عليه وسلم في أساس هذا الغرض الأسمى: ما أخذه على الأوس والخزرج من عهد البيعة على أن يكونوا أنصاره إلى الله، ثم هاجر إلى المدينة، وواصل العمل بما أوحى الله إليه، حتى اتسقت للإسلام شريعة ذات مبادئ عالية، ونظم حكيمة.
كانت المدة منذ شرع الإسلام في بناء دولة تحرس دعوته وشعائره،
وتعمل لإسعاد أهله إلى أن انتهى عهد الرسالة، نحو عشر سنين.
ماذا فعل محمد بن عبد الله - صلوات الله عليه - في عشر سنين، تلك المدة التي قضى المؤلف مثلها بالتفكير في منطق، يميت شريعة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء؟
رأينا وسمعنا أن الحكومات إذا دخلت في عهد حرب، أفرغت مهجتها في تدبر وسائل الدفاع من جند وسلاح ونصب مكايد، وتذهل عن الشؤون المدنية والعلمية، فلا تكاد ترى لهما أثراً من نظم العلم والسياسة إلا ما كان قائماً قبل دخولها في مواقع الحروب، ولا سيما حيث يكون عددها أوسع بلاداً، وأكثر قبيلاً. هذا شأن الدول العريقة في الحكم والقوة التي تكون سلطتها وسياستها موزعة على نفوس كثيرة من قائمين بالسلطة التشريعية، إلى قائمين بالسلطة التنفيذية، ومن وزارة داخلية إلى خارجية إلى حربية إلى مالية، فكيف يكون حال جماعة قليلة ظهروا بعقيدة وشريعة خالفوا بهما القبائل والأمم التي تكتنفهم من كل جهة؟
كان ذلك الرسول الأعظم مظهر السلطة التشريعية، ومصدر السلطة التنفيذية. فالحكمة تجري على لسانه، ودم النفوس الخبيثة يجري على سنانه، يرسل الموعظة الحسنة تحت مثار النقع، ويسنّ القانون العادل وهو يقاتل وحوشاً غابُها الرماح، ولقد كان في تشريعه الحكيم، أو عزمه النافذ عبرة لأولي الألباب.
دولة بنتُ عشر سنين فتحت بلاداً واسعة، ونشرت تعاليم نافعة، وشرعت قوانين جامعة، إن في قصر المدة التي استحكم فيها أمر هذه الدولة لآية كبرى، ولكن المواربين بآيات الله يجحدون.