الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشريعة كتاباً وسنّة، وعمّا كان عليه السلف الصالحون، وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى".
هذا أحد نصوص علماء الإسلام المتعاقدة على أن الشريعة محفوظة، لم يترك الرواة شيئاً من أصولها، ولم يغب عن الباحثين بحق علمُها.
*
معنى كون الدين سهلاً بسيطاً:
ثم بدا للمؤلف أن يلتمس جواباً آخر عن "ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام، أو اضطراب، أو نقص، أو ما شئت فسمّه"، فأملى عليه خياله أن أنظمة الدولة التي هي إصلاحات عارضة، وأوضاع مصنوعة لا تلائم بساطة الدين وبعده عن التكلف. وبعد أن أسهب في هذا المعنى، وحشر فيما يزيد على صحيفتين كلاماً متشابهاً وغير متشابه، وصفه بعدم الوجاهة والصحة.
وقال في (ص 62): "حق أن كثيراً من أنظمة الحكومة الحديثة أوضاع وتكلفات، وأن فيها ما لا يدعو إليه طبع سليم، ولا ترضاه فطرة صحيحة، ولكن من الأكيد الذي لا يقبل شكاً أيضاً: أن في كثير مما استحدث في أنظمة الحكم ما ليس متكلفاً ولا مصنوعاً، ولا هو مما ينافي الذوق الفطري البسيط، وهو مع ذلك ضروري ونافع، ولا ينبغي لحكومة ذات مدنية وعمران أن تهمل الأخذ به. وهل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع -مثلاً- أن لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد إيرادها ومصروفاتها، أو أن لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شؤونها الداخلية والخارجية، إلى غير ذلك -وإنه لكثير-، مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، إنه ليكون
تعسفاً غير مقبول أن يعلل ذلك الذي يبدو من نقص المظاهر الحكومية زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن منشأه سلامة الفطرة، ومجانبة التكلف".
لم يجئ في الشريعة تكليف بما لا يطيقه الإنسان قطعاً، ولا بما يطيقه وفيه مشقة فادحة؛ بحيث يتبرم منه ذو الفطرة السليمة، وينقطع دون المواظبة إعياء وكللاً. وأما ما فيه مشقة، عُهد من الناس احتمال أمثالها؛ بحيث يصبح بالاعتياد عليه كالأعمال التي تنساق إليها النفوس بطبيعتها، فهذا ما لا تتحاماه الشريعة، بل تأمر بما فيه مثل هذه المشقة، لا قصداً للإعنات، بل نظراً إلى ما يترتب على العمل من مصلحة في هذه الحياة، أو في تلك الحياة.
فسهولة الدين من حيث إنه وضع تكاليف يسهل على الناس القيام بها متى خففوا من طغيان الأهواء، وتدبروا في حكمة هذه التكاليف وحسن عاقبتها. وبهذا يتضح جلياً أن سهولة الدين تلتئم مع الحقائق العائدة إلى أصول الحكم، اْو نظم السياسة.
وأما بساطته، فمن جهة أنه خرج للناس في صورة موجزة جامعة، قال صلى الله عليه وسلم:"بعثت بجوامع الكلم"(1)، ومعناه: أن شريعته جاءت بأقوال ذات ألفاظ وجيزة، ومعان واسعة، فِلوَجازتها يسهل حفظها، ولسعة معانيها كانت الحقوق والآداب ماثلة في تعاليمها، مأخوذة من جميع أطرافها.
ولهذه البساطة كان النبوغ في علوم الشريعة، والبلوغ فيها إلى مكانة الاجتهاد والإفتاء ليس بالأمر الذي يحتاج إلى زمن طويل، متى كان أسلوب
(1)"صحيح البخاري".
تعليمها وتلقيها بنظام. ولا أضرب المثل بالعصر الأول يوم كانت وسائل العلم بها من لغة ونحو وبيان مطوية في ألسنة القوم فطرة، بل أضرب المثل بالعصور التي أصبحت فيها هذه الوسائل علوماً تدرس كما يدرس التفسير والحديث، والعقائد.
بلغ حجّة الإسلام الغزالي في العلم مكاناً عالياً، وصار من الأعلام المشار إليهم بالبنان في عهد أستاذه إمام الحرمين، وعمره يوم توفي إمام الحرمين نحو ثمان وعشرين سنة.
وتلقى القاضي أبو بكر بن العربي مبادئ العلوم بالأندلس، ثم رحل إلى المشرق، وقد أدرك السابعة عشرة من عمره، فدخل مصر والحجاز والشام والعراق، ثم انصرف بعد ثمانية أعوام وهو بحر في علوم الشريعة، إمام في فنون اللغة العربية، حتى قالوا: إنه قدم الأندلس بعلم غزير لم يدخل أحد قبله بمثله.
ولا أطيل في ضرب الأمثلة من أنباء الرجال الذين دخلوا في زمرة العلماء الراسخين، وامتلأت الحقائب من نفائس تحريراتهم، وهم لا يزالون في عهد شبيبتهم، فإن الغرض بيان معنى بساطة الدين، وكون أصوله تحمل أحكاماً وآداباً لا يحيط بها حساب.
والبساطة بهذا المعنى من مزايا الإسلام، ودلائل نبوة المبعوث به، ولكن المؤلف يقلب الحقائق، أو تنقلب في نظره الحقائق، فلم يقدر هذه البساطة حق قدرها، ونزع إلى إنكار أن يكون الإسلام شريعة وسياسة، بدعوى أنه أهمل ما ينبغي للحكومات من أركان وأنظمة. وقد كان بعض الغربيين من غير المسلمين أصفى خاطراً، وأقربَ إلى الإنصاف منه؛ حيث شهدوا للإسلام
بهذه المزية؛ كما قال (أرغوهارت) في كتاب "روح الشرق"(1):
"إن الإسلام منح الناس قانوناً فطرياً بسيطاً، غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقي المدنية المادية. إنه منح الحكومة دستوراً يلائم الحقوق والواجبات البشرية أشد الملاءمة، فقد حدد الضرائب، وساوى بين الخلق في نظر القانون، وقدس مبادئ الحكم الذاتي، وأوجد الرقابة على الحاكم؛ بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية.
إن حسن كل واحد من هذه المبادئ التي يكفي كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه، قد ضاعف في أهمية مجموعها، وأصبح للنظام المكون منها قوة ونشاط تفوق أي نظام سياسي آخر.
إن هذا النظام، مع أنه وضع في أيدي قوم أميين، استطاع أن ينتشر في ممالك أكثر مما فتحته روما، في عهد لا يتجاوز عمر الفرد، ولقد استمر منتصراً لا يمكن إيقافه، مدة محافظته على شكله الفطري".
هذا ما يقوله غير المسلم، وذلك ما يقوله القاضي الشرعي (2)، وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب
…
يقول المؤلف: "إلى غير ذلك مما لم يوجد منه شيء في أيام النبوة، ولا أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
إن القارئ ليبتسم لهذه الجملة عجباً، بل يتمزق لها قلبه أسفاً؛ فإن
(1)(ج 1 ص 38). وهو منقول في كتاب"روح الاسلام" لأمير علي (ص 277).
(2)
إشارة إلى علي عبد الرازق باعتباره كان قاضياً شرعياً.
هذه المقالة إن صح أن تخرج من فم عالم، فإنما تصدر من حافظ حجة خاض في علم السنّة، وعرف الصحيح والضعيف والموضوع، ونقد الأسانيد بقانون علمي مستقيم، ولكن المؤلف لم يزل في طبقة من ينقلون الأحاديث من "الكامل" للمبرد (1)، وأصحاب هذه الطبقة لا يدخلون في حساب علماء الشريعة، وإن وضعوا على رؤوسهم عمائم، وجلسوا مجلس الفتوى أو الحكم بين الناس.
* * *
(1) انظر كتابه: (سطر 13 ص 60).