الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة:
يقول المؤلف: "وباسم الدين خدعوهم، وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعاً، حتى في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة".
هذا كله رجم بجهالة، ورمي بسهام خاسئة؛ فإن القوانين التي يفصل بها بين المتخاصمين، لا مرجع لها سوى أصول الدين، مع مراعاة مقتضيات الأحوال. وأما الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة، فشرطُ الدين فيها: أن تكون دائرة على المصلحة، ملائمة للآداب التي شرعها، أما الطرق التي تؤخذ لاتباع الأصلح واللائق، فإنها موكولة إلى نظر أولي الأمر، فيستنبطونها من عقولهم أو تجاربهم، أو يقتدون فيها بصنيع غيرهم، وهذا هو المبدأ الذي يعرفه العلماء، ويسير عليه خلفاء الإسلام وملوكه، غير أنهم يتفاوتون في القيام عليه، فمنهم من يمشي فيه على صراط سويّ، ومنهم من يخلّ به في بعض تصرفاته، فينحرف عنه إلى اليمين أو إلى اليسار.
ومجمل القول: أن انسياب المؤلف في الطعن على خلفاء الإسلام وملوكه بهذه اللهجة التي قرأتم أو سمعتم، أوضح مثال، وأصدق شاهد على أنه لا يكتب عن علم وروية وأمانة، بل يكتب عن شهوة وعاطفة غير إسلامية، وغير عربية.
*
الخلافة والقضاء من الخطط الدينية السياسية:
قال المؤلف في (ص 103): "والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلّا، ولا القضاء، ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها،
ولم ينكرها، ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا؛ لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة".
أتى المؤلف بهذه الكلمات كالنتيجة للأبواب التسعة، وما حشاها به من شبه ومزاعم، وقد نبهنا على منشأ هذه الشبه والمزاعم، فتخاذل أمرها، وذهبت جُفاء.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على ما حاول الطعن به في أدلة الخلافة، وقد عرفت أن الخلافة من الأحكام العملية التي يكتفى فيها بدلالة حديث، أو قاعدة، أو إجماع، وقد قامت هذه الأدلة الثلاثة: السنّة، والقواعد، والإجماع على وجوب نصب الخليفة، فكانت الخلافة ثابتة بما يفيد علماً قاطعاً.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولّ على الناس من يقوم بالحكم فيما ينشب بينهم من الخصومات. وقد سقنا إليكم الروايات الصحيحة على أن القضاء كان داخلاً فيما يناط بعهدة الأمراء، وأن من الروايات ما نُصّ فيه على القضاء باسمه الخاص؛ كحديث علي، وعمر، ومعاذ رضي الله عنه.
ينى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلّغ فقط، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاء به، وقد فندنا هذا الزعم تفنيداً بما أقمناه من الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرشداً واعظاً، وإماً منفذاً، وأن التنفيذ داخل في وظيفته السماوية، وأنه كان ينفذ الأحكام عملياً، ومما جاء في "صحيح البخاري" (1): والله! ما انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه قط حتى
(1)(ج 8 ص 160).
تنتهك حرمات الله، فينتقم الله".
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن ما شرعه الإسلام من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء قليل ولا كثير من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وأنه لا يبلغ أن يكون جزءاً يسيراً مما يلزم لدولة مدنية. وقد أريناك أن قواعد الإسلام وأنظمته قائمة على رعاية المصالح التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، فيصيبونها تارة، ويخطئونها تارة أخرى، وأن الواقف على روح التشريع الإسلامي يرى عين اليقين أنه يوافق طبيعة كل زمان ومكان، وأنه لا يهمل مصلحة يقتضيها حال شعب من الشعوب، ولكن المؤلف"من أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة"، ولقد كان علمه بأساليب الحكم السياسي وأنظمة الدول المدنية يشابه علمه بانظمة الإسلام وقواعده وآدابه. ولكون بضاعته في العلم والسياسة مزجاة، خرج كتابه مزيجاً من آراء دينية، وأخرى سياسية؛ فابتسم من نوادرها رجال العلم ازدراء، ونغض إليها السياسيون برؤوسهم هزءاً.
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على زعمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر إلى أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه. وقد عرفت أن أحاديث الخلافة وغيرها؛ كحديث خطبة الوداع:"ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعواله، وأطيعوا (1) ". ثم وردت آيات الأحكام في صيغ العموم؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، كل ذلك يدل على أنه جاء بشريعة يرجع إليها المسلمون في حكومتهم بعده، كما كان صلى الله عليه وسلم يسوسهم بها في حياته.
(1)"صحيح مسلم"(ج 6 ص 10).