المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر رضي الله عنهم القضاء: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٩/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(15)«نَقْضُ كِتَابِ الإسْلامِ وَأصُوْلِ الحكمِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة للإمام محمّد الخضر حسين

- ‌الكتاب الأول

- ‌الباب الأول

- ‌ ملخص الباب:

- ‌ مناقشة المؤلف في جمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يتغالون في احترام الخليفة:

- ‌ بحث في قولهم: طاعة الأئمة من طاعة الله:

- ‌ بحث في قولهم: النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به:

- ‌ بحث في قولهم: السلطان ظل الله في الأرض:

- ‌ مناقشة المؤلف في زعمه: أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله:

- ‌ من أين يستمد الخليفة سلطته

- ‌ مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء:

- ‌ الفرق بين مذهب (هبز) وحق الخليفة في الإِسلام:

- ‌الباب الثانيحكم الخلافة

- ‌ الإجماع على نصب الإمام:

- ‌ التباس حاتم الأصم بحاتم الصوفي على المؤلف:

- ‌ الفرق بين القاعدة الشرعية والقياس المنطقي:

- ‌ ترجيح حمل "أولي الأمر" في الآية على الأمراء:

- ‌ هل نأخذ أحكام الدين عن المستر أرنولد

- ‌ معنى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [

- ‌ لماذا لم يحتج بعض علماء الكلام في مسألة الخلافة بالحديث

- ‌ لماذا وضع بحث الخلافة في علم الكلام

- ‌ بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر):

- ‌الباب الثالثالخلافة من الوجهة الاجتماعية

- ‌ ملخص الباب:

- ‌ المناقشة - بحث في الاحتجاج بالإجماع:

- ‌ الإمام أحمد والإجماع:

- ‌ المسلمون والسياسة:

- ‌ كلمات سياسية لبعض عظماء الإسلام:

- ‌ النحو العربي ومناهج السريان:

- ‌ الإسلام والفلسفة:

- ‌ بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين، وأنها كنت اختيارية:

- ‌ بحث في قوة الإرادة:

- ‌ بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية:

- ‌ نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل:

- ‌ إبطال دعوى المؤلف: أن ملوك الإسلام يضغطون على حرية العلم:

- ‌ عدم تمييز المؤلف بين الإجماع على وجوب الإمامة، والإجماع على نصب خليفة بعينه:

- ‌ وجه عدم الاعتداد برأي من خالفوا في وجوب الإمامة:

- ‌ القرآن والخلافة:

- ‌ السنة والخلافة:

- ‌ الإجماع والخلافة:

- ‌ شكل حكومة الخلافة:

- ‌ وجه الحاجة إلى الخلافة:

- ‌ آثارها الصالحة:

- ‌الكتاب الثانيالحكومة والإسلام

- ‌البَابُ الأَوَّلُنظام الحكم في عصر النبوة

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض - بحث القضاء في عهد النبوة:

- ‌ العرب والسياسة الشرعية:

- ‌ القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان:

- ‌ البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر رضي الله عنهم القضاء:

- ‌ القضاء في عهد النبوة موكول إلى الأمراء:

- ‌ نبذة من مبادئ القضاء في الإسلام وآدابه:

- ‌ المالية في عهد النبوة:

- ‌ لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس

- ‌ احتمال الأذى في سبيل الذود عن الحق:

- ‌البَابُ الثَّانيالرسالة والحكم

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض:

- ‌ الملك

- ‌ الرسول عليه السلام ذو رياسة سياسية:

- ‌ بحث في (أعطوا ما لقيصر لقيصر):

- ‌ الجهاد النبوي:

- ‌ الجزية:

- ‌ المخالفون أنواع ثلاثة:

- ‌ سر الجهاد في الإسلام:

- ‌ خطأ المؤلف في الاستدلال بآيات على أن الجهاد خارج عن وظيفة الرسالة:

- ‌ من مقاصد الإسلام: أن تكون لأهله دولة:

- ‌ تفنيد قول المؤلف: الاعتقاد بأن الملك الذي شيده النبي عليه السلام لا علاقة له بالرسالة، ولا تأباه قواعد الإسلام:

- ‌ التنفيذ جزء من الرسالة:

- ‌ وجه قيام التشريع على أصول عامة:

- ‌ مكانة الصحابة في العلم والفهم:

- ‌ الشريعة محفوظة:

- ‌ معنى كون الدين سهلاً بسيطاً:

- ‌البابُ الثَّالثُرسالة لا حكم، ودين لا دولة (في زعم المؤلف)

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض:

- ‌ المؤلف يُدخل في الإسلام ما يتبرأ منه التوحيد الخالص:

- ‌ الاعتقاد بحكمة الأمر لا يكفي للعمل به:

- ‌ خطأ المؤلف في الاستشهاد بآيات على أن وظيفة الرسول لا تتجاوز حدود البلاغ:

- ‌ خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي:

- ‌ خطأ المؤلف في فهم حديثين:

- ‌ الشريعة فصلت بعض أحكام، ودلت على سائرها بأصول يراعي في تطبيقها حال الزمان والمكان:

- ‌ الاجتهاد في الشريعة وشرائطه:

- ‌ فتوى منظومة لأحد فقهاء الجزائر:

- ‌الكتاب الثالثالخلافة والحكومة في التاريخ

- ‌الباب الأولالوحدة الدينية والعربية

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي:

- ‌ درة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس:

- ‌ التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع:

- ‌ التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين:

- ‌ أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية:

- ‌ لماذا لم يسم النبي صلى الله عليه وسلم من يخلفه

- ‌ بحث لغوي في خلف واستخلف:

- ‌ تحقيق أنه عليه السلام جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده:

- ‌الباب الثانيالدولة العربية

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض:

- ‌ حكومة أبي بكر وسائر الخلفاء الراشدين دينية:

- ‌ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس:

- ‌ أسباب سيادة الإسلام لعهد الخلفاء الراشدين:

- ‌ بيعة أبي بكر اختيارية إجماعية:

- ‌ كلمة في سيرة أبي بكر:

- ‌الباب الثالثالخلافة الإسلامية

- ‌ ملخصه:

- ‌ النقض:

- ‌ أبو بكر لا يخاع الناس بالألقاب الدينية:

- ‌ هل يقال: "خليفة الله

- ‌ الخليفة عند المسلمين غير معصوم:

- ‌ حكم المرتدين في الإسلام:

- ‌ حكم مانعي الزكاة:

- ‌ سبب حروب أهل الردة ومانعي الزكاة:

- ‌ واقعة قتل مالك بن نويرة:

- ‌ محاورة عمر وأبي بكر في قتال مانعي الزكاة:

- ‌ حكمة رأي أبي بكر في تلك الحروب:

- ‌ معنى طاعة الأئمة من طاعة الله:

- ‌ السلطان ظل الله في الأرض:

- ‌ وجه ذكر مسألة الخلافة في علم الكلام:

- ‌ تعسف المؤلف وغلوُّه في إنكار فضل خلفاء الإسلام وملوكه:

- ‌ معنى الرجوع إلى أصول الشريعة في الحكم والسياسة:

- ‌ الخلافة والقضاء من الخطط الدينية السياسية:

- ‌ لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها:

الفصل: ‌ البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر رضي الله عنهم القضاء:

الإمارة على البلاد المفتوحة، لكان في نبئه عبرة لأولي الأبصار، وبينة قائمة على أنه لا يترك القوم في جاهلية عمياء دون أن يأخذهم كما يأخذ أهل المدينة بأحكام شريعته السمحة، ونظمها القيمة.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد يتحاكمون إلى الذي أمّر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه".

*‌

‌ البحث في تولية معاذ، وعلي، وعمر رضي الله عنهم القضاء:

قال المؤلف في (ص 40): "هناك ثلاثة من الصحابة يعدّهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ونقل بعد هذا ما حكاه رفاعة بك (1) في "نهاية الإيجاز"؛ من أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلّد القضاء لعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ ابن جبل.

ثم قال المؤلف: "وينبغي أن يضاف إليهم: أَبو موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فقد كان في عمله على ما يظهر نظيراً لمعاذ بن جبل سواء بسواء". وقال المؤلف بعد هذا: "أما أن عمر رضي الله عنه تقلد القضاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواية غريبة من الوجهة التاريخية، ويظهر أنها إنما أخذت بطريق الاستنتاج".

ثم أورد الأثر الذي استند إليه صاحب "تخريج الدلالات"، ونقله عنه صاحب "نهاية الإيجاز"، وهو ما رواه الترمذي من أن عثمان قال لعبد الله بن عمر: "اذهب فاقضِ بين الناس. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: وما تكره من ذلك، وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إن أبي كان يقضي، فإن

(1) رفاعة رافع الطهطاوي (1216 - 1290 هـ = 1801 - 1873 م) من علماء مصر في العصر الحديث، ولد في طهطا، وتوفي بالقاهرة.

ص: 133

أشكل عليه شيء، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أشكل على رسول الله، سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأله".

فالخبر صريح في أن عمر بن الخطاب كان يتصدى للقضاء في زمن النبوة، ولا يحق بعد قوله:"فإن أشكل عليه شيء، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن يذهب إلى أن تولّي عمر للقضاء كان مفهوماً بطريق الاستنتاج. ثم لا ندري ما وجه الغرابة في تولي عمر بن الخطاب القضاء لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس في يد المؤلف دليل تاريخي أو نظري يمنع من قبول ما رواه الترمذي في "سننه"، وقد تلقى أهل العلم هذا الخبر بالقبول، قال القاضي أَبو بكر ابن العربي في "عارضة (1) الأحوذي":"قول عثمان لعبد الله بن عمر: إن أباك كان قاضياً، يعني: لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن ذلك كان في حياته؛ ولو أراد بذلك الخلافة، لقال له: إن أبي كان خليفة ليس فوقه متعقب عليه، فكيف يحتج به في قضاء متعقب مترقب؟ ".

وليس في التاريخ ما يقف في سبيل هذه الرواية، بل رأينا فيه ما يشد في عضدها، وهو أن عمر بن الخطاب كان يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن سعد في "طبقاته" (2) عن ابن عمر:"أنه سئل: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وما أعلم غيرهما".

وروي عن القاسم بن محمد (3) أنه قال: "كان أَبو بكر، وعمر، وعثمان،

(1) في خزانتنا نسخة مخطوطة منه.

(2)

(ج 2 ص 99).

(3)

القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (37 - 107 هـ = 675 - 725 م) أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة، ولد فيها، وتوفي بقديد بين مكة والمدينة.

ص: 134

وعلي يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال: "كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار: عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت". (1) وقال:"كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر، وعلي، وابن مسعود (2)، وزيد، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري (3) ".

فقول التاريخ: إن عمر بن الخطاب كان مفتياً، يؤيد ما رواه الترمذي من أنه كان قاضياً؛ فإن القضايا التي يقصد برفعها معرفة المحق من غيره يسمّى فصلها: قضاء؛ كما يصحّ أن يسمّى: فتوى، ولم يبق سوى القضايا الناشئة عن التجاحد، وقد عرفت أنها نادرة الوقوع، فالذي يدل على أن لعمر بن الخطاب فصلَ ما كان من هذا النوع في غير حضرة الرسول عليه السلام حديث الترمذي، فيتوافق التاريخ والرواية في تسميته قاضياً ومفتياً.

ومما يستأنس به في هذا المقام: أنهم كانوا يعدون عمر من ذوي المكانة في القضاء، وقالوا:"قضاة هذه الأمة: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى"(4).

(1)(ج 2 ص 109).

(2)

عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي (. . . - 32 هـ =. . . - 653 م) صحابي جليل من أهل مكة، ومن السابقين إلى الإسلام. وتوفي بالمدينة المنورة، وله 848 حديثاً.

(3)

عبد الله بن قيس، من بني الأشعر (21 ق. هـ - 44 هـ = 602 - 665 م) صحابي جليل، ومن الولاة الشجعان. ولد في زبيد باليمن، وتوفي بالكوفة، له 355 حديثاً.

(4)

"إعلام الموقعين"(ج 1 ص 18).

ص: 135

وإن أبا بكر الصديق قلّده القضاء، ومكث سنة لم يتحاكم إليه اثنان (1).

ثم حكى المؤلف ما نقله صاحب "نهاية الإيجاز" عن تخريج الأدلة السمعية؛ من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن، وهو شاب؛ ليقضي بينهم، مستدلاً على ذلك برواية أبي داود (2)، ونقل المؤلف بعد هذا ما جاء في "صحيح البخاري" من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً مكان خالد (3) إلى اليمن ليقبض الخمس، وقدم بسعايته إلى مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم بها. ثم نقل عن برهان الدين الحلبي (4): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً -كرم الله وجهه- في سرية إلى اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وهي السرية الأولى، والسرية الثانية بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً - كرم الله وجهه - إلى بلاد مذحج من أرض اليمن، فغزاهم، وجمع الغنائم، ثم رجع فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قدمها لحجة الوداع.

ثم انتقل إلى الحديث عن معاذ بن جبل، فحكى ما نقله صاحب "نهاية

(1)"منهاج السنة" لابن تيمية (ج 4 ص 138).

(2)

سليمان بن الأشعث الأزدي (202 - 275 هـ = 817 - 889 م) إمام الحديث في عصره. أصله من سجستان، وتوفي بالبصرة. له كتاب "السنن"، وهو أحد الكتب الستة.

(3)

خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي (. . . - 21 هـ =. . . - 642 م) صحابي جليل، وسيف الله. كان من أشراف قريش في الجاهلية، وتوفي في حمص.

(4)

علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، نور الدين بن برهان الدين (975 - 1044 هـ = 1567 - 1635 م) من المؤرخين الأدباء، أصله من حلب، وولد وتوفي بمصر.

من مؤلفاته "إنسان العيون في سيرة المأمون". ويعرف بالسيرة الحلبية.

ص: 136

الإيجاز" أيضاً عن كتاب "تخريج الأدلة السمعية"، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله قاضياً إلى الجند من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشرائع الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل له قبض الصدقات من العمال الذين باليمن. ثم نقل ما رواه البخاري؛ من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وقال لهما: "يسرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا". ونقل بعد هذا حديث البخاري الذي يتضمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: " إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئت، فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله

إلخ". ثم نقل ما أورده زيني دحلان (1) في "السيرة النبوية"؛ من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وروى ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم من حديث معاذ، الذي يتضمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض عليك قضاء؟ "، قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ "، قال؛ فبسنّة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنّة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ "، قال: أجتهد رأيي، ولا آلو.

بعد أن حكى المؤلف هذه الأخبار والأحاديث.

قال في (ص 44): "تلك الروايات المختلفة التي قصصنا عليك نموذجاً منها، تريك كيف يسوغ لنا أن نستنتج ما قلناه من أنه لا تتيسر الإحاطة بشيء كثير من أحوال القضاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وها أنت ذا قد رأيت كيف اختلفت الرواية عن حادثة واحدة بعينها، فَبَعْث علي إلى اليمن يرويه أحدهم أنه

(1) أحمد بن زيني دحلان (1232 - 1304 هـ = 1817 - 1886 م) فقيه ومؤرخ، ولد بمكة، وتوفي بالمدينة المنورة. من مؤلفاته:"السيرة النبوية".

ص: 137

تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من الزكاة".

خير بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن، وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم له أن لا يقضي لخصم حتى يسمع من الآخر، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي، ورواه ابن سعد في "طبقاته"(1) بثلاثة أسانيد مختلفة، وحكاه ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب"، (2) وأبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام"، (3) والحافظ المزي في كتاب "التهذيب"(4)، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(5)، وكذلك يقول المحقق الشوكاني (6) في حديث: "يا علي! إذا جلس إليك الخصمان

إلخ"، أخرجه ابن حبان، (7) وصححه، وحسّنه الترمذي.

روى أولئك الأعلام هذا الخبر، ولم يروا به وجهاً للريبة، مع أنهم أسبق الناس إلى نقد الأخبار، ولا سيما ما يمس بأمر ديني، أو يحتوي على حديث نبوي.

(1)(ج 2 ص 100).

(2)

(ج 2 ص 499).

(3)

(ج 2 ص 206).

(4)

في ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(5)

(ج 8 ص 48).

(6)

انظر: "نيل الأوطار"(ج 8 ص 52).

(7)

محمد بن حبّان، أَبو حاتم البستي (

- 354 هـ =

- 965 م) من كبار المحدثين، ولد في "بست" من بلاد سجستان، وتوفي بها. من تصانيفه:"المسند الصحيح".

ص: 138

وإذا رمت تحرير الغاية التي بعث لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإليك التحرير:

اتفق المحدثون والمؤرخون على: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن مكان خالد بن الوليد.

ففي "صحيح الإمام البخاري" عن البراء بن عازب (1): "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه. فقال: مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك، فليعقب، ومن شاء، فليقبل. فكنت فيمن عقب معه".

وفي "تاريخ ابن جرير الطبري"، عن البراء بن عازب:"فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالد ومن معه، فإن أراد أحد ممن كان مع خالد بن الوليد أن يعقب معه، تركه".

وإذا كان علي بن أبي طالب بُعث ليقوم مقام خالد بن الوليد، فقد بُعث أميراً، والإمارة لعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتناول القضاء ونحوه، ولكن بعض الرواة يقول: إنه أرسل مكان خالد، وبعضهم يقتصر في الرواية على الأمر الذي يناسب غرض الحديث، فهذا يقول: بُعث قاضياً؛ ليناسب خبر: "وأنا حديث السنّ، ولا علم لي بالقضاء

إلخ".

والآخر يقول بُعث ليقبض الخمس؛ ليناسب ما يذكره بعد ذلك من إنكاره عليه بعض تصرفاته في الخمس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم! للمنكر: "لا تبغضه؛

(1) البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي (

- 71 هـ =

- 690 م) من الصحابة الأجلاء القادة، سكن الكوفة، وتوفي زمن مصعب بن الزبير، روى له الإمامان البخاري ومسلم 305 أحاديث.

ص: 139

فإن له في الخمس أكثرَ من ذلك".

فقول بعض الرواة: بُعث قاضياً، أو قول الإمام:"بعثت قاضياً" لا يعارض قول بعضهم: بعث ليقبض الخمس، متى كان النبي صلى الله عليه وسلم صرح له بالقضاء، وقبض الخمس بوجه خاص، زيادة على أن بعثه مكان خالد يقتضي النظر في القضايا، وفصل الخصومات.

ترك المؤلف ما رواه البخاري أولاً من أن علي بن أبي طالب بعث مكان خالد بن الوليد، ونقل الحديث الثاني الذي يقول فيه الراوي: بعثه إلى خالد ليقبض الخمس، وحاول أن يضرب بهذه الرواية رواية ولايته القضاء؛ ليخلص من أثر يشهد بأن للقضاء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حديثاً ينقل، أو اسماً يدور على الألسنة، والعلماء الذين درسوا باب التناقض من علم المنطق، وباب التعارض والترجيح من علم الأصول، تفهموا هذه الروايات على وجه جامع، ولم يروا بينهما اختلافاً يدعو إلى حيرة، أو إلغاء الروايتين، أو ترجيح إحداهما على الأخرى.

يقول الإمام البخاري: بعث علياً بعد ذلك ليقبض الخمس. ومن الجليّ لدى المبتدئين من طلاب العلم أن المراد: خمس الغنيمة، ولكن المؤلف الذي لم يقنع برتبة مجتهد، وحاول أن يكون مشرّعاً، يقول:"ويروي الآخر: أنه كان لقبض الخمس من الزكاة" وليس في الزكاة شيء يقال له: الخمس، ولكن الله ضرب هذا المثل لنشهد به حظ المؤلف من فهم كتب الشريعة، وليعلم الذين يريدون أن يتبعوا خطواته أنهم ركبوا غارب عشواء، وفتحوا أعينهم في ليلة ظلماء.

قال المؤلف في (ص 44): "ومعاذ بن جبل كذلك، ذهب إلى اليمن

ص: 140

قاضياً في رأي، وغازياً في رأي، ومعلماً في رأي، ونقل "صاحب السيرة النبوية" خلافاً في أن معاذاً كان والياً وقاضياً، فقال ابن عبد البر (1): إنه كان قاضياً، وقال الغساني: إنه كان أميراً على المال. وحديث ابن ميمون التصريح بأنه كان أميراً على الصلاة، وهذا يرجح أنه كان والياً".

الرواية قائمة على أن معاذ بن جبل رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن والياً وقاضياً، ومعلماً للقرآن وشرائع الإسلام، وقابضاً للصدقات من العمال، قال ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب":"بعثه -يعني: معاذاً- رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى الجند من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشعائر الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، ومعاذ بن جبل على الجند، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وجهه إلى اليمن: "بم تقضي

إلخ".

فمعاذ كان والياً وقاضياً ومعلماً، وقابضاً للصدقات، ومن المحدّثين من ذكر له أعمالاً متعددة؛ كالحافظ ابن عبد البر، ومنهم من يتعرض لوظيفة القضاء؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي داود، والترمذي، وغيرهم، ومنهم من يذكر وظيفة الإمارة؛ كالإمام البخاري، ومنهم من يعرف له وظيفة التعليم، ويصرح بأنه كان يقوم بهذه الوظيفة في أعمال كثيرة؛ كقول ابن خلدون في "تاريخ": "وكان معاذ بن جبل يعلّم القرآن باليمن، ينتقل على

(1) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي المالكي (368 - 463 هـ = 978 - 1071 م) حافظ للحديث، ومؤرخ وأديب. ولد بقرطبة، وتوفي بشاطبة. له تصانيف عديدة.

ص: 141

هؤلاء وهؤلاء في أعمالهم".

فرواية أن معاذاً كان قاضياً باليمن من الروايات التي مُحصت، ووضعها المحدثون موضع القبول، وليس في الروايات الأخرى ما ينافيها حتى نحتاج إلى عرضها على ميزان الترجيح، فضلاً عن أن نعاملها معاملة الأحاديث الموضوعة، ونضرب عنها جملة؛ كما فعل المؤلف؛ حرصاً على أن ينتهي به النظر "إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر".

وما نقله عن صاحب "السيرة النبوية" من الخلاف بين ابن عبد البر، والغساني؛ من أن معاذاً كان والياً أو قاضياً، لا يمس الرواية بوهن، ولنا عليه ملاحظة من وجوه:

أولاً: يظهر أن صاحب "السيرة" نقل هذا الخلاف من "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني، ونص عبارة "الفتح":"واختلف هل كان معاذ والياً، أو قاضياً، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول". والدليل على أن صاحب "السيرة" استمد الخلاف من كلام ابن حجر: أن لفظ "الغساني" إنما جاء في نسخ "فتح الباري". ونقل القسطلاني في "شرحه لصحيح البخاري" هذا الخلاف عن ابن حجر، وذكر المقابل لابن عبد البر باسم:"العسكري"، وكذلك ذكر الخلاف الإمام العيني (1) في "شرحه للبخاري"، وذكر المخالف لابن عبد البر باسم:"العسكري".

والمعروف بالتأليف في تراجم الصحابة هو العسكري، وهو "أبو محمد ابن عبد الله بن أحمد بن موسى العسكري المعروف بعبدان"، وقد ذكره ابن

(1) محمود بن أحمد، بدر الدين العيني (762 - 855 هـ = 1361 - 1451 م) محدث ومؤرخ، ولد في عينتاب، وتوفي بالقاهرة. له تصانيف عديدة.

ص: 142

حجر في مقدمة "الإصابة" باسمه: "عبدان" حين أخذ يسرد أسماء من ألّفوا في الصحابة رضي الله عنه.

ثانياً: قول صاحب "السيرة"، وحديث ابن ميمون يرجح أنه كان والياً، إنما هو استنتاج منه، ولا يصح إلا إذا أراد بالوالي: من له سلطة أعمّ مما يفهم المؤلف، وهو العامل على المال، الناظر في شؤون البلاد.

ثالثاً: إن ابن عبد البر صرح في "الاستيعاب" بأن معاذاً كان قاضياً ووالياً على المال حسبما نقلناه آنفاً، فلا يصح أن يفهم من هذا الخلاف أن ابن عبد البر يقول: أرسل قاضياً فقط، فهو لو قال:"بعث معاذاً قاضياً"، وسكت، لم نفهم منه مخالفة لمن يقول:"بعث والياً"، فما باله إذا صرح بالولاية علاوة على القضاء؟.

رابعاً: إذا كان العسكري قال: إن معاذاً أرسل والياً، ولم يتعرض لنفي القضاء، لم يعد هذا مخالفة لابن عبد البر، وكذلك رأينا الشيخ العيني لم يزد على أن قال:"وفي كتاب الصحابة للعسكري: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم والياً على اليمن، وفي الاستيعاب: بعثه قاضياً، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن". فإذا كان الخلاف إنما أخذ من اقتصار العسكري على ذكر الولاية من غير تعرض للقضاء، كان الخلاف بين العسكري وابن عبد البر لا يزيد على أن يكون اختلافاً في العبارة.

خامساً: يترجح أن يكون العسكري عندما تحدث عن معاذ اقتصر على ذكر الولاية، ولم يتعرض لنفي القضاء، فإن ابن حجر، ومن نقل كلامه؛ كالقسطلاني، ثم من نقل عن كتاب العسكري مباشرة؛ كالعيني، لم يذكروا أن العسكري نفى القضاء صراحة، ولو نفاه، لذكر الوجه في نفيه، وعدم قبول

ص: 143

روايته، ولو ذكر هذا الوجه، لنقلوه، وتلقوه إما بمناقشة، وإما بتسليم.

سادساً: على فرض أن العسكري أو الغساني نفى ولاية معاذ القضاء بصراحة، فإن الرواية التي تشهد بهذه الولاية حجة على المنكر، إلا أن يأتي بدليل مسموع أو معقول يطعن في شهادتها.

ومما لا نزاع فيه بيننا وبين المؤلف: أن ولاية معاذ كانت مساوية لولاية أبي موسى الأشعري، فيصح لنا الاستشهاد بأن ولايتهما كانت تتناول الحكم بحديث البخاري المتضمن: أن معاذاً زار أبا موسى الأشعري، ووجد عنده رجلاً موثقاً، فسأله عنه، فقال له: إنه كان مسلماً، ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربنّ عنقه. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "إن أبا موسى الأشعري مفوض إليه الحكم، ولو كان فوض الحكم لغيره، لم يحتج -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم إلى توصيته بما وصاه به".

قال المصنف في (ص 45): "ذلك بأننا وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة: أن غير القضاء أيضاً من أعمال الحكومات، ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجوداً على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلاً لإدارة شؤونها، وتدبير أحوالها، وضبط الأمر فيها. وما يروى من ذلك، فكله عبارة عن توليته أميراً على الجيش، أو عاملاً على المال، أو إماماً للصلاة، أو معلماً للقرآن، أو داعياً إلى كلمة الإسلام. ولم يكن شيء من ذلك مطرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود، كما ترى فيمن كان يستعملهم صلى الله عليه وسلم على البعوث والسرايا، أو يستخلفهم على المدينة إذا خرج للغزو".

ص: 144

دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولّ قضاة يفصلون الخصومات، ولم ينصب ولاة لتدبير أحوال البلاد، من بنات فكر المؤلف وحده، فهو الذي اخترعها، دون أن يسبقه إليها ألمعي خبير، أو بحاثة بصير، وإذا كان كل رأي جديد -حقاً كان أو باطلاً- يخف بصاحبه إلى منزلة يشار إليها بالبنان، ويطير صيته في الآفاق إلى أمد بعيد، فليتبوأ المؤلف مقعده بمكان تومئ إليه الأصابع من كل ناحية، وليهنأ بسمعة تطير مع الشمس كل مطار، ولكن ما دام القرآن يتلى، وكتب السنّة تدرّس، وفي القلوب إيمان، وفي الأدمغة عقول، فإن هذا الرأي الجديد لا يبقى على وجه الأرض إلا أن يحتمل ما تخلعه عليه النفوس الفاضلة من برود التهكم والتفنيد، ويرضى بما تناديه به ألسنة الصادقين من ألقاب الباطل والبهتان.

ولا يلاقي هذا الرأي تفنيداً من إخوان الإسلام فقط، بل يرمي في وجهه بالتزييف كل من درس تاريخ عهد النبوة، ووقف ساعة من نهار على روح التشريع، وإن كان من المخالفين الذين لا ينتمون للإسلام.

يزعم المؤلف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل أميراً للحكم وضبط الأمر في البلاد، وإنما كان يرسل غزاة، أو عمالاً، أو أئمة ودعاة للإسلام، ولا ندري ماذا دفعه إلى إنكار حقيقة تضافر عليها المحدّثون والمؤرخون، وإذا كان المدار في تحقيق المسألة على الرواية، فلا سبيل للمنكر عليها إلا أن يردها بطعن في سندها، أو يبين أن العقل السليم لا يقبلها، وهل مشى المؤلف في هذا السبيل المعقول، فتعرض لسند الروايات التي تثبت أن للنبي صلى الله عليه وسلم أمراء ينظرون في شؤون البلاد، ويحكمون فيما شجر بين الناس، ونقَدها ببينة وعقل، أو أقام برهاناً على أن وجود ولاة يفصلون القضايا، ويدبرون

ص: 145