الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى من فوقهما، فينظر فيه، وينفذان ما اتفقا عليه، ولولا اشتراكهما، لما قال:"تطاوعا ولا تختلفا".
واقتفى أثر هذا المنهج أمير تونس زيادة الله بن الأغلب (1)، فقلّد أسد ابن الفرات (2)، وأبا محرز محمد بن عبد الله الكناني القضاء على أن يكونا شريكين في فصل النوازل، ولم يعلم قبلهما بالبلاد التونسية قاضيان في مصر (3).
هذه أمثلة اقتبسناها من تعاليم الإسلام؛ ليطلع القارئ الكريم على أن مبادئه القضائية واقعة من العدل موقع الروح من الجسد، وأن القضاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على سنّة مُحكمة، وإذا زعم منتمٍ للإسلام: أن نظماً يتطلبها العدل، أو يتوقف عليها حفظ الحق كانت مهملة في عهد النبوة، فإنه يقف له من التاريخ، ثم من مقام الرسالة مِدْرهٌ يطعن في زعمه، ويقيم الحجة على ريائه.
*
المالية في عهد النبوة:
أموال الدولة بحكم الكتاب والسنّة: الصدقات، والجزية، والفيء، وخمس الغنيمة، وهي موارد بيت المال لعهد النبوة.
أما الصدقات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل عليها عمالاً بأحكامها؛ "إذ
(1) زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب (172 - 223 هـ = 788 - 838 م) رابع الأغالبة أصحاب أفريقية. توفي بالقيروان.
(2)
أسد بن الفرات بن سنان (142 - 213 هـ = 759 - 828 م) من القادة الفاتحين، وقاضي القيروان. ولد بحرّان، وتوفي من جراح في حصار سرقوسة.
(3)
"طبقات علماء أفريقية" لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم (ص 84) طبع الجزائر.
لا يستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عالماً بما يستعمله عليه (1)"، ومن "المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له" (2). ولعلك تفقه بهذا: أن أخذها كان جارياً على حساب ونظام، ومما يعد في نظمها: ما فصلته الأحاديث من أحكامها؛ كبيان مقادير ما يؤخذ من كل صنف، وأن يأخذ من وسط المال، لا خياره، ولا رديه.
أما مصرفها، فالأصناف الثمانية المنصوص عليها في آية:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
وإنما اختلف الفقهاء في وجه صرفها، فقال الإمام الشافعي:(3) لا بدَّ من قسمها على الأصناف الثمانية، وقال الإمامان مالك وأبو حنيفة: يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد، أو أكثر من صنف، إذا رأى المصلحة قاضية بذلك، وعلى كل حال، فإن مصرفها لا يخرج عن الأصناف الثمانية، وهو مضبوط إما بتلك الأصناف المعدودة، أو بما تقتضيه المصلحة منها.
وأما الجزية، وهي ما يؤخذ من المخالفين المقيمين تحت راية الإسلام، فالقرآن ذكرها بلفظ مجمل، فقال تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ أي: يأتون بها طائعين لحكم الإسلام، وقد اختلف
(1) كتاب "الفصل" لابن حزم (ج 4 ص 139).
(2)
"منه"(ج 4 ص 136).
(3)
محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع (150 - 204 هـ = 767 - 820 م) أحد الأئمة الأربعة، وإليه نسبة الشافعية. ولد في غزة بفلسطين، وتوفي بالقاهرة.
الفقهاء في تقديرها، وكثير منهم يذهب إلى أن تقديرها مفوّض إلى نظر الإمام، قال أَبو الوليد ابن رشد (1) في "بداية المجتهد" (2): وهو الأظهر. ويؤيده: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن، وعلل مجاهد هذا التفاوت بيسار أهل الشام (3).
وأما مصرفها، فإنها كسائر الفيء، وخمس الغنيمة، توضع في بيت المال، وتصرف إلى ذوي الحاجة، وفي وجوه المصالح العامة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يولّي على قبض المال عمالاً، وإذا قدموا به، حاسبهم على ما قبضوا، وما صرفوا، تجد هذا في حديث العامل الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سليم، وفي الحديث:"فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحاسبه" رواه الإمام البخاري في باب: محاسبة الإمام عمّاله، وقال الحافظ ابن حجر عند قوله:"وحاسبه": أي: على ما قبض وصرف (4).
فإذا كان المال المفروض على الأمة في عهد النبوة مقدراً، والعامل عليه عالماً، ومتى جاء به، يناقش الحساب على القبض والصرف، ثم يُنفق في وجوه المصالح بتدبير، فهل يصح بعد هذا أن يقال: إن المالية لذلك العهد لم يكن لها نظام؟!.
فإن أراد المؤلف من النظام: أن يؤلف لها ديوان، قلنا: كان للنبي
(1) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي (520 - 595 هـ = 1126 - 1198 م) الفيلسوف. من أهل قرطبة، توفي بمراكش، ودفن بقرطبة.
(2)
(ج 1 ص 326).
(3)
"أحكام القرآن" للجصاص (ج 3 ص 98)، و"صحيح البخاري"(ج 4 ص 96).
(4)
"فتح الباري"(ج 13 ص 151).
- عليه السلام كتّاب معروفون، وهبهم لم يتقيدوا بمكان يختص بهم، ووقت يحدد لهم، فإن هذا وحده لا يسم المالية بوصمة الخلو من النظام. ورب تقييد يعد في بعض الأزمنة نظاماً، وهو في عصر آخر حيث لا تدعو إليه الحاجة عدمُ نظام.
وموجز القول: أن نظام المالية لعهد الرسالة موافق لما تقتضيه حال ذلك العهد، ولقد كان المال يقبض بحق، ويصرف على وجه لا يدخله خلل، ولا يحوم عليه شطط، قال ابن خلدون في "مقدمته":"واعلم أن هذه الوظيفة -يعني: ديوان الأعمال والجبايات- إنما تحدث في الدولة عند تمكن الغلب والاستيلاء، والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد، وأول من وضع الديوان عمر رضي الله عنه، يقال: لسبب مال أتى به أَبو هريرة رضي الله عنه من البحرين، فاستكثروه، وتعبوا في قسمه، فسعوا إلى إحصاء الأموال، وضبط العطاء والحقوق، فأشار خالد بن الوليد بالديوان، وقال: رأيت ملوك الشام يدوّنون".
فأنت ترى أن الحاجة إلى الديوان لم تعرض إلا في عهد الخليفة الثاني، وعندما حدثت الحاجة، وجد الخليفة من قاعدة رعاية المصالح ما يحثه على المبادرة إلى أن ينشئ الديوان، ويعين له من الكتّاب بمقدار ما تدعو إليه المصلحة. فإن كان المؤلف يذهب إلى أن المالية التي لم تتسع حتى تلجئ إلى إنشاء ديوان يحق له أن يصفها بعدم النظام، قلنا له: إن المقدار الذي تسمح به حالة الأمة لعهد النبوة كان يُستخلص بالقسطاط المستقيم، وينفق في سد الحاجات، وإعداد القوة ووسائل المنعة، وقد خاض رجال هذه المالية حروباً، فكانوا هم الغالبين، ولم يكونوا يوماً في حاجة إلى قرض داخلي أو خارجي، ولم يضعوا على رقاب الأمة ضرائب فادحة مثلما تصنع