الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
*
خطأ المؤلف في حمل آيات على القصد الحقيقي:
عاد المؤلف فأخذ يلتقط من القرآن آيات: {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ} {الأعراف: 188} ، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 8]، {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج: 49]، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]. وأضاف إليها آيتين وهما قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، وقوله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
ثم قال في (ص 73): "القرآن -كما رأيت- صريح في أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل، ثم هو بعد صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شيء غير إبلاع رسالة الله تعالى إلى الناس، وأنه لم يكلف شيئاً غير ذلك البلاغ، وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه".
يتساءل الناس أحياناً عن الحال الذي لبس قلب المؤلف، حتى أصبح يقول على الله غير الحق: هل اقتحم هذه الخطيئة لقصور في الفهم؟ أم لداعية افتتانه بملّة أخرى؟
إذا صح للقارئ أن يتردد في بعض المباحث السابقة، فإن هذا المبحث لا يبقي له ريبة في أن المؤلف قد يقصد إلى قلب الحقائق، حيث لا يصح أن تنقلب في نظره.
يعرف كل طالب علم في الأزهر، أو في غير الأزهر: أن في العلوم العربية علماً يقال له: علم المعاني، وأن في المعاني باباً يقال له: باب
القصر، ولا شك أن من اطلع على هذا الباب يعلم أن القصر ينقسم إلى:
قصر حقيقي، وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الحقيقة، وفي نفس الأمر؛ بحيث لا يتجاوزه إلى غيره أصلاً.
وقصر إضافي، وهو تخصيص شيء بشيء بحسب الإضافة إلى شيء لآخر؛ بأن لا يتجاوزه إلى ذلك الشيء، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى شيء آخر.
ويعلم بعد هذا: أن القصر الإضافي ينقسم إلى:
قصر إفراد، والمخاطب به من يعتقد شركة صفتين في موصوف واحد، أو موصوفين في صفة.
وقصر قلب، والمخاطب به من يعتقد عكس الحكم الذي يتصدى المتكلم لإثباته.
وقصر تعيين، والمخاطب به من يتساوى في نظره أمران، فيقصر له المتكلم الحكم على أحدهما.
هذه المباحث من بديهيات علم البلاغة، ومن مبادئه الملقاة على قارعة الطريق؛ بحيث لا يمتاز بمعرفتها الذكي عن الغبي، ولا قارئ الكتب المبسوطة عن قارئ المختصرات.
ومن عرف أن من فنون القصر ما يسمّى: قصراً إضافياً، عرف بوجه إجمالي أن الآيات التي ساقها المؤلف إنما هي من هذا القبيل، ولا يصح حملها على القصر الذي يراد به نفي كل صفة ما عدا الإنذار حتى يدخل في هذه الصفات المنفية القضاء الفصل والتنفيذ.
ولنضرب لك مثلاً تشهد به أن هذه الآيات منسوجة على منوال من البلاغة بديع، وأنها بريئة من نفي صفة التنفيذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يزعم مؤلف
كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} [فاطر: 22 - 23]. وبيان سر هذا القصر بلاغة: أنه جاء بالنفي والإثبات؛ لأنه لما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ]، وكان المعنى في ذلك: أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم، مع إصرارهم على كفرهم، واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم، وتتلوه عليهم، كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي صلى الله عليه وسلم حال من قد ظن أنه يملك ذلك، ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر، فأخرج اللفظ مخرجه إذا كان الخطاب مع من يشك، فقيل: {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} ،ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت، وأن تُفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيراً، وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج، ولمست تملك أكثر من ذلك" (1).
فانظر إلى فيلسوف البيان عبد القاهر الجرجاني (2) كيف فهم أن الآية من نوع القصر الإضافي (3)، وأن قصر النبي صلى الله عليه وسلم الإنذار في قوله تعالى:{إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} لم يرد به نفي كل ما عدا الإنذار، وإنما أريد به نفي صفة معينة، وهي كونه صلى الله عليه وسلم يملك تحويل قلوبهم عما هي عليه من الإباء. وذكر ذلك
(1)"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني (ص 257) من طبع سنة 1331 هـ.
(2)
عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (
…
- 471 هـ =
…
- 1078 م) واضع علم البلاغة، وإمام اللغة. من أهل جرجان بين طبرستان وخراسان.
(3)
قصر تعيين.