الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب وغيرهم قبل أن يجيء الإسلام".
لا يرتاب مسلم في أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتولّ فصل القضايا بين الناس من تلقاء نفسه، وإنما هو مَنْصِبٌ استمده بوحي سماوي، قال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، فناط بعهدته فصل القضايا، ثم وضع في أعناق الأمة فريضة التسليم لقضائه، فقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فيمتاز قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء الذي وجد عند العرب قبل الإسلام، بأن ولايته قامت على وحي يوحى، وأن التسليم له والاعتقاد بحكمته من شرائط الإيمان بالله.
فما ينبغي للمؤلف أن يقيس محكمة إلهية جاهلية، ويوحي إلى من يشاكله في ذوقه أن كليهما جارٍ على غير نظام؛ فإن وصفه لحال القضاء النبوي بالغموض والإبهام، ثم قوله:"إن كان له نظام" لا معنى له سوى إنكار أن يكون لتلك المحكمة العادلة نظام، ولقد كان هذا الإنكار أقرب إلى الصراحة من معانٍ أخرى لا تكشف قناعها إلا حين تلتقي بمن مارس لغة المرتابين، وتفقّه في لحن خطابها.
*
القضايا التي ترفع إلى الحكام نوعان:
قال المؤلف في (ص 40): "وفي التاريخ الصحيح شيء من قضائه عليه السلام فيما كان يرفع إليه، ولكننا إذا أردنا أن نستنبط شيئاً من نظامه صلى الله عليه وسلم في القضاء، نجد أن استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن؛
لأن الذي نُقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بيّنة لذلك القضاء، ولا لما كان له من نظام، إن كان له نظام".
الأدلة السمعية وما يتفرع عنها من نحو: القياس، والقواعد، بالغة حد الكفاية في إقامة محاكم تسير على قانون العدل، وتزن الحقوق بالقسطاس المستقيم. فإن تراءى لأحد أن الأخبار التي تقص شيئاً من القضايا التي رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هي من القلة بحيث لا تعطي صورة بيّنة للقضاء في عهده، قلنا: التشريع كامل، وسيّان بعد هذا أن تكثر الخصومات لعهد الرسالة، أو تقل، تُنقل إلينا وقائعها، أو لا تنقل، على أن طبيعة ذلك العصر وروحه الاجتماعية يقتضي أن تكون الخصومات بين القوم ذات عدد يسير، وإليك كلمة تنبئك بسبب قلة ما يرفع إلى مقام الرسالة من قضايا المتخاصمين، وتؤكد لك صحة ما نبهنا عليه من أن القضاء العملي ليس وحده المرجع لتعرف حال القضاء النبوي، ومعرفة ما "له من نظام إن كان له نظام".
القضايا التي ترفع إلى الحكام على نوعين:
أحدهما: قضايا تنشأ عن تجاحد الخصمين، فيدّعي أحدهما ما ينكره الآخر، وهذه هي التي يحتاج فيها إلى إقامة البينات، ويمتاز فيها منصب القضاء عن منصب الفتوى.
ثانيهما: قضايا يقرر فيها الخصمان الواقع، ولكنهما يجهلان وجه الحق، ولا يعلمان المحق من المبطل في نظر الشارع، والقاضي في هذا النوع بمنزلة المفتي؛ لأن الخصمين يكتفيان ببيان وجه الحق، وينصرفان عن تراض، والخصومات التي تنشب بين الجماعات المطبوعة على فضيلة الإخاء والتقوى، إنما تكون من هذا النوع القائم على عدم معرفة الحق،
وكذلك قضايا المسلمين لعهد النبوة؛ فإن أغلبها من قبيل الاستفتاء، أما المشاجرات الناشئة عن التجاحد، فنادرة جداً.
قال الحافظ ابن تيمية: "ولو عدّ مجموع ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع -يعني: ما قام عن تجاحد- لم يبلغ عشر حكومات".
هذا سبب قلة ما تحمله الرواية من القضايا التي رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجاوزت حدّ الاستفتاء، ويضاف إلى هذا: أن أحكام الشريعة كانت تطبق بعزم وإخلاص، وهذا يقتضي بوجه خاص أن تقل القضايا المتعلقة بالجنايات، وقلة القضايا لعهد النبوة لا تجعل حال القضاء مبهمة؛ فإن الأدلة بجملتها تعطينا صورة بيّنة لسنّة القضاء الكافلة بإقامة العدل وصيانة الحقوق.
قال المؤلف في (ص 40): "لاحظنا أن حال القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم غامضة ومبهمة من كل جانب، حتى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولّى صلى الله عليه وسلم أحداً غيره القضاء، أم لا؟ ".
لم تكن حال القضاء في عهد النبوة غامضة ولا مبهمة، فقد أريناك أن ما بين أيدينا من الكتاب والسنّة الصحيحة يجعلنا على بصيرة من سنّته المتبعة لذلك العهد، وليست الشواهد على هذه السنن بالشيء القليل، حتى تسعه هذه الورقات المقصود منها تنبيه سليم الفطرة كي لا يفتتن ببهرج ذلك الكتاب وزخرف قوله غروراً. وسيمرّ نظرك على أمثلة من سنن القضاء الإسلامي في غير هذا المقام.
ومن السهل على الباحث الذي يذهب إلى الحقائق من طرقها المعقولة، أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يولّي على كل قوم مسلمين من يدبر أمرهم، ويقضي فيما شجر بينهم، ولو لم يرد في التاريخ إلا أسماء الأشخاص الذين قلدهم