الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنى المؤلف هذه النتيجة الخيالية على أن حكومة أبي بكر كانت لا دينية. وقد سقنا لكم الدليل إثر الدليل على أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن ظالماً، ولا فاسقاً، ولا كافراً، وأنه كان يحكم بكتاب الله، وسنّة رسول الله، فإن لم يجد نصاً في الكتاب والسنّة، استشار العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بالرأي الذي يرشده روح التشريع إلى قول الحق.
فدعوى المؤلف: "أن الخلافة والقضاء وغيرهما ليست في شيء من الخطط الدينية، وأن الدين لم يعرفها، ولم ينكرها" هي من سلالة آراء لا دينية، فلا دليل يركن إليها، ولا شبهة ظنّ تقوم بجانبها.
*
لا حرية للشعوب الإسلامية إلا أن تساس على مقتضى شريعتها:
قال المؤلف في (ص 103): "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له، واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم".
ليس في الإسلام نظام عتيق يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة، وليس في الإسلام نظام عتيق يعد الخاضع له مهاناً أو ذليلاً، وإن في أصول شريعتهم ما يثمر لهم قوانين تفوق قوانين البشر، وتأخذ بمصالحهم أخذ حكيم مقتدر.
فالمسلمون حقاً لا بدّ أن يكونوا أرجح عقولاً، وأرفع همماً من أن يسلوا أيديهم من أصول شريعتهم الفسيحة المجال، الناسجة على أحكم مثال، ويضعوها في تقليد أمم ليسوا بأصوب نظراً، ولا أدرى بالمصلحة.
فنصوص الشريعة متضافرة على أن الرياسة العامة، وما يتفرع عليها من نحو القضاء، خطط دينية سياسية. فصاحب الدولة إذا ساس الناس بمقتضى نظر الشريعة، كانت سياسته قيمة، وسمّي عند الله عادلاً، فإن خرج في سياسته عن النظر الشرعي، أصبح مسؤولاً بين يدي الأمة في الدنيا، ومؤاخذاً بها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
والقاضي إذا صاغ حكمه على أصول الشريعة، كان قضاؤه صحيحاً، ووجب الإذعان له في السر والعلانية، فإن استند حكمه إلى قانون ما أنزل الله به من سلطان، كان حكماً جائراً، ولا يحتمله المسلم إلا أن يوضع عليه بيد قاهرة.
وإذا كانت القوانين لا يخضع لها المسلمون بقلويهم، ولا يتلقون القضاء القائم عليها بتسليم، كان تقريرها للفصل بينهم غير مطابق لقاعدة الحرية؛ إذ المعروف أن الأمة الحرة هي التي تساس بقوانين ونظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها، أو إرادة جمهورها.
فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تساس بقوانين ونظم يراعى فيها أصول شريعتها. وكل قوة تضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها، فهي حكومة مستبدة غير عادلة.
فالذين ينقلون قوانين وضعها سكان رومة، أو لندرة، أو باريز، أو برلين، ويحاولون إجراءها في بلاد شرقية؛ كتونس، أو مصر، أو الشام، إنما هم قوم لا يدرون أن بين أيديهم قواعد شريعةِ تنزل من أفق لا تدب فيه عناكب الخيال أو الضلال، وأن في هذه القواعد ما يحيط بمصالح الأمة حفظاً، ويسير بها في سبيل المدنية الراقية عَنَقاً فَسيحاً.
ولو قيض الله للشعوب الإسلامية رؤساء يحافظون على قاعدة حرية الأمم، لألّفوا لجاناً ممن وقفوا على روح التشريع الاسلامي، وكانوا على بصيرة من أحوال الاجتماع ومقتضيات العصر، وناطوا بعهدتهم تدوين قانون يقتبس من أصول الشريعة، ويراعى فيه قاعدة: جلب المصالح ودرء المفاسد. وبغير هذا العمل لا يملك المسلمون أساس حريتهم، ولا يسيرون في سبيل سعادتهم آمنين.
قام في زمن قريب بعض من تخبطه الجهل والغرور، وصاح في وجه حكومة شعب مسلم صيحة المعربد، منكراً عليها ما قررته في قانونها الأساسي؛ من جعل الإسلام ديناً رسمياً للدولة، وقد ردّد المؤلف في نتيجة أبوابه التسعة هذه الصيحة؛ إذ حاول أن يقطع الصلة بين الدين والسياسة، ويحارب آداب الإسلام القاعدة للإباحية الفاسقة في كل مرصد، ولكن الفرق بين ذلك الصائح وهذا الصدى: أن الأول وثب على المسألة وثوب أهبل لا يعرف يمينه من شماله، أما المؤلف، فقد أدرك أن الأمة مسلمة، وأن الإسلام دين وشريعة وسياسة، وأن هاتين الحقيقتين يقضيان على الدولة أن تضع سياستها في صبغة إسلامية، فبدا له أن يعالج المسألة بيد الكيد والمخاتلة، ويأتيها باسم العلم والدين، فكان من حذقه أن التقط تلك الآراء الساقطة، خلطها بتلك الشبه التي يخزي بعضها بعضاً، وأخرجها كتاباً يحمل سموماً، لو تجرعها المسلمون، لتبدلوا الكفر بالإيمان، والشقاء بالسعادة، والذلّة بالعزّة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].