الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويم المعوجّ من مقالاتها.
نفقت سوق الفلسفة، فمد إليها بعض القاصرين أيديهم، واتخذوا منها ظهيراً لآراء سخيفة يعتنقونها، أو شُبه على الدين يوردونها، وما كان من أولي العلم إلا أن تصدوا لنقض تلك الآراء، ومطاردة هاتيك الشبه، واضطروا في تقويمهم، وكفّ بأسهم إلى استعمال السلاح الفلسفي الذي هاجموهم به، ولم يبالوا أن يمزجوا عقائدهم الصحيحة بالفلسفة اليونانية، ما داموا يحملون في أناملهم أقلاماً تفرق بين خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها.
*
بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين، وأنها كنت اختيارية:
حكى المؤلف قول ابن خلدون: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل العقد والحل، وقول السيد محمد رشيد رضا: إن الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد ممن اختاروه إماماً للأمّة، بعد التشاور بينهم.
ثم قال في (ص 25): "قد يكون معنى ذلك: أن الخلافة تقوم عند المسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكز على رغبة أهل الحل والعقد من المسلمين، ورضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحد الذي ذكروا، غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر، وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت -إلا في النادر- قوة مسلحة، فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف". ثم قال: "قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين -مثلاً- شادوا مقامهم على أساس القوة المادية، وبنوه على قواعد الغلبة والقهر، ولكن أيسهل الشك في أن علياً ومعاوية - رضي الله
تعالى عنهما- لم يتبوءا عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف، وعلى أسنة الرماح؟ ".
يتكلم ابن خلدون، والسيد محمد رشيد رضا، عن الطريق الذي تنعقد به الخلافة شرعاً، وهو اختيار أهل الحل والعقد، ومن المعقول جداً أن توجد خلافة على هذا الحد، وكذلك كانت إمارة الخلفاء الراشدين؛ فإن مبايعتهم تقررت باختيار من أهل الحل والعقد، ولا أثر للقهر والغلبة في انعقادها.
أما مبايعة أبي بكر الصديق (1)، فقد روى البخاري في كتاب: الحدود من صحيفة الخطبة التي ألقاها عمر بن الخطاب حاكياً واقعة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة (2)، وبعد أن أتى على المناقشة التي دارت بينِ أبي بكر وبعض الأنصار، قال:"فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرِقتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار".
وفي باب: مناقب أبي بكر من "صحيح البخاري" أيضاً: "أن أبا بكر الصديق قال للأنصار: بايعوا عمر بن الخطاب (3)، أو أبا عبيدة بن الجراح (4)،
(1) عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر (51 ق. هـ - 13 هـ = 573 - 634 م) أول
الخلفاء الراشدين، وأول من آمن من الرجال بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولد بمكة المكرمة، وتوفي بالمدينة المنورة.
(2)
سقيفة بني ساعدة: بالمدينة. وهي ظلّة كانوا يجلسون تحتها، وفيها بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
(3)
عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي (40 ق. هـ -23 هـ = 584 - 644 م) ثاني الخلفاء الرا شدين. وأول من لقب بأمير المؤمنين، توفي بالمدينة المنورة.
(4)
عامر بن عبد الله بن الجراح (40 ق. هـ 18 هـ = 584 - 639 م) الأمير الفاتح، =
فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده، وبايعه الناس".
فأنت ترى كيف بويع أبو بكر الصديق، وليس حوله قوة مال، ولا جند، ولا سلاح، ولم تصدر منه كلمة تؤذن بتهديد أو إكراه، وقصارى ما وقع في المحاورة: أن بعض الأنصار قالوا للمهاجرين: منا أمير، ومنكم أمير، وردّ عليهم أبو بكر بأن هذا الأمر لن يعرف إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. ثم أشار عليهم بمبايعة عمر بن الخطاب، أو أبي عبيدة، ولما أكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، أوجس عمر خيفة من أن ينحدر بهم الاختلاف إلى عاقبة سيئة، فلم يتمالك أن بسط يده إلى مبايعة أبي بكر، وامتدت أيدي المهاجرين والأنصار على أثره، فانعقدت البيعة من أهل الحل والعقد عن اختيار منهم، ولو كفوا أيديهم، ولم يتابعوه على المبايعة، لم تنعقد كما نص عليه أبو المعالي في كتاب "غياث الأمم".
ونحن نرى أن عمر بن الخطاب لم يبسط يده إلى المبايعة، إلا بعد أن عرف أن معظم المهاجرين والأنصار يرون رأيه في أن أبا بكر الصديق أحق الناس بالخلافة، ومن شواهد هذا: أن الحاضرين بسقيفة بني ساعدة لم يتباطؤوا عن متابعة عمر في المبايعة، ثم إن أبا بكر الصديق جلس من الغد على المنبر، وبايعه الناس البيعة العامة بعد بيعة السقيفة (1)، وهؤلاء المبايعون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وتعلموا عن الرسول عليه السلام فضيلة الصراحة وعدم السكوت عن قول الحق،
= والصحابي الجليل، ولد بمكة المكرمة، وتوفي بغور بيسان.
(1)
"ابن جرير الطبري"(ج 8 ص 828) طبعة أوربا.
ولو كانت الفاصلة بين الرؤوس والأعناق. وقد سمّى عمر رضي الله عنه مبايعته فلتة؛ لأنها لم تكن بعد إنهاء المشاورة.
قال ابن تيمية في "منهاج السنة"(1) شارحاً هذا الأثر: "ومعناه: أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار؛ لكونه كان متعيناً لهذا الأمر كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمراً ظاهراً معلوماً، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث؛ بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث".
ومع كونها فلتة، لا تجعل مبايعة أبي بكر مأخوذة بالقهر والغلبة، وتخلف بعض المهاجرين أو الأنصار عن البيعة حيناً الزمن، لا يخل بانعقادها، ولا يسلب عنها أن تكون مبايعة اختيارية؛ إذ المدار على رأي الأغلبية، وهي محل الاعتبار في سائر القوانين الدستورية، ولا شك أن الأكثرية الساحقة يومئذٍ بايعت أبا بكر عن رضا واختيار، ولو جرى الانتخاب بطريق الاقتراع السري على العادة المألوفة اليوم، لم يفز بالإمامة غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد عهد إليه أبو بكر الصديق بالخلافة، وبايعه المسلمون بعد وفاة أبي بكر، فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم" (2).
(1)(ج 3 ص 118).
(2)
"منهاج السنة" لابن تيمية (ج 1 ص 142).
وأما عثمان رضي الله عنه، فقصة مبايعته: أن عمر بن رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، وقيل له: استخلف، قال: ما أجد أحق لهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمّى علياً (1)، وعثمان، والزبير (2)، وطلحة (3)، وسعداً (4)، وعبد الرحمن (5)، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر (6)، وليس له من الأمر شيء، ثم "إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي علي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى، ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأنصار، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم
(1) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. (23 ق. هـ - 40 هـ = 600 - 661 م) رابع الخلفاء الراشدين، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وصهره. ولد بمكة المكرمة، وأقام آخر حياته بالكوفة، وتوفي مقتولاً.
(2)
الزبير بن العوام بن خويلد (28 ق. هـ - 36 هـ = 594 - 656 م) صحابي جليل، وأحد المبشرين بالجنة. قتل بوادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة.
(3)
طلحة بن عبيد الله بن عثمان (28 ق. هـ - 36 هـ = 596 - 656 م) صحابي جليل، وأحد المبشرين بالجنة. قتل يوم الجمل، ودفن بالبصرة.
(4)
سعد بن أبي وقاص (23 ق. هـ - 55 هـ = 650 - 675 م) الصحابي الجليل، وأحد المبشرين بالجنة. توفي بالعقيق على عشرة أميال من المدينة المنورة، ودفن فيها.
(5)
عبد الرحمن بن عوف (44 ق. هـ - 32 هـ = 580 - 652 م) الصحابي الجليل، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وتوفي بالمدينة المنورة.
(6)
عبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ق. هـ - 73 هـ = 613 - 692 م) الصحابي الجليل، له في كتب الحديث 2630 حديثاً، ولد وتوفي بمكة المكرمة.
كلهم قدموا عثمان، فبايعه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها".
وقال ابن تيمية: "لم يصر عثمان باختيار بعضهم، بل لمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان، لم يتخلف عن بيعته أحد"(1).
وقال الإمام أحمد: "ما كان من القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم"(2).
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فمبايعته لم تكن تحت رهبة قط، ولا قامت تحت ظلال السيوف كما يزعم المؤلف، بل "إن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وأتوا علياً، وقالوا: يا أبا حسن! هلمَّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم، فقد رضيت به، فاختاروا، فقالوا: والله! ما نختار غيرك. ثم اختلفوا إليه مراراً، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة، وقد طال الأمر (3) ".
وفي رواية أخرى: "أنه قال لهم: لا تفعلوا؛ فإني كون وزيراً خير من أن أكون أميراً. فقالوا: لا والله! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وقال عبد الله بن عباس (4): فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافةَ أن يشغب
(1)"منهاج السنة" لابن تيمية (ج 1 ص 143).
(2)
"منهاج السنة"(ج 1 ص 143).
(3)
"تاريخ ابن جرير الطبري"(ج هـ ص 152).
(4)
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب (3 ق. هـ - 68 هـ = 619 - 687 م) الصحابي الجليل، وله في "الصحيحين" وغيرهما 1660 حديثاً، ولد بمكة المكرمة، وتوفي بالطائف.