الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام أحمد -عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس: إجماعاً، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذب أحمد من ادّعى هذا الإجماع، وكذلك الشافعي أيضا نصَّ في "رسالته الجديد" على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له: إجماع
…
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدّعي فيه الرجل الإجماع، فهو كذب، من ادّعى الإجماع، فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا،
…
ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك. هذا لفظه .. ، فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده".
فالإمام أحمد بن حنبل إنما ينكر على الفقيه أن يسمي عدم علمه بالخلاف: إجماعا، وعلى مثل هذا جرى ابن حزم في كتاب "الأحكام"، فقال:"تحكم بعضهم فقال: إن قال عالم: لا أعلم هنا خلافاً، فهو إجماع، وإن قال ذلك غير عالم، فليس إجماعاً. وهذا قول في غاية الفساد، ولا يكون إجماعاً، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي"(1).
*
المسلمون والسياسة:
قال المؤلف في (ص 22): "من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين: أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود، فلسنا
(1) محمد بن نصر المروزي (202 - 294 هـ = 817 - 906 م) إمام في الحديث والفقه، كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم، من مؤلفاته:"القسامة" في الفقه. ولد ببغداد، وتوفي بسمرقند.- انظر:"طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي (ج 2 ص 21).
نعرف لهم مؤلِّفاً في السياسة، ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم، ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليل لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون".
ظل المؤلف مستهتراً بشهوة فصل الإسلام عن وظيفة إصلاح السياسة، فرأى أن من المقدمات المساعدة له على هذا الغرض مخاتلةَ نفس القارئ، وأخذها إلى الاعتقاد بأن زعماء الإسلام أو علماءه أهملوا النظر في أنظمة الحكم وأصول السياسة.
لم يكن حظ المسلمين من علم السياسة سيئاً، ولا وجودها بينهم كان أضعف وجود، وعرفنا لهم في السياسة مؤلفات شتى:
اطلعوا على كتاب "السياسة" لأفلاطون (1)، الذي عربه حنين بن إسحاق (2)، وترجم بعض فصوله أيضاً أحمد بن يوسف الكاتب (3) المتوفى سنة 340 هـ (4)، وكتاب "السياسة" تأليف قسطا بن لوقا البعلبكي (5)، وكتاب
(1) فيلسوف يوناني (427 - 347 ق. م) من مؤلفاته: "السياسة".
(2)
حنين بن إسحاق العبادي (194 - 260 هـ = 810 - 73 م) مترجم وطبيب ومؤرخ من أهل الحيرة في العراق، ومات في بغداد.
(3)
أحمد بن يوسف بن إبراهيم البغدادي المصري (
…
- نحو 340 هـ =
…
- نحو 952 م) والمعروف بابن الداية. من الكتاب الفصحاء. أصله من بغداد، وهاجر إلى دمشق، واستقر بمصر. من مؤلفاته:"السياسة لأفلاطون".
(4)
نشره بالطبع جميل العظم.
(5)
قسطا بن لوقا البعلبكي (
…
- نحو 300 هـ =
…
- نحو 912 م). رومي الأصل، يعرف اليونانية. وتوفي في أرمينية. له تصانيف كثيرة.
"المتوّج في العدل والسياسة" للصابي (1)، وأشار ابن خلدون في "مقدمته"(2) إلى أن كتاب أرسطو في السياسة كان متداولاً بين الناس، وألف الكندي في السياسة اثني عشر تأليفاً، منها:"رسالته الكبرى في السياسة"، "ورسالة في سياسة العامة". وألّف أحمد بن الطيب، أحد المنتمين إلى الكندي كتاب:"السياسة الكبير"، وكتاب:"السياسة الصغير". وألّف أبو نصر الفارابي (3) ثمانية مؤلفات في السياسة، منها: السياسة المدنية، "وهو الاقتصاد السياسي الذي يدعي أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم (4) "، ومن مؤلفاتهم: كتاب "سياسة الملك" للماوردي (5)، و"سياسة المالك في تدبير الممالك" لابن أبي الربيع (6)، "وهو جليل جداً، لم يغالر بحثاً من أبحاث العمران والسياسة
(1) إبراهيم بن هلال أبو إسحاق الصابئ (313 - 384 هـ = 925 - 994 م) تقلد دواوين الرسائل أيام المطيع لله العباسي. وله مؤلفات منها: "التاجي" في أخبار بني بويه.
(2)
(ص 33) طبعة بولاق سنة 1284 هـ.
(3)
محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو النصر الفارابي (260 - 339 هـ = 874 - 950 م) من كبار فلاسفة الإسلام، من مؤلفاته:"السياسة المدنية"، و"جوامع السياسة". ولد في فاراب على نهر جيجون، وتوفي بدمشق.
(4)
"تاريخ التمدن الإسلامي" لجرجي زيدان (ج 3 ص 177).
(5)
علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي (364 - 450 هـ = 974 - 1058 م) من كبار القضاة والباحثين. من مؤلفاته:"سياسة الملك"، و"الأحكام السلطانية"، و "تسهيل النظر" في سياسة الحكومات. ولد في البصرة، وتوفي ببغداد.
(6)
أحمد بن محمد بن أبي الربيع (218 - 272 هـ = 833 - 885 م) من أدباء ورجال المعتصم العباسي.
والأخلاق إلا طرقه (1)"، وكتاب "سراج الملوك" لأبي بكر الطرطوشي (2)، وكتاب "نهج السلوك في سياسة الملوك" للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله (3)، و"قوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها" لأبي المكارم أسعد بن الخطير (4)، إلى غير ذلك من فصول ممتعة احتوى عليها كتاب "المسالك" لابن خرداذبة (5)، و"مقدمة" ابن خلدون، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة (6)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربّه (7).
ويتصل بهذا كتب في أخلاق الملوك؛ ككتاب: "أخلاق الملوك" للفتح
(1)"تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان (ج 2 ص 233).
(2)
محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي (451 - 520 هـ = 1059 - 1126 م) من فقهاء المالكية. من أهالي طرطوشة شرقي الأندلس، وتوفي بالإسكندرية.
(3)
عبد الرحمن بن عبد الله بن نصر (
…
- 590 هـ =
…
-1194 م) مصري. من كتّاب العصر الأيوبي.
(4)
أسعد بن مهذّب الملقب بالخطير (544 - 606 هـ = 1149 - 1209 م) كان ناظراً للدواوين في الديار المصرية، ولد بمصر، وتوفي بحلب.
(5)
عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة (نحو 205 - نحو 280 هـ = نحو 820 - نحو 893 م) مؤرخ جغرافي من أهل بغداد، من مؤلفاته:"المسالك والممالك".
(6)
عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (212 - 276 هـ = 828 - 889 م). إمام في الأدب، ولد في بغداد، وتوفي بها، من مؤلفاته:"الإمامة والسياسية"، و"عيون الأخبار".
(7)
أحمد بن محمد بن عبد ربه (236 - 328 هـ = 860 - 940 م) إمام في الأدب، وصاحب كتاب "العقد الفريد"، من أهل قرطبة.
ابن خاقان (1)، وكتاب:"التاج في أخلاق الملوك" للجاحظ (2)، وكتاب:"أخلاق الملوك" لمحمد بن حارث التغلبي (3)، و"التاج في سيرة كسرى أنوشروان" لابن المقفع (4)، وكتاب:"السفارة والسفراء"(5)، وكتاب:"جند الوزارة وحراسة حصن الصدارة" لحسن بن عبد الكريم البرزيخي (6)، وكتاب:"لطائف الأفكار وكاشف الأسرار" في علم السياسة، ألفه القاضي حسين ابن حسن السمرقندي، للوزير إبراهيم باشا سنة 936 هـ في خمسة أبواب، الأول: في السياسات، فهو من قبيل الموسوعات، لكنه يشتمل على ضروب من السياسة. منه نسخة في فيينا (7) ".
هذا ما اطلعنا عليه، أو على التعريف به في بعض كتب التاريخ، وقد منيت المكاتب الإسلامية من بلايا الأحراق والإغراق والإتلاف، التي سامها بها أعداء العلم على ما هو معروف في التاريخ من هجمات التتار على
(1) الفتح بن خاقان بن أحمد بن غرطوج (
…
- 247 هـ =
…
- 861 م) من الأدباء الشعراء. فارسي الأصل، اتخذه المتوكل أخاً له، وقتل معه.
(2)
عمرو بن بحر الشهير بالجاحظ (163 - 255 هـ = 780 - 869 م) إمام الأدب، ولد وتوفي بالبصرة.
(3)
"الفهرست" لابن النديم (ص 148).
(4)
عبد الله بن المقفع (106 - 142 هـ = 724 - 759 م) من كبار الكتاب، ولد في العراق، وقُتل في البصرة. انظر:"الفهرست" لابن النديم (ص 118).
(5)
توجد نسخة منه في مكتبة سماحة السيد البكري، وأخرى في الخزانة التيمورية.
(6)
"كشف الظنون"(480: 1) طبعة بولاق.
(7)
"تاريخ أداب اللغة العربية" لزيدان (ج 3 ص 340).
بغداد، ونائبة خروج المسلمين من الأندلس، ونكبات الحروب الصليبية في الشام ومصر وغيرهما؛ علاوة على ما غشي الأمة من ظلمات الجهل في عصورها الأخيرة، حتى ضاع من بين أيديها كثير مما أبقته تلك النكبات.
هذا وقد شهد أولو العلم أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة واسعة، وسنَّ لها نظماً عامة، حسبما نوافيك ببيانه في الموضع اللائق به؛ فصرفوا أنظارهم في دراسة تلك الخطة، والتفقه في هاتيك النظم؛ حيث كانت سياستهم العملية موصولة بها، وقائمة على أسسها، ومن المؤلفات على هذا النمط كتاب:"غياث الأمم" لإمام الحرمين، وكتاب:"الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" لابن القيّم، وكتاب:"السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية" لابن تيمية، وكتاب:"الأحكام السلطانية" للماوردي، وكتاب:"الأحكام السلطانية" للقاضي أبي يعلى (1)، وكتاب:"إكليل الكرامة" لصديق حسن خان (2)، ورسالة "السياسة الشرعية" لإبراهيم يخشى زادة، توجد في برلين (3).
آثر المسلمون أن ينظروا إلى السياسة بمرآة الشريعة، فترى كثيراً من رجال الدولة إذا حركوا أقلامهم في تحرير سياسي، نفخوا فيه روحاً من
(1) محمد بن الحسين (380 - 458 هـ = 990 - 1066 م) من علماء عصره في الأصول والفروع والفنون. من أهل بغداد. توجد نسخة من الكتاب في المكتبة الظاهرية بدمشق.
(2)
محمد صديق خان بن حسن القنوجي (1248 - 1307 هـ = 1832 - 1890 م) عالم إسلامي، ولد في "قنوج" بالهند، ورحل إلى بهوبال. وله تصانيف عديدة.
(3)
"تاريخ آداب اللغة العربية"(ج 3 ص 340).
حكمة الشريعة، وكسوه حلة من حلل آدابها الوضاءة، وانظر الكتاب (1) الذي أرسله طاهر بن الحسين (2) إلى ابنه عبد الله بن طاهر -لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما- تجده يقول فيه:"واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين، وطريقه الأهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم في ذلك بالسنن المعروفة".
ثم قال: "واقبل الحسنة، وادفع بها، وأَغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الزور والكذب، وأبغض أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب. وإن النميمة لا يسلم صاحبها، وقابلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم له أمر".
وكذلك يقول لسان الدين بن الخطيب (3) في رسالة له في السياسة (4): "رعيتك ودائع الله تعالى عندك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل
(1)"مقدمة ابن خلدون"(ص 254).
(2)
طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي (159 - 207 هـ = 775 - 822 م) من كبار الوزراء والقادة، ولد في بوشنج بخراسان، وسكن بغداد، وابنه عبد الله (182 - 230 هـ = 844 - 898 م) من أشهر الولاة في العصر العباسي.
(3)
محمد بن عبد الله بن سعيد الشهير بلسان الدين بن الخطيب (713 - 776 هـ = 1313 - 1374 م) من الوزراء الأدباء، ولد في غرناطة، وتوفي بفاس.
(4)
"نفح الطيب"(ج 4 ص 148) الطبعة الأزهرية.
إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك، وأفضل ما استدعيت به عونه منهم، وكفايته التي تكفيهم: تقويم نفسك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة ما لها وما عليها أخذاً يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها إلخ".
ويجري على هذا المثال رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري (1) لعمر ابن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما يقول فيها:"واعلم - يا أمير المؤمنين-: أن الله أنزل الحدود؛ ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ (2) ".
وكتب إليه في رسالة أخرى (3): "
…
فكن للمثل من المسلمين أخا، وللكبير ابناً، وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً؛ فتدخل النار".
فالحق أن حظ المسلمين في السياسة لم يكن منقوصاً، وأن منزلتهم فيها كانت فوق المنزلة التي قعد بهم المؤلف عندها، وبالغ في استصغار شأنها.
قال المؤلف في (ص 23): "ذلك وقد توفرت عندهم الدواعي التي
(1) الحسن بن يسار البصري (21 - 110 هـ = 642 - 728 م) إمام البصرة، وحبر الأمة في زمانه، عرف بالفصاحة والشجاعة، ولد بالمدينة المنورة، وتوفي بالبصرة.
(2)
"العقد الفريد"(ج 1 ص 4).
(3)
"سيرة عمر بن عبد العزيز"(ص 124).
تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق فيها، وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري، ونشاطهم العلمي، كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم، وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة، وتحببه إليهم".
قام المؤلف ليذكر لنا سبباً شأنه أن يغري المسلمين بالسياسة، ويجعلهم مولعين بالخوض في غمارها، والتفت يميناً وشمالاً، فوقع اختياره على انكبابهم على ترجمة الفلسفة والعلوم اليونانية ودراستها، ولم يهتد إلى أن لدى المسلمين سببين عظيمين يحثانهم على النظر في السياسة، ويؤكدان حرصهم على البراعة في صناعتها:
أحدهما: أنهم كانوا أمة فاتحة، بلغت في عزها وسطوتها أن قوضت عروش قوم جبارين، ومدت سلطانها العادل على شعوب مختلفة في طبائعها وعاداتها وطرق تفكيرها، والفاتح الغيور على استقلال بلاده أشد حاجة، وأسرع يداً إلى إتقان فن السياسة من مرتاح البال للبقاء تحت سلطة دولة أخرى.
ثانيهما: أن الإسلام شرع للسياسة أصولاً في أحسن مثال، وحارب الاستبداد باليمين والشمال، فأذاق أمته طعم الحكومة اللينة الحازمة، وشب في أحضانه رجال شهد بدهائهم السياسي أعداؤهم المنصفون.
هذان السببان ندبا المسلمين إلى النظر في مبادئ السياسة وأصول الحكم، فانتدبوا إليها، وكانوا أساتذة العالم في السياسة؛ كما كانوا أساتذته في العلوم الفلسفية، فهما أحق بأن يخطرا على قلب المؤلف، ولكنه يكره
أن يعترف بأن في تعليم الإسلام مبادئ سياسية، أو أن حكومة من حكومات الإسلام أذاقت الناس طعم السياسة الرشيدة.
قال المؤلف في (ص 23): "وهناك سبب آخر: ذلك أن مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - إلى يومنا هذا عرضة للخارجين عليه، المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفة إلا عليه خارج". ثم قال في (ص 24): "مثل هذه الحركة -حركة المعارضة- كان من شأنها أن تدفع القائمين بها إلى البحث في الحكم، وتحليل مصادره ومذاهبه، ودرس الحكومات وكل ما يتصل بها، ونقد الخلافة وما تقوم عليه، إلى آخر ما تتكون منه علوم سياسية، لا جرم أن العرب قد كانوا أحق بهذا العلم، وأولى من يواليه".
لم يعارض طائفة من المسلمين الخلافة في نفسها، أو كونها ذات حكومة يرأسها فرد، حتى تدعوهم المعارضة إلى درس الحكومات؛ ليختاروا منها الشكل الذي يروقهم، وإنما ينكر المعارضون شيئاً من تصرف الخليفة، أو يدعون أن غيره أحق بالإمارة وأقوم عليها، وهذا يقتضي البحث في طرق العدل وشروط الخليفة، وحكم الخروج عليه، وقد بحث أهل العلم في هذه المطالب بأوفى عبارة، وأبسط بيان، حرروا الكلام في الأصول الفارقة بين عادل الأحكام وجائرها، وأفاضوا القول في شروط الأمراء وموجبات خلعهم، ومتى بحثوا في الحكم من حيث انطباقه على مبادئ العدالة، أو انحرافه عنها، فإنهم لا يعرفون قانوناً لعدالة الأحكام أو جورها غير موافقتها لأصول الشريعة، أو نشوزها عنها، فمن هذا الوجه كان المعارضون يبحثون في الحكم، وينقدون سيرة الخلفاء مقتدين بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ