الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة: سد الذرائع؛ إذ لو وُجِّه اليمين على كل مدّعى عليه، لتمكن أهل السفاهة من امتهان أهل الفضل، ولا يشاء أحد أن يحلف أحداً من أهل الخير والفضل إلا ادعى عليه دعوى يتوصل بها إلى تحليفه وامتهانه.
ولعلك تستخلص من هذا المقال، على ما فيه من الجاز: أن شارع الإسلام يقصد إلى أن يكون للمسلمين دولة ذات صبغة دينية، وأنه سنّ لهذه الدولة سبيلاً متى جمح عنه الحاكم يميناً أو شمالاً، كان مسؤولاً للأمة المسلمة في الدنيا، ولمنزّل الشريعة في الآخرة. وقد حررنا لك فيما سلف: أن الشارع يوجه عنايته إلى حفظ الحقائق أو المصالح، ويترك الوسائل إلى اجتهاد أولي الأمر، يفرض الشارع تنوير عقول الأمة بالعلوم والمعارف، أما أن تكون مدة الدراسة أربع ساعات في اليوم، أو خمساً، وأن يشتغل طلبة العلوم بالسياسة، أو لا يشتغلون، وأن يعقد لهم امتحان في أول السنة، أو آخرها، وأن يمنح التلميذ حرية البحث في نفس الدرس، أو لا يفسح له في البحث إلا بمقدار، فذلك كله، وأمثاله معه، مما ينظر فيه أولو الأمر، ويُجرونه على حسب ما يتراءى لهم من المصلحة.
فقول المؤلف: "إن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم من أنظمة وقواعد وآداب إلخ" إنما هو قول من لم يقف على روح التشريع، ولم يدر أن ما لم تنص عليه الشريعة من الأنظمة، إنما هو من النوع الذي يتبدل على حسب ما تقتضيه طبائع الشعوب، وأحوال الأزمنة.
*
أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأخروية والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية:
قال المؤلف في (ص 85): "إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات
وآداب وعقوبات، فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية، أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية، أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول".
يقول المؤلف في هذه الفقرة: إن ما جاء به الإسلام من معاملات وعقوبات غير قائم على رعاية المصالح المدنية، ويقصد بهذا: أنها لا تصلح لأن تتمسك بها الدولة في سياستها، وما هو إلا الهوى تزوج بالعقيدة الشوهاء، فكان من نسلهما هذا الرأي العنيد.
أحكام الإسلام ترجع إلى: عبادات، ومعاملات، وعقوبات.
أما العبادات، فالقصد منها: مصلحة البشر الدينية، وقد تتبعها مصالح دنيوية؛ كما قال تعالى:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {نوح: 10 - 11].
وأما المعاملات والعقوبات، فإنه يراد منها: إقامة المصالح في الدنيا، وتترتب عليها مصلحة أخروية، وهي الثواب عليها في الدار الباقية، متى صحب العمل بها قصدُ الامتثال، وهذه المصلحة الأخروية لا تخرج المصلحة الدنيوية عن أن تكون هي المصلحة التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، وإن شئت تحرير البحث في هذا الصدد، فإليك التحرير:
للنفوس أربعة أحوال: لذة، وسرور، وألم، وغَمّ. فيلتذ الإنسان بالحكمة، ثم بالطيبات من طعام وشراب، وفراش لين، ونوم هادى"، ويسرّ بازدياد الولد وصلاحه، والانتصار على العدو، وأن يكون له لسان صدق في مجالس أهل الفضيلة. ويتألم من الوجع، ومذاق الطعام المر،
والشراب الملح الأجاج، وأن يقرع سمعه أنكر الأصوات، أو يمس بدنه حرّ سلاح أو سياط. ويغتم لفقد مال أو مفارقة صديق، أو استبداد حاكم غشوم.
ومن البديهي أن النفوس تحرص على ما فيه لذة أو سرور، وتنفر مما فيه ألم أو غم، فكل إنسان يسعى بفطرته إلى ما فيه لذته وسروره، ويحذر ما يلاقي به ألماً وغمّاً، ولا تكاد تصرفاته الصادرة عن إرادة وعزم تخرج عن أن يقصد بها نيل ما فيه لذة أو سرور، أو يحترس فيها عمّا فيه ألم أو غمّ، وإذا اعترض عما فيه لذة أو سرور، فلينال لذة وسروراً أعظم، وإذا اقتحم موقع ألم أو غمّ، فليخلص من ألم أو غمّ أشد أثراً، أو أطول أمداً.
وحيث كان الإنسان مخلوقاً على فطرة تستدعي أن يعيش في جماعة من أبناء جنسه، وتألَّف الناس بالفعل شعوباً وقبائل، أصبحت أسباب اللذة والسرور، والآلام والغموم تتصادم، فربّ عمل فيه لذة شخص أو سروره، يجر لآخر غماً أو ألماً، ورب إحجام إنسان عن موقع ألم أو غمّ يحرم غيره لذة وسروراً.
فنسمي اللذة والسرور وأسبابها: مصالح، أو منافع، ونسمّي الآلام والغموم وأسبابها: مفاسد، أو مضار، ونقول: إن تعارض الدواعي في جلب المصالح ودرء المفاسد يفضي بطبيعته إلى تنازع وتقاتل. فاقتضت الضرورة أن يكون للجماعة قانون يكبح القوى عن الاستئثار بمنافع الضعفاء، ويفصل ما ينتشب بين القوتين المتكافئتين من تدافع وخصام.
فالشرائع السماوية، والقوانين الوضعية، تتحد في أن القصد منها: حفظ المصالح، ودرء المفاسد على وجه يجعل كل أحد يصل إلى ملاذّه
ومسراته؛ بشرط أن لا يلحق بغيره ألماً وغمّاً، وتنفرد الشريعة السماوية بأن تجعل لتطبيق أحكامها بإخلاص مصلحة أخرى، وهي رضوان الله، أو نعيمه الدائم في الآخرة، وتمتاز بعد كون قوانينها أعدل وأشد مطابقة لمكارم الأخلاق، بأن الطائع لها إنما يطيع أمر ربه الأعلى، لا إرادة مخلوق قد يكون أقل منه علماً، أو أحطّ أخلاقاً، أو أسفه رأياً. وهذا المعنى الذي تختص به الشريعة السماوية، يجعل كثيراً من الناس يمتثلون قوانينها بباعث من أنفسهم، وإن أمنوا من عقوبة السلطان على مخالفتها.
وقد عقد أهل العلم خناصرهم على أن أحكام الشريعة معللة بمصالح العباد في هذه الحياة وفي تلك الحياة، وأن المصالح التي تقصدها الشريعة السماوية ترجع إلى حفظ النفس والدين والعقل والعرض والنسب والمال، فالقصاص -مثلاً- مشروع لحفظ النفس، وحدّ الزنا لصيانة النسب، وحد القذف لصيانة العرض ، وعقوبة شارب الخمر لصيانة العقل، والجهاد لحفظ الدين، بل الاستعمار الأجنبي دلّ على أن الجهاد مشروع لحفظ الدين والنفس والعرض والمال، ويرشد إلى هذا قوله تعالى:{وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8].
وكل ما شرع من أحكام المعاملات والتعازيز لا يخرج عن الاحتفاظ بهذه الحقوق.
وقد قال ابن الحاجب (1) في "مختصر منتهى السول"(2): إجماع الفقهاء
(1) عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن الحاجب (570 - 646 هـ = 1174 - 1249 م) من كبار فقهاء المالكية وعلماء العربية. ولد في أسنا من صعيد مصر، وتوفي بالإسكندرية.
(2)
انظر بحث: دليل العمل بالسير وتخريج المناط من القياس.
على أن أحكام الشرائع معللة، وأن التعليل يشمل كل فرد من الأحكام ..
وصرح عز الدين بن عبد السلام بأنها معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال في "قواعده" (1):"فصل في مناسبة العلل لأحكامها، وزوال الأحكام بزوال أسبابها، فالضرورات مناسبة لأباحة المحظورات جلباً لمصلحتها، والجنايات مناسبة لإيجاب العقوبات درءاً لمفاسدها". وقرر أبو إسحق الشاطبي في كتاب: المقاصد من "موافقاته": (2)"إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً".
ولبناء أحكام الشريعة على مصالح العباد في الدنيا، خاض أهل العلم في البحث عن هذه المصالح، وعقدوا الموازنة بينها وبين المفاسدة ليبنوا الحكم على الراجح منهما عند التعارض، كما فعل أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته"، وعز الدين بن عبد السلام في "قواعده"، وتجدهم ينظرون إليها كما ينظر إليها أصحاب القوانين الوضعية؛ من حيث عظمها وصغرها، ومن حيث ما يترتب عليها في الخارج من آثار نافعة، أو عواقب سيئة، فهذا عز الدين بن عبد السلام يقول: "فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد: إذا اجتمعمت المصالح مع المفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فعلنا ذلك؛ امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما، وإن تعذّر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة. قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة،
(1) نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية.
(2)
(ج 2 ص 2).
حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة
…
والضابط: أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد، سُعي في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية من المصالح، سعي في درئها؛ وإن التبس الحال، احتطنا للمصلحة بتقدير وجودها، وفعلناها، وللمفسدة بتقدير وجودها، وتركناها".
ومن جهة التعليل بالمصالح انفتح باب القياس في الأحكام، وهو إلحاق الوقائع بنظائرها المنصوص عليها حيث اشتركتا في علة الحكم، كما قاسموا القضاء في حال المرض على القضاء في حال الغضب المنصوص عليه في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي القاضي وهو غضبان"؛ لأن علة المنع من القضاء متحققة في حال المرض، وهي قلق الفكر واضطرابه.
قال المؤلف في (ص 85): "قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك التباين الذي نقول: إنه كان بين أمم العرب زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وأن تخدعك تلك الصورة المنسجمة التي كان يحاول المؤرخون أن يضعوها لذلك العصر، فاعلم أولاً: أن في فن التاريخ خطاً كثيراً، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالاً كبيراً! ".
شأن الباحث المحقق أن يحدّ رأيه من كل جهة، ثم يتعرض لما عساه أن يقع في سبيله من روايات المؤرخين، وينقده بحكمة، فيبين مخالفته لسنن الكون، أو لطبيعة حال الأمة التي يقص من أنبائها، أو يعارضه برواية هي أصح سنداً، وأرجح وزناً.
كل إنسان يعلم أن في التاريخ حقاً وباطلاً، ولكن وراء التاريخ علوماً وقواعد تميز حقه من ياطله، وصحيحه من سقيمه.
فهل نقل المؤلف الروايات التي حاول المؤرخون أن يضعوا بها لعهد
النبوة تلك الصورة المنسجمة، وبيّن وجه مخالفتها للسنن الكونية، أو لطبيعة الأمة العربية، أو نقضها بروايات هي أمتن سنداً، وأوفى وزناً؟.
كل ذلك لم يقع، ولم يزد المؤلف على مزاعم يلف حبلها على غاربها، ويرسلها سائبة في الورق كالضالة غير المنشودة، فلا شبهة تسترها، ولا دليل يقودها؛ كأنه يبعث بها إلى الصم البكم الذين لا يعقلون.
ولو كان هذا المنطق نافعاً، لكان لنا أن نكتفي في نقض هذا الكتاب بأن نقول لقارئه: قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك الكتاب الذي نقول: إن مؤلفه يجهل ما كان بين أمم العرب زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تخدعك تلك الصورة المزورة التي يحاول أن يضعها للحكومة النبوية، فاعلم أولاً: أن في الآراء خطاً كبيراً، وكم يخطئ الرأي، وكم يكون ضلالاً كبيراً!.
قال المؤلف في (ص 85): "واعلم ثانياً، أنه في الحق أن كثيراً من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم، وما جمعهم عليه من دين واحد، ومن أنظمة وآداب مشتركة".
يدّعي المؤلف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، والطريق النافع لهذه الدعوى أن ينقد الروايات الشاهدة بأنه عليه السلام كان يولي تلك الأمم أمراء يسوسونهم بالكتاب والسنّة والاجتهاد الصحيح، ولكنه بدل أن يأخذ في هذا الطريق العلمي، أخذ يتحدث بما لا يدخل في موضوع البحث، ولا يعود على تلك الدعوى بفائدة.
من أي منفذ يدخل في الموضوع قوله: "أن كثيراً من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلويهم"؟ ومن الذي يلتبس عليه التنافر والتباين في بعض عادات وآداب بالتباين في الحكم ومرجع السياسة؟