الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما يهول المسلم أن يسمع رجلاً نبت في بيت إسلامي، وشبّ في معهد ديني، وهو يتشدق بهذا الرأي، رافعاً به عقيرته، شأن من لم يطرق أذنه أمثال قوله تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]، وقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، وقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وإذا كانت الشؤون الحربية والمالية والقضائية مما جاء به صريح القرآن، فأيّ شبهة تبقى بيد من يزعم من أن قواعد الإسلام، ومعنى الرسالة، وروح التشريع، وتاريخ النبي صلى الله عليه وسلم، لا تصادم القول بأن تأسيس المملكة خارج عن وظيفة الرسالة؟
ولا ندري ما هذا الأمر الذي يصلح أن يكون دعامة وسنداً لرأي لو علق طلاؤه بأذهان المسلمين، لنبذوا شطر كتاب ربهم، وسنّة رسولهم، وكانوا من القوم الذين خسروا أنفسهم وهم لا يشعرون!.
وقول المؤلف: "ولكنه -على كل حال- رأي نراه بعيداً" إنما هو النافقاء يبنيها عقب آراء يثيرها في وجه الحقيقة، ويقنع من أثرها بالتشكيك، ولو جاءت هذه الكلمة كما تجيء الكلمات التي تقتضيها طبيعة البحث، لنبه على وجه بُعده؛ كما أجمع أمرَه على تقريبه وتأييده.
*
التنفيذ جزء من الرسالة:
تعرض المؤلف للقول بأن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة، متمم لها، وداخل فيها، وقال: ذلك الرأي الذي تتلقاه نفوس المسلمين
فيما يظهر بالرضا.
ثم قال في (ص 56): "ومن البين أن ذلك الرأي لا يمكن تعقله، إلا إذا ثبت أن من عمل الرسالة أن يقوم الرسول -بعد تبليغ الدعوة- بتنفيذها على وجه عملي؛ أي: أن الرسول يكون مبلّغاً ومنفذاً. غير أن الذين بحثوا في معنى الرسالة، ووقفنا على مباحثهم، أغفلوا دائماً أن يعتبروا التنفيذ جزءاً من حقيقة الرسالة، إلا ابن خلدون، فقد جاء في كلامه ما يشير إلى أن الإسلام دون غيره من الملل الأخرى قد اختص بأنه جمع بين الدعوة الدينية، وتنفيذها بالفعل".
يدع المؤلف دلائل الشريعة، ونصوص العلماء القائمة على أن التنفيذ جزء من وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقي قلمه في مهابِّ الشبه تخفق به من أمام إلى وراء، ومن اليمين إلى الشمال، يريد أن يتخذ من بحث أهل العلم في معنى الرسالة دليلاً على أن التنفيذ غير داخل في وظيفة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد حام على غير هدى، وتشبث بأوهى من عهد دولة استعمارية!
إن الذين يبحثون عن الحقائق العامة، إنما يشرحونها بالمعنى الذي تشترك فيه جميع أفرادها، وليس عليهم أن يتعرضوا لما يتصل بها من مقتضيات، أو ينضم إلى بعض أفرادها من مميزات، فإذا قالوا:"الرسول إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام"(1)، فإنما أرادوا تحديد المعنى الذي يتحقق به مفهوم الرسالة، وهذا لا يمنع أن يكون في الرسل عليهم السلام من أوحي إليه بتنفيذ ما أمر بتبليغه، فيكون التنفيذ داخلاً في وظيفته،
(1)"تعريفات السيد الجرجاني"(ص 9).
وكذلك كان التنفيذ للأحكام الشرعية داخلاً في وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وملقى عليه عبئه الثقيل من طريق الوحي، فيصح أن يكون مميزاً من مميزات رسالته، وإن لم يكن جزءاً من المعنى الذي يحدون به الحقيقة العامة للرسالة.
بعد أن حكى المؤلف ما كتبه ابن خلدون في الفصل الذي تكلم فيه عن اسم البابا، والبطرك، والكوهن.
قال في (ص 57): "فهو -كما ترى- يقول: إن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي، وإن السلطة الدينية اجتمعت فيه والسلطة السياسية، دون سائر الأديان". ثم قال: "لا نرى لذلك القول دعامة، ولا نجد له سنداً، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة، ولا يتلاءم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية كما عرفت".
ادّعى المؤلف أنه لا يرى للقول بأن الإسلام شرع تبليغي وتطبيقي دعامة، ولا يجد له سنداً، وعزّز هذه الدعوى بكلمة لا يحتمل تبعتها المنطقية، إلا من شعر بأنه في بيئة تلذّ صرير الأقلام المحاربة لدين الحق، وأن دمرت منطق أرسطو، وطمست معالم الحكمة، وهي زعمه: أن ذلك القول ينافي معنى الرسالة، ولا يلتئم مع ما تقتضيه طبيعة الدعوة الدينية.
يقول المؤلف: لا نرى لذلك القول دعامة، وهذه كتب السنّة مملوءة بالأحاديث الصريحة في أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر بالقاتل فيقتص منه، وبالسارق فتقطع يده، وبالزاني فيجلد أو يرجم، وبشارب الخمر فيضرب بالجريد أو النعال، وفي"صحيح البخاري": أنه قام عليه السلام فخطب، فقال: "يا أيها الناس! إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف، تركوه، وإذا سرق الضعيف، أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن