الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعرف كلُّ قوة -وإن كانت مسلحة-: أن إرادة الأمة قلاع لا تفتح، وجيش لا ينهزم، فلا يكون منها إلا أن تخضع أمام سلطانها، وتعصي داعي الأهواء في مرضاتها، ولا يضطهد المستبد حقوق القوم إلا أن يفهم أن إحساسهم بها لا يزال معدوماً، أو أن شمل إرادتهم ما برح في تخاذل وشتات. وما مثل الأمم في أعمالها وقوة إرادتها، إلا مثل السهم يخترق الهواء، ويرسم خطاً يمتد على قدر قوة الوتر الذي يدفعه، ومتانة القوس التي ينفذ منها.
فالأفراد الذي جلسوا على خلافة عرش الخلافة بقوة مسلحة، وعاثوا فيها فساداً، لم يلاقوا من الأمة قوة إرادة، ولم تكن للأمة قوة إرادة؛ لأن شعورها بحقوقها لم يكن عاماً، ولا يكون الشعور بالحق عاماً لتقلص نور التربية والتعليم، أو لاختلاف طرقهما اختلافاً يجعل الأذواق وطرق التفكير تتفاوت تفاوتاً بعيداً.
*
بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية:
قال المؤلف في (ص هـ 2): "وما كان لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش التي تحرس قصره".
وكتب معلقاً على هذا في أسفل الصحيفة ما نصه: "كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا، وكان الخليفة محمد الخامس".
لعل المؤلف كتب هذا الباب الثالث الذي هو في الخلافة من الوجهة الاجتماعية، قبل أن يؤلف الباب الأول الذي هو في تعريف الخلافة، والباب الثاني الذي هو في حكم الخلافة، فإنه ذكر في (ص 11) من الباب الأول رسالة الخلافة التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة، وهي بالطبيعة متأخرة عن وفاة محمد الخامس، ونقل في (ص 16) عن كتاب "الخلافة"
أو الأمامة للأستاذ السيد محمد رشيد رضا، وهذا الكتاب أيضاً لم يظهر، بل لم يؤلف إلا بعد حركة أنقرة التي ابتدأت بعد وفاة محمد الخامس، وأعجب من هذا: أن المؤلف ذكر في أول سطر من هذه الصحيفة التي تحدث فيها عن محمد الخامس كتاب الخلافة أو الإمامة للسيد رشيد، فلعله أيضاً ألّف شطر الصحيفة الأسفل قبل أن يؤلف شطرها الأعلى (1).
أراد المؤلف أن يتحدث عن جهل المسلمين بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات، ويعلله بضغط الخلفاء والملوك، فأملى على قلمه معنى هو: أن الخلافة والملك لا يرتكزان إلا على القوة القاهرة، والسيوف المصلتة، واستمر يلوكه في جمل يَركب بعضها بعضاً، وعزّ عليه أن يفارقها حتى امتلأت بها خاصرتا كتابه، وأوشك القارئ أن لا يفهم منها إلا أن المؤلف يبرق ويرعد على القوة الحاكمة، من حيث إنها ذات شوكة، وأعدت ما استطاعت من قوة الجند والسلاح.
قال ابن خلدون في "مقدمته"(2): "إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية".
وقال (3): "إن الملك إنما يحصل بالتغلب، "وإن التغلب إنما يكون بالعصبية".
(1) يقول الإمام محمد الخضر حسين في الحاشية: أتينا بهذه الكلمة -وإن لم يكن لها مساس بالموضوع العلمي- خدمة للتاريخ، حتى لا يتوهم القارئ أن محمد الخامس توفي بعد انعقاد المجلس الكبير بانقرة.
(2)
(ص 129).
(3)
(ص 132).
وقال: "إن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب
…
فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة، وتوارثوه واحد بعد آخر في أعقاب كثيرين، ودول متعاقبة، نسيت النفوس شأن الأولية".
أخذ المؤلف ما قرره ابن خلدون في سنّة قيام الملك، وأجراه على مشروع الخلافة.
فقال في (ص 25): "لا نشك مطلقاً في أن الغلبة كانت دائماً عماد الخلافة، ولا يذكر لنا التاريخ خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التي تحوطه، والقوة القاهرة التي تظله، والسيوف المصلتة التي تذود عنه، ولولا أن نرتكب شططاً في القول، لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا؛ ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة".
تناول المؤلف ما قرره ابن خلدون، وشمط القول في تعليله من أن الملك لا يحصل إلا بالتغلب، وأخذ يضرب به قوله: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد.
لا شك أن الفيلسوف ابن خلدون لا يرى تعارضاً بين مقالتيه؛ لأنه يفرق بين الخلافة والملك، وإن شئت تحقيق هذا البحث على وجه شرعي اجتماعي، فإليك التحقيق:
عرف الإسلام أن في الناس طبيعة التعصب للقومية، وأن هذه الطبيعة كثيراً ما تطغى، فتحمل صاحبها على التحيز لأخيه في القومية، والوقوف في صف أنصاره، وإن كان مبطلاً.
عرف الإسلام ذلك، فقرر مبادئ الأخوة والمساواة، وأتى بما يهذب
تلك الطبيعة، ويقيم أودها؛ حتى لا تخف بالقبيلة إلى معاضدة أخيها إذا نهض لإرغام حق، أو إقامة منكر.
قد يأذن الإسلام للرجل أن يؤثر بمعروفه أو مساعدته ابن عشيرته، أما عند تدبير مصلحة عامة، أو تقرير حقوق مشتركة، فيقطع النظر عن كل صلة، ولا يقيم لأي عاطفة وزنا، إلا ما تقتضيه المصلحة، وتشير به القوانين العادلة، والآراء الراجحة، ولمثل هذا وكَّل تعيين الخلافة إلى اختيار أهل الحل والعقد، وجعل المسلمين في هذا الحق عصبة واحدة.
ليس من المتعذر على المسلمين أن يسيروا على هذه الخطة، إذا لم يكن في ذي العصبية القوية من الكفاية ما يتحقق في غيره من ذوي العصبيات الواهنة، ومن المحتوم عليهم أن يختاروا ما فيه المقدرة الكافية، ويكونوا حوله قوة تنهزم أمامها كل عصبية قومية.
فإن كان ذو العصبية التي هي أشد وأقوى، كافياً لهذا المنصب، فللمسلمين أن يعدوا ما يحوزه من هذه القوة الطبيعية ميزة يرجح بها على غيره المماثل له في سائر شروط الخلافة، وهذا ما بنى عليه ابن خلدون فهمه لحديث:"الأئمة من قريش"، ورأى أن نسب القرشية في الحديث إنما يرمي إلى ما يحقق شرط الكفاية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة، وهو قوة الحامية، وقد اختصت قريش لذلك العهد من بين سائر القبائل بقوة العصبية، وشدة المراس، وذكر أن من القائلين بنفي اشتراط القرشي في الخلافة القاضي أبا بكر الباقلاني (1)؛ حيث أدرك ما آلت إليه عصبية قريش من التلاشي
(1) محمد بن الطيب بن محمد (338 - 403 هـ = 950 - 1013 م) قاض ولد في البصرة، وتوفي ببغداد.