الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
آثارها الصالحة:
الخلافة قامت بدعوة إلى دين القيّمة، ومدت إلى ظل الإسلام في أقاليم بعيدة ما بين المناكب، فأصبحت كلمته العليا، وأصبح المسلمون في عزّ شامخ، وحياة راضية.
فتحت الخلافة أوطاناً كثيرة، فأذاقتها حلاوة العدل بعد أن كانت تتجرع غصص الجور والاستعباد، وضربت فيها بأشعة التوحيد الخالص بعد أن كانت تتخبط في ظلمات الحيرة والضلال، وألبستها حلل الآداب الراقية بعد أن كانت منغمسة في عادات وتقاليد تشمئز منها النفوس، وتمجها الأذواق السليمة، ونسقتها بفضل الإسلام في تآلف واتحاد بعد أن كانت في تخاذل وشقاق.
أفلم يكن قسم عظيم من آسيا دافريقية يصلى نار الوثنية بكرة وعشياً، ويتبرج في مظاهر الهمجية تبرج الجاهلية الأولى؟! فكان من أثر الخلافة، وما قامت به من الدعوة، أن قلبت تلك النار إلى إيمان صادق، ووضعت مكان الخلاعة والهمجية حياء ونظاماً.
أينكر المؤلف أن استقامة رجال الخلافة، وسمعة سيرتهم العادلة كانت كالدعاية تتقدمهم إلى تلك الممالك، فلم يجدوا في فتحها ما تجده الفئة القليلة عند لقاء الفئة الكثيرة من طول المصابرة والثبات.؟!
ولا أحسبه يعدّ ثوب الإسلام الذي لبسته تلك الأمم من يد الخلافة نكبة، ولا دخولها تحت راية التوحيد شراً وفساداً. وليعمدْ إن شاء إلى حكومة عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز، ثم إلى أحدث الحكومات نظاماً، وأخفها على قلبه راية، ويعقد بينهما موازنة في الوجوه التي تتفاضل بها الدول؛
من عدل، وحرية، ومساواة، ثم ليتحدث معنا بضمير لا يحابي الشهوات، وكلمة لا تبخس رجال الإسلام حقهم، فلا جرم أن يعود وقتئذٍ عن حكمه القاسي على الخلافة، ويمحوه بالماء الذي يتقطر من جبينه خجلاً.
يقول المؤلف: كانت الخلافة ولم تزل نكبة، وينبوع شر وفساد، وجعل يلتقط من أيام خمول بعض الخلفاء، أو سوء سيرتهم ما يضعه سنداً لهذه المقالة المطلقة، اختار أن يكون كاتب سيئات الخلافة؛ ليقضي حاجة في نفسه، ولكن بعض من لا ينتمي إلى الإسلام من علماء الغرب، كانوا يكتبون حسناتها بقلم منصف خبير.
ومن كلماتهم الحافظة لشيء من محاسن الخلافة: قول (أدُلف فريدريك فون شاك) في كتاب: "الشعر والفنون الجميلة عند العرب في إسبانيا وصقلية": بينما أوروبا كادت تكون خالية من المدارس، إذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة فيها إلا الكهنة، كان العلم منتشراً في الأندلس انتشاراً عاماً، غير أن الحَكَم (1) -الخليفة الأموي- رأى أن الحاجة داعية إلى نشر العلم بطريق أوسع، فأنشأ في عاصمة ملكه سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء مجاناً، ولقد كانت سيول الشبان تنهمر على مجامع العلوم: قرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، ويلنسية، والمرية، ومالقة؛ حيث يتلقون العلوم، ويتسابقون في مضمارها، وكان العلماء والمتعلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي يتقاطرون على هذه المدارس التي ذاعت شهرتها حتى في بلاد آسية".
(1) الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله (302 - 366 هـ = 914 - 976 م) خليفة أموي أندلسي، ولد في قرطبة، وتوفي بها. قيل؛ إن مكتبته بلغت أربع مئة ألف مجلد.
لماذا خلع المؤلف من قلمه لجام الإنصاف، وجحد ما للخلافة من مآثر حميدة، وحاول أن يحثو عليها من كلمات هجائه ما يخفيها على أعين أبنائنا النجباء؟
ذلك ما ندع جوابه لقارئ كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بعد أن يسير غوره، ويشهد الروح الذي يموج في جسم ذلك الكتاب من رأسه إلى عقبه.
قال المؤلف في (ص 36): "منذ منتصف القرن الثالث الهجري، أخذت الخلافة الإسلامية تنقص من أطرافها، حتى لم تعد تتجاوز ما بين لابتي دائرة ضيقة حول بغداد". ومن بعد أن حكى كيف صار أكثر ممالكها إلى ملوك الطوائف، قال:"حصل ذلك، فما كان الدين أيامئذٍ في بغداد مقر الخلافة خيراً منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عن الخلافة، ولا كانت شعائرها أظهر، ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا في بغداد أحسن، ولا شأن الرعية أصلح".
ما كان للمؤلف أن يتنازل إلى هذا الدرك الأسفل من المغالطة؛ إذ لم يدَّع أحد قط صلاح شأن الرعية، وصيانةَ شعائر الدين مربوطان باسم الخلافة، وأن لقب الخليفة كالرقية النافعة يذهب به كل بأس، أو الدعوة المستجابة ينزل عندها كل خير، والذي نعلمه، ويعلمه أشباه العامة من المسلمين: أن الخلافة لا تريك آثارها، وتمنحك ثمارها من منعة وعزّة وعدالة، إلا إذا سارت على سنّة العزم في الأمور، والحكمة في السياسة.