الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدول ذات الدواوين الطويلة العريضة، فنحن نسميها مالية تؤخذ وتصرف بنظام، وللمؤلف الذي أشلى قلمه ليلغ في عرض الحكومة النبوية أن يسميها بما شاء.
*
لماذا لم يكن في عهد النبوة إدارة بوليس
؟
للحكومة مقومات: قانون يخضع له الجمهور، ورجال يقومون على تنفيذ هذا القانون، وأموال تقبض وتصرف في المصالح المشتركة، وقوة من الرجال والسلاح لدفاع العدو وكبح الثورة، وما عد هذا من المشروعات والنظم، فإنما يأتي على حسب تطور الزمان، وما يعرض من الحاجات.
فإذا رأينا جماعة يمسكون بأيديهم قانوناً يحفظ الحقوق، ويوجد بينهم من ذوي الكفاية للقيام على تطبيق هذا القانون وتنفيذه عددٌ غير قليل، ويجبي إلى خزانتها العامة من الأموال ما يقوم بمرافق حياتها الاجتماعية، وتنهض لحمايتها أو حماية قانونها جنود تخوض مواقع الحروب بما استطاعت من قوة، صحّ لنا أن نقول: إن هذه الجماعة ذات حكومة، وربما كانت الحقوق فيها محفوظة، والأمن سائداً، وإن لم تكن بها إدارة بوليس، وكذلك كان حال جماعة المسلمين لعهد النبوة؛ بحيث لو وضعت في تلك المناطق الإسلامية دوائر بوليس، لم يصر الأمن فيها أمكن، ولا الحقوق أكثر صيانة، وإليك الحجّة والبيان:
كانت حالة الأمة لعهد النبوة بالغة من الاستقامة إلى حيث تجدها في غنى عن دائرة محافظة أو "بوليس".
وقد يقول الناشئ فى مدينة يجوس الشرطي خلالها، ويسيطر على كل شارع من شوارعها: كيف يحفظ النظام في جماعة لا يقوم على رؤوسها
رجال يلبسون في الشتاء سواداً، وفي الصيف بياضاً (1)، ويعد كلمتنا مثلاً من أساطير الأولين، أو شهادة خطرت في موقف الدفاع عن أحكام سيد المرسلين، كلا، إن هي إلا حقيقة تسعدها الأدلة البينة، والتاريخ من ورائها شهيد.
بقيت راية الإسلام مرفوعة على المدينة المنورة وما حولها نحو سبع سنين؛ إذ كان من المحتم على كل من يعتنق الإسلام من القبائل أن يهاجر إلى المدينة المنورة، ولا يقيم بين قوم لا يؤمنون، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]. والحكمة من تلك الهجرة: أن يتقوى بهم جانب الدين، وليخلصوا من البيئة المتعفنة؛ فإنها تذهب بالغيرة على الحق، وتلبس الوجوه رقعة الصفاقة، وربما سرى وباؤها إلى النفوس الضعيفة، فزلزل عقائدها، وأطفأ نور إيمانها.
وفي السنة الثامنة من الهجرة فتحت مكة المكرمة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وقبائلَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندئذٍ:"لا هجرة بعد الفتح". وولّى على جميع البلاد والقبائل أمراء، وبثّ فيهم معلمين للقرآن وأحكام الشريعة. وتوفي في السنة العاشرة للهجرة بعد أن فتحت مكة، وتجاوز حكم الإسلام المدينة المنورة إلى مكة والطائف واليمن وما داناها من البلاد.
إذاً ننظر إلى حال المدينة المنورة مدة عشر سنين، وإلى حال غيرها من البلاد المدة التي أصبحت تحت حكم الاسلام لعهد النبوة، وهي السنتان.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وهاجر لهجرته أصحابه الأكرمون،
(1) من المعروف أن رجال الشرطة في مصر يرتدون اللباس الأسود شتاء، واللباس الأبيض صيفاً.
فانعقد بين المهاجرين والأنصار إخاء صادق، واتحاد متين، وكانت قلوبهم تفيض بتعاطف وتراحم بلغا حد الإيثار عن النفس، حتى قال الله تعالى في حق الأنصار:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
إيمان راسخ، وأدب متين، هما أثر ما كانوا يشهدونه من دلائل النبوة، ويتلقونه من حكمة بالغة، وموعظة حسنة، وشأن الذين بلغوا في التعاطف إلى حد الإيثار على النفس أن تكون الحقوق بينهم محترمة، وشأن القوم الذين يبصرون نور النبوة صباحاً ومساءً، أن لا ترى لهم عيناً تطمح إلى هتك عرض، ولا يداً تمتد إلى الاعتداء على مال، ولا فماً ينطق بكلمة قذع أو فحشاء.
وكان الذين يتقلدون الإسلام ديناً، يضعون أيديهم في يد رسول الله عليه السلام، ويبايعونه "على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا في معروف"(1). وقال عبادة بن الصامت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنّا، ولا نخاف في الله لومة لائم (2) ". ومن حديث جابر: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشترط عليَّ النصحَ لكل مسلم"(3).
ومن عرف أن هذه المبايعة من قبيل تأكيد العهد، ودرى كيف كان
(1)"صحيح البخاري"(ج 9 ص 80).
(2)
"صحيح البخاري"(ج 9 ص 77).
(3)
"منه".
العرب يحترمون ما يؤخذ عليهم من ميثاق، أدرك ما لها من أثر في اتقاء المحارم، والكفّ عن كثير من المخالفات التي لا يتحاماها بعض أسارى الشهوات إلا إذا كانوا بمرأى من شرطي لا يمالئ على باطل، ولا يلوث يده بارتشاء.
يُحتاج إلى الشرطي في قرية تفتح فيها حانات لتجرّع المسكرات، وبيوت يتجر فيها بنات الهوى بأعراضهن، ونواد يستباح بها لعب الميسر، ولكن المدينة المنورة، وكل بلاد فتحت لعهد النبوة، كانت طاهرة من حانات الخمور، نقية من بيوت الدعارة، سالمة من نوادي الميسر، خالصة من كل ما يثير العداوة والبغضاء.
وللإيمان الصادق زاجر لا يعصى، وسلطان لا يرشى، وهو الذي يجعل الرجل خصيماً للمنكر، حليفاً للحق، وكذلك كان الناس في عهد النبوة، فكل مسلم بمنزلة شرطي أمين، يحاسب نفسه، ويغير المنكر بيده أو لسانه، ويجيب إلى التقاضي بين يدي رسول الله، أو أحد خلفائه، ويقيم الشهادة بالقسط، ولو على أبيه أو زوجه أو بنيه.
كان في خلال الأمة المسلمة نفر من المنافقين، ولكنهم كانوا يصوغون مظاهرهم في أسلوب المؤمنين، ولمهارتهم في صناعة النفاق، قال الله تعالى يصفهم لنبيه الكريم عليه السلام:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاعه كانوا يقيمون الحدود والزواجر بعزم تبيت له النفوس الكريمة مطمئنة، وترتعد له القلوب القاسية رهبة، ومتى علم المنافق أنه ملاحظ بأعين شُرَط لا يغيبون عن مشهد، وتيقن أنه مُساق إلى محكمة لا تأخذها في
الحق لومة لائم، انصرف عن أهوائه خشية، وانكف عن الشر رياء وتصنعاً.
فغلبة التقوى والتراحم بين الأمة، واعتقادُ كل واحد منها أنه مسؤول عما يشهد من إثم أو عدوان، واجراء الحدود والزواجر بعزم لا يعرف هوادة، كل ذلك مما امتاز به عهد النبوة، وجعل الناظر في التاريخ بقلب سليم يشعر بأن الناس لذلك العهد ليسوا في حاجة إلى أن يقوم على رؤوسهم رجال يقال لهم: الزبانية، أو البوليس.
وقد أوجسنا خيفة بعد هذا أن ينظر المؤلف إلى كل ما يتصل بالحكومات الغربية أو الشرقية من نظام أو إدارة، ويتخذ عدم وجوده في عهد النبوة حجة على أن ليس هناك حكومة ونظام، حتى خشينا أن يسوق على هذا الغرض آيات بينات، وهي أنه لم يكن في عهد النبوة مجالس مختلطة، ولا صندوق دين عمومي، ولا أقلام تشفي غليل الإباحية بما تأذن به من تعاطي ما يدنس الأعراض، أو يفتك بالألباب.
قال المؤلف في (ص 45): "ومما يستأنس به في الموضوع: أننا لاحظنا أن عامة المؤلفين من رواة الأخبار يعنون -في الغالب- إذا ترجموا لخليفة من الخلفاء، أو ملك من الملوك، بذكر عماله من ولاة وقواد وقضاة إلخ، ويفردون له بحثاً خاصاً، يدل على أنهم عرفوا تماماً قيمة ذلك البحث من الجهة العلمية، فصرفوا من الجهد فيه والعناية به ما يناسبه، ولكنهم في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم إن عالجوا ذلك البحث، رأيتهم يزجون الحديث فيه مبعثراً غير متسق، ويخوضون غمار ذلك البحث على نسق لا يماثل طريقتهم في بحث بقية العصور".
أنكر المؤلف أن يكون لعهد النبوة حكومة ذات نظام، واستأنس لهذا؛
بأن رواة الأخبار إذا ترجموا لملك أو خليفة، يفردون لولايته وقضاته بحثاً خاصاً، وإذا عالجوا مثل هذا البحث في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم، زَجُّوا الحديث مبعثراً غير متسق، ولا ندري كيف يتم له هذا الاستئناس، وما يدعيه من أنهم يزجّون الحديث مبعثراً، فقصارى ما يؤخذ منه: أنهم لم يجيدوا صنع التأليف في السيرة النبوية؛ إذ لم ينسجوا على المنوال الذي نسج عليه المؤرخون في تراجم الخلفاء والملوك، فإن قصد إلى أن عدم تنسيقها على الوجه المذكور يدل على عدم صحتها، قلنا: هذه دلالة خفيت على المناطقة حين قسموا الدلالة إلى: مطابقة، وتضمن، والتزام.
المؤلفون في سنّة الرسول عليه السلام وأحواله: محدّثون، وأصحاب سير، ومؤرخون.
أما المحدّثون، فعنايتهم مصروفة إلى البحث عن أقوال الرسول عليه السلام، وأفعاله، وتقريره، وغايتهم الأولى: رواية الأحاديث التي يمكن أن يستمد منها أحكام شرعية، أو آداب نفسية، وهؤلاء إنما يذكرون اسم قائد، أو وال، أو قاض إذا جاء في رواية تتعلق بشيء من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، أو أفعاله، أو تقريره.
وأما أصحاب السير، فإنهم يبحثون عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم ولادته إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ويرتبون مؤلفاتهم ترتيباً طبيعياً، فيبتدئون بالحديث عن ولادته عليه السلام، ويتابعون البحث بمقدار ما وصل إليه علمهم، حتى أتوا على أيام قيامه بدعوة الرسالة، ثم هجرته إلى المدينة المنورة، ثم غزواته وسراياه، والوفود التي قدمت عليه، والرسل الذين وجههم إلى الملوك، ذلك كله مرتباً على حسب الأيام والسنين، ويذكرون