الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أصول سياسية وقوانين، وقال: إن كل ما جاء به الإسلام إنما هو شرع ديني، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.
وأخذ يتكلم عن حال العرب يوم لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، وزعم أنها وحدة دينية من تحتها دول تامة التباين إلا قليلاً، وتخلص من هذا إلى أن زعامة الرسول فيهم زعامة دينية، لا زعامة مدنية، فإذا ما لحق عليه السلام بالملأ الأعلى، لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني، وزعم أنه عليه السلام لم يشر إلى شيء يسمّى: دولة إسلامية، وأنه لم يكن في عمل النبي عليه السلام أن ينشئ دولة، واستشهد على هذا بأنه لم يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده، وتعرض لما انتُقدت به دعوى ابن حازم: أن النيي صلى الله عليه وسلم نصّ على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه. وقال: بل الحق أنه صلى الله عليه وسلم ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه، وقفل الباب بقوله: مات عليه الصلاة والسلام، وانتهت رسالته، وانقطعت تلك الصلة الخاصة التي كانت يين السماء والأرض في شخصه الكريم عليه السلام ".
*
النقض - سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي:
قال المؤلف في (ص 83): "البلاد العربية -كما تعرف- كانت تحوي أصنافاً من العرب مختلفة الشعوب والقبائل، متباينة اللهجات، متنائية الجهات. وكانت مختلفة أيضاً في الوحدات السياسية: فمنها ما كان خاضعاً للدولة الرومية، ومنها ما كان قائماً بذاته مستقلاً، كل ذلك يستتبع بالضرورة تبايناً كبيراً يين تلك الأمم العربية في مناهج الحكم، وأساليب الإدارة، وفي الآداب والعادات، وفي كثير من مرافق الحياة الاقتصادية". ثم قال: "تلك الوحدة
العربية التي وجدت زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن وحدة سياسية بأي وجه من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل لم تعدُ أبداً أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة، وحدة الإيمان والمذهب الديني، لا وحدة الدولة ومذاهب الملك".
لا حرج على تلك الأمم المختلفة في عاداتها وآدابها ومناهج حكمها، أن تنتظم بشريعة الإسلام؛ فإن القوانين تكون محكمة، وتسير على وجه مطرد، متى اتفق لها أمران: أن لا تكون مخلة بالمصلحة، وأن يتلقاها الجمهور بسكينة واطمئنان. وفي الشريعة بعض أحكام مفصلة؛ وسائرها أصول كلية حسبما قررناه أنفاً، أما الأحكام المفصلة، فإنها قائمة على رعاية مصالح لا تختلف باختلاف الشعوب والعادات، وما لم يفصل حكمه، فذلك موكول إلى نظر الحاكم، فينظر فيما يقتضيه حال العادات والأخلاق وطبيعة الاجتماع، ويستنبط له من تلك الأصول العامة حكماً مطابقاً. ولا شك أن الخضوع لأحكام الشريعة، مفصلة كانت أو مأخوذة باستنباط مستوف للشروط، هو من مقتضيات الإيمان بحكمتها.
فأخذ تلك الشعوب والقبائل تحت حكومة الإسلام لا يخل بشيء من مصالحها، كما أنه لا يتوقع من الجمهور أن يلاقي قضاء هذه الحكومة وإدارتها، بغير السكينة والاطمئنان.
وما زعمه المؤلف من أن تلك الوحدة العربية لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، زعم يضربه التاريخ الصحيح بيد عنيفة قاسية، "وما يدريك، فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان".
قال المؤلف في (ص 83): "يدلك على هذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما عرفنا
أنه تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة، ولا غيَّر شيئاً من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي، ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، ولا سمعنا أنه عزل والياً، ولا عين قاضياً".
مما لا تحوم عليه شبهة، ولا تخالجه ريبة: أن كل أمة تعتنق الإسلام يأخذ الحكم فيها صورة غير صورته الجاهلية، فالقضايا كلها، سواء كانت جنائية أم مالية، أم راجعة إلى أحوال الزوجية، إنما تفصل بحكم القرآن أو السنّة، أو بالاجتهاد المستند إلى القواعد المركوزة في نفس الواقف على روح التشريع، ومن شواهد هذا: حديث معاذ، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقد تضمن الحديث: أنه يقضي بكتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتهد رأيه، وقد صحح هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن العربي في "عارضة الأحوذي"، وصححه ابن قيّم الجوزية في "إعلام الموقعين"(1).
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه، وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك، إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي، فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره"(2).
وفي "صحيح البخاري": (3) أنه صلى الله عليه وسلم يبعث: "أمراءه واحداً بعد واحد،
(1)(ج 1 ص 243).
(2)
"فتح الباري"(ج 13 ص 189).
(3)
(ج 9 ص 86).
فإن سها أحد منهم، رده إلى السنّة" (1). وقال شرّاح الحديث:"فائدة بعث الآخر بعد الأول؛ ليرده إلى الحق عند سهوه".
وقال ابن حجر في "فتح الباري"(2): "والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد كانوا يتحاكمون إلى الذي أمِّر عليهم".
وروى مالك بن أنس (3) في كتاب "الموطأ"(4): أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم (5) في العقول: "أن في النفس مئة من الإبل، وفي الأنف إذا ادّعى جدعاً مئة من الإبل، وفي المأمومة (6) ثلث الدية، وفي الجائفة (7) مثلها، وفي العين خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة (8) خمس".
فهذه النصوص من رجال كانوا ينقدون الأخبار نقدَ الصيارف للدينار،
(1) فسر بعض أهل العلم السنّة: بالطريق الحق، والمنهج الصواب، وفسرها آخرون: بالشريعة المحمدية. انظر: "شرح العيني"(ج 11 ص 446).
(2)
(ج 13 ص 183).
(3)
مالك بن أنس بن مالك الأصبحي (93 - 179 هـ = 712 - 795 م) أحد الأئمة الأربعة، وإليه تنسب المالكية، ولد وتوفي بالمدينة المنورة.
(4)
كتاب: العقول من "الموطأ"(ص 235) طبع الهند سنة 1324 هـ.
(5)
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً على بني الحارث بن كعب.
(6)
المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس.
(7)
الجائفة: العيب العظيم.
(8)
الموضحة: الشجة تبدي وضح العظام، وهي التي تقشر الجلدة التي بين اللحم والعظم. وتجمع على مواضح.
تطعن في وجه ما يزعمه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين قاضياً، وتدل على أن أمراء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتصرفون في شؤون تلك الأمم على مقتضى الكتاب والسنة. وإن كان المؤلف في ريب مما يقوله حملة الشريعة وحفاظها، فهذا جرجي زيدان يقول في "تاريخ التمدن الإسلامي" (1):"لما ظهر الإسلام، كان النبي صلى الله عليه وسلم رئيس المسلمين في أمور الدنيا، وهو حاكمهم، وقاضيهم، وصاحب شريعتهم، وإمامهم، وقائدهم. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف، خوله السلطتين: السياسية، والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلِّم الناس القرآن".
وأما ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، أو ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، فمتى كان فيها ما لا يتفق مع المصلحة، أو ما يمس قاعدة من قواعد الدين الحنيف، فلا بد للحاكم المسلم من أن يغيره، ويجريه على ما يلائم القانون العادل، والأدب الجميل، والحجة على المؤلف في هذا قول جرجي زيدان:"وخوله السلطتين: السياسية، والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلم الناس القرآن".
يقول المؤلف: "ولا سمعنا أنه عزل والياً".
هذه كلمة لا فائدة لها سوى أنها تكثر سواد مزاعمه، فإن مدة بعث الأمراء في عهد النبوة لا تتجاوز ثلاث سنين، وهي مدة قصيرة قد يسير فيها الولاة على طريقة مثلى، فلا يقعون في زلة تستوجب عزلهم، فإن كان العزل عند المؤلف من أعلام الدولة، فقد ورد في الصحيح: أنه عليه السلام عزل
(1)(ج 4 ص 179).