المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌1 - فقه التوحيد

‌1 - فقه التوحيد

قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163].

وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]

التوحيد: هو أن يتيقن العبد ويقر أن الله وحده هو رب كل شيء ومليكه، وأنه وحده الخالق الذي يدبر الكون كله وحده، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال، منزه عن كل عيب ونقص، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا.

والتوحيد: مراد الله من عباده، وهو أحب شيء إلى الله، وهو المقصود من خلق الجن والإنسان، بل خلق الكون كله.

والتوحيد: ألطف شيء وأنزهه، وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كالثوب الأبيض يدنسه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها.

ولهذا تشوشه وتؤثر فيه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية.

فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه والتخلص منه.

والتوحيد: مفزع أولياء الله وأعدائه.

فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها كما قال الله عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65]

وأما أولياؤه فينجيهم من كرب الدنيا والآخرة.

ولذلك فزع إليه نوح صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله، ومن آمن به، وأغرق من كفر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ

ص: 1091

الْعَظِيمِ (76)} [الصافات: 75 - 76].

وفزع إليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فنجاه الله من النار، وجعلها برداً وسلاماً عليه كما قال سبحانه:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68 - 69].

وفزع إليه يونس صلى الله عليه وسلم فنادى ربه، وهو في بطن الحوت في ظلمات البحر فنجاه الله كما قال سبحانه:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88].

وفزع إليه محمد صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى المدينة فحفظه الله، وفي بدر فنصره الله كما قال سبحانه:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9].

وفزع إليه أتباع الرسل، فنجوا مما عُذب به المشركون في الدنيا، وما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة.

ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند معاينة الموت لا يقبل، وهذه سنة الله في عباده لا تتبدل كما قال سبحانه:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 18].

وقوة التوحيد والإيمان تقهر ما يضادها وتحرقه.

ومن الناس من يكون توحيده عظيماً كبيراً، ينغمر فيه كثير من الذنوب ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه، فيخلط توحيده الضعيف بما خالط به صاحب التوحيد العظيم توحيده فيسقط ويهلك.

وصاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات، يسامَح بما لا يسامَح به مَنْ أتى مثل تلك السيئات، وليست له تلك المحاسن.

ص: 1092

فما حصلت المطالب إلا بالتوحيد، ولا دفعت الشدائد إلا بالتوحيد، ولا ظفر بالجنة إلا بالتوحيد، ولا نجاة من النار إلا بالتوحيد، ولا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فالتوحيد مفزع الخلائق كلها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها.

ولله عز وجل على كل عبد ثلاثة أمور:

أمر يأمره به .. وقضاء يقضيه عليه .. ونعم ينعم بها عليه.

فواجبه في الأمر الطاعة .. وواجبه في القضاء الصبر .. وواجبه في النعم الشكر .. وهو لا ينفك عن هذه الثلاثة.

والتقصير والغفلة والنسيان من طبيعة البشر، فلا بدَّ له مع تلك الثلاثة من الاستغفار الكثير المستمر، لعظمة حجم النقص، والتقصير في حق الرب.

والقضاء نوعان:

إما مصائب .. وإما معائب.

وأحب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه، من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب كلها. فعبوديته في الأمر امتثاله إخلاصاً واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعبوديته في النهي اجتنابه خوفاً من الله، وإجلالاً له، وحياءً منه، ومحبة له.

وعبوديته في قضاء المصائب الصبر عليها، ثم الرضا بها، وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها، وهو أعلى من الرضا.

وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكن حب الله من قلبه، وعلم حسن اختياره له، وبره به، ولطفه به، وإحسانه إليه بالمصيبة وإن كرهها.

وعبوديته في قضاء المعائب المبادرة إلى التوبة منها، ووقوفه أمام ربه في مقام الاعتذار والانكسار، مستيقناً أنه لا يرفعها إلا هو، ولا يقيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرت أبعدته من قربه، وطردته من بابه.

فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن، فهو

ص: 1093

عائذ برضاه من سخطه، وبعفوه من عقوبته، وبه منه، مستجير وملتجئ إليه.

يعلم يقيناً أنه إذا تخلى عنه، وخلى بينه وبين نفسه، وقع في أمثالها أو شر منها، وأنه لا سبيل إلى الإقلاع عنها والتوبة منها إلا بتوفيقه سبحانه وإعانته، وأن ذلك كله بيده سبحانه لا بيد غيره.

ويستيقن أنه أعجز وأضعف وأقل من أن يوفق نفسه، أو يأتي بما يرضي سيده بدون إذنه ومشيئته وإعانته.

فهو ملتجئ إليه، ملق نفسه بين يديه، يعلم أن الخير كله بيديه، وأنه ولي نعمته، أعطاها له بدون سؤال، وابتدأه بها من غير استحقاق، وأجراها عليه، وساقها إليه، مع تبغضه إليه بإعراضه وغفلته ومعصيته، فحظه وحقه سبحانه الحمد والشكر والثناء، وحظ العبد الندم والنقص والعيب والتقصير.

فالحمد كله لله رب العالمين، والفضل كله منه، والمنَّة كلها له، والخير كله في يديه.

فمنه سبحانه الإحسان، ومن العبد الإساءة، ومنه التودد إلى العبد بنعمه، ومن العبد التبغض إلى ربه بمعاصيه.

وأما عبودية النعم: فمعرفتها والاعتراف بها أولاً، وعدم إضافتها إلى سواه وإن كان سبباً، فهو مسببه ومقيمه، فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار، ثم الثناء بها عليه، ومحبته عليها، وشكره باستعمالها في طاعته.

ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه .. ويستقل كثير شكره عليها .. ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها .. وأنها لله لا للعبد .. فلا تزيده النعمة إلا انكساراً وذلاً وتواضعاً ومحبة للمنعم .. وكلما جدد الله له نعمة أحدث لها عبودية ومحبة، وخضوعاً وذلاً .. وكلما أحدث له قبضاً أحدث له رضىً .. وكلما أحدث العبد ذنباً أحدث له توبة وانكساراً واعتذاراً.

فهذا هو العبد الكيِّس: الذي عرف أن مولاه واحد، بيده كل شيء، ومنه كل شيء، فأحبه وتولاه، ولزم بابه.

ص: 1094

فليس للعبد غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن تخلى عنه وأهمله هلك، لأنه ليس له من يعوذ به ويلوذ به غير سيده، وهو عبد مربوب مدبر مأمور منهي، يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه، وليس عند العبد عمل إلا تنفيذ أوامر سيده، والعمل بما يرضيه.

فهؤلاء هم عبيد الطاعة الذين آمنوا بربهم، وهم المضافون إليه سبحانه في قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65]

ومن عداهم عبيد القهر والربوبية وهم الكفار، وشأنهم شأن الملوك والأحرار، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهي إضافة مبنية على الملك والاقتدار. لا على الطاعة والامتثال.

والعبد حقاً من يعبد ربه في جميع أحواله:

فيكون عبداً مطيعاً من جميع الوجوه صغيراً أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، معافىً أو مبتلى، بالقلب واللسان والجوارح.

فالعبد وما يملك لسيده ومولاه، لا يتصرف إلا بأمره، وكيف يكون له في نفسه تصرف، ونفسه بيد ربه، وناصيته بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه.

وموته وحياته، وسعادته وشقاوته، وعافيته وبلاؤه، كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه شيء، بل هو ومن في العالم العلوي والسفلي في قبضته سبحانه، فكيف يرجو أو يخاف غيره؟.

فمن شهد ذلك صار فقره وضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يعلق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته ومعرفته.

ومعرفة الله نوعان:

الأولى: معرفة إقرار: وهي التي اشترك فيه جميع الناس، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]

ص: 1095

والثانية: معرفة توجب الحياء من الله، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إليه، والأنس به، ومحبته، والإنابة إليه، والفرار من الخلق إليه.

وهذه أعلى المعارف وأعظمها، وتفاوت الخلق فيها لا يحصيه إلا الذي عرفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم.

وكل يعبد الله ويطيعه ويتلذذ بذلك بحسب تلك المعرفة، وما كشف له منها، وقد قال أعرف الخلق به:«لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (1).

وأشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور في القلوب، وتفاوت أهلها في ذلك النور لا يحصيه إلا الله عز وجل.

فمن الناس من نور (لا إله إلا الله) في قلبه كالشمس .. ومنهم من نورها في قلبه كالقمر .. ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري .. ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم .. ومنهم من نورها في قلبه كالسراج المضيء .. وآخر كالسراج الضعيف .. وهكذا.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوب المؤمنين من نور هذه الكلمة.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معه شبهة، ولا شهوة، ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً.

فأي شبهة، أو شهوة أو ذنب أو معصية دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا عند غفلته، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعاف مكسبه.

(1) أخرجه مسلم برقم (486).

ص: 1096

فهو هكذا مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزائنه، وولى الباب ظهره، وتركهم يسرقون ويفسدون.

وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه فقط.

بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها.

ولا يحصل هذا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بدَّ من قول القلب وقول اللسان.

ومعرفة الله لها بابان واسعان:

الباب الأول: النظر والتفكر في آيات الله المتلوة، والنظر والتفكر في آيات الله المشهودة.

وتأمل حكمته فيها وقدرته، ولطفه وإحسانه وعدله، ويتم ذلك بمعرفة أسماء الله وصفاته، وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر.

فيكون العبد فقيهاً في أسماء الله وصفاته .. فقيهاً في أوامره ونواهيه .. فقيهاً في قضائه وقدره .. فقيهاً في الحكم الديني الشرعي .. فقيهاً في الحكم الكوني القدري .. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].

والله سبحانه المالك لهذا الكون، يدبره بحكمته، ويتصرف فيه بما يشاء، وهو على صراط مستقيم في قوله وفعله، وفي قضائه وقدره، وفي أمره ونهيه، وفي ثوابه وعقابه.

خبره كله صدق .. وقضاءه كل عدل .. وأمره كله مصلحة .. وما نهى عنه كله مفسدة .. وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته .. وعقابه لمن يستحق

ص: 1097

العقاب بعدله وحكمته.

وحكم الله في عباده نوعان:

حكمه الديني الشرعي .. وحكمه الكوني القدري.

والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني القدري لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه.

والقضاء هو الإتمام والإكمال، وإنما يكون بعد مضيه ونفوذه، فالحكم الذي نفذه الله في عبده عدل منه فيه، وذلك يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وعفو كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» أخرجه أحمد (1).

فجعل المضاء للحكم، والعدل للقضاء.

وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه، وقد يشاء تنفيذه، وقد لا ينفذه، فإن كان حكماً دينياً فهو ماضٍ في العبد، وإن كان كونياً، فإن نفذه سبحانه مضى فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه.

فهو سبحانه على كل شيء قدير، يمضي ما يقضي به، وغيره قد يقضي بقضاء، ويقدر أمراً، ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي ما شاء في أي وقت شاء، وفي أي مكان شاء.

وصلاح الحياة واستقامتها إنما تتم إذا كان الآمر في المملكة واحداً، فإن تعدد الآمرون بالحركات تعارضت حركات البشر بعضهم مع بعض وتعاندت، ثم

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (4318)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (199).

ص: 1098

فسدت الحياة والأحياء.

فالوحدانية أساس استقامة حركة الحياة.

فكما نوحده سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كذلك نوحده بعبادته وطاعته وحده لا شريك له.

فنطيع أمره وحده، ونجتنب نهيه وحده، ونؤمن به وحده .. ونتوكل عليه وحده، ونعبده وحده، ونستعين به وحده.

فلكي لا تتعاند الأقوال والأفعال، والأوامر والحركات، لا بدَّ أن يكون الهدف واحداً، والآمر واحداً، فإن اختلفت الأهداف، وتعدد الآمرون كان الفساد والفوضى.

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

والعابد حقاً من يأتمر بأوامر الله في جميع الأحوال، والشعائر كالصلاة والأذكار تعينك وتعطيك القوة ليزيد إيمانك، فيسهل عليك امتثال أوامر الله في كل حال.

والتوحيد هو الأصل العام الذي يرتبط بجميع الأعمال، وهو القاعدة التي ترجع إليها جميع التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات. فيجب قبل الدخول في الأوامر والنواهي .. وقبل الدخول في التكاليف والفرائض .. وقبل الدخول في الشرائع والأحكام .. أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم .. كما يعترفون بألوهيته وحده لهم في عقيدتهم.

لا يشركون معه أحداً في ألوهيته .. ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته.

فالشرك بكل أقسامه وصوره هو المحرم الأول، لأنه يجر إلى كل محرم، وهو المنكر الأول الذي يجر إلى كل منكر.

فيجب فوراً حشد الإنكار كله له، حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله .. ولا رب لهم إلا الله .. ولا حاكم لهم إلا الله .. ولا مشرع لهم إلا الله.

فمعرفة التوحيد أول واجب، وأعظم واجب على كل إنسان كما قال سبحانه:

ص: 1099

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].

والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور:

أحدها: بل أعظمها التفكر في سنن الله وآياته الكونية، وآياته الشرعية، ثم تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فذلك يوجب بذل الجهد في التأله والتعبد للرب الكامل الصفات.

الثاني: العلم بأن الله هو المتفرد بالخلق والتدبير، ومنه يعلم أنه المستحق للعبادة، المتفرد بالألوهية.

الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بهبة النعم الظاهرة والباطنة، المادية والروحية، الدنيوية والأخروية، فذلك يوجب تعلق القلب به، محبة ورغبة، وخوفاً ورهبة.

الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه، القائمين بتوحيده، من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين.

الخامس: معرفة الطواغيت التي فتنت الناس، وصرفتهم عن دين الله وكتبه ورسله، وأنها ناقصة باطلة من جميع الوجوه، لا تملك لنفسها ولا لعبَّادها نفعاً ولا ضراً.

السادس: أن خواص الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعلماً، وهم الأنبياء والرسل والملائكة والعلماء الربانيون قد شهدوا بذلك كما قال سبحانه:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].

وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).

لها وزن وثقل .. ولها عظمة .. ولها قيمة .. ولها قوة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن نبي الله نوحاً صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، قال لابنه: «إِنِّي قَاصّ ٌعَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ، آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بـ (لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ) فَإِنَّ

ص: 1100

السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ، لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَْرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ وَالْكِبْر» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد (1).

فكلمة التوحيد وزنها عظيم، فلو كانت لا إله إلا الله في كفة، وسبع أرضين بجبالها وسهولها .. وبحارها وأنهارها، ومدنها وقراها .. وإنسها وجنها .. وحيواناتها وطيورها .. وذهبها وفضتها، ومعادنها وحديدها .. وترابها ونباتها، وما في ظاهرها وما في باطنها ..

والسموات وما فيها من النجوم والكواكب .. السماء الأولى بملائكتها .. وهكذا إلى السابعة .. والجنة وكل ما فيها من القصور والحور، والولدان والغلمان، والأنهار، وجبريل وميكائيل وإسرافيل .. والصور وكل ما تحت العرش في كفة.

فلو وضعت السموات والأرض وما فيهما كما سبق في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله.

فمن كانت في قلبه كلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) كيف يكون وزنه عند الله؟ وكيف تكون منزلته عند الله؟

وكيف تكون جنته يوم القيامة؟

والدين أول ما يبنى من أصوله، ويكمل بفروعه، كما أنزل الله بمكة أصوله: من التوحيد والإيمان، والأمثال والقصص، والوعد والوعيد. ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة: من الأذان والإقامة، وصلاة الجمعة والجماعة، والجهاد والصيام، وتحريم السرقة والزنا، والخمر والميسر، وغير ذلك من واجباته ومحرماته.

فأصوله تمد فروعه وتثبتها وتقويها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها. وإذا جرد

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (6583)، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (558).

انظر السلسلة الصحيحة للألباني برقم (134).

ص: 1101

العبد التوحيد لله، خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله.

فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه، وخوفه منه، واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفاع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.

وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم وأكمل، وإن مَزج مُزج له، وإن كان مرة ومرة، كان الله له مرة ومرة.

وكلمة التوحيد (لا إلا إلا الله) مركبة من جملتين:

(لا إله) نفي .. (إلا الله) إثبات.

فالنفي أن يخرج فكره ويقينه عما سوى الله، من الأرض إلى السماء .. ومن الذرة إلى أعظم جبل .. ومن قطرة الماء إلى البحر .. ومن البعوضة حتى الفيل .. ومن النملة حتى جبريل .. ومن أصغر مخلوق إلى أكبر مخلوق.

فكل هذه مخلوقات ليس بيدها ولا بيد غيرها من المخلوقات نفع ولا ضر، فكلها ليست بإله، وإنما هي مخلوقة مملوكة مقهورة بأمر الله.

(إلا الله): إثبات الألوهية لله وحده، فيركز فكره ويقينه بأن الله وحده هو الإله الواحد الأحد القهار، فيعبده وحده ويطيعه، فإذا اعتقد ذلك أتبعه بشهادة أن محمداً رسول الله، فيتبعه في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، لأن الله بعثه إلينا رحمة بنا وبالعالمين جميعاً، لنقتدي به كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

والخلق والإيجاد، والتصريف والتدبير من صفة الربوبية.

والدين والشرع، والأمر والنهي، من صفة الألوهية.

والجزاء بالثواب والعقاب، والجنة والنار، من صفة الملك.

فأمر الله خلقه بإلهيته .. وأعانهم ووفقهم، وهداهم وأضلهم بربوبيته .. وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله.

ص: 1102

فهو محمود في إلهيته .. ومحمود في ربوبيته .. ومحمود في رحمته

ومحمود في ملكه كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4].

والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، والملك هو الذي يأمر وينهى، ويكرم ويهين، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويهدي ويضل.

فكيف يتوجه الناس إلى غيره وهذه صفاته .. وهذه أفعاله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

وقد فطر الله الناس على التوحيد، والفطرة فطرتان:

الأولى: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفة الله، ومحبته، وإيثاره على ما سواه.

الثانية: فطرة تتعلق بالبدن، وهي فطرة عملية، وقد أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«الْفِطْرَةُ خَمْسٌ (أوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) الْخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ» متفق عليه (1)

فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تزكي البدن وتطهره وتجمله.

وتوحيد الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله هو الأصل، ولا يغلط في توحيد العبادة إلا من لم يعطه حقه، فمن عرف الله أطاعه وخافه ورجاه.

وتوحيد العبادة أشهر نتائج توحيد الربوبية.

وكذلك الصبر، والرضا، والتسليم، والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، كل ذلك من نتائج توحيد الربوبية.

فإن توحيد العبادة إنما يكون بعد معرفة الرب، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة خزائنه وآلائه ونعمه، ومعرفة مخلوقاته.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5889)، ومسلم برقم (25)، واللفظ له.

ص: 1103

والتوحيد هو أساس الأعمال كلها، وهو قلبها ولبها وروحها، فكل عمل ليس معه التوحيد فهو باطل ولو كان على السنة، فقبول الأعمال له شرطان: أن تكون خالصة لله، وأن تكون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110]

فالقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده بكل شيء، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره، ولا يعتمد على أحد من خلقه.

فالله وحده هو القوي عنده، وهو القاهر فوق عباده، والعباد كلهم ضعاف مهازيل لا يملكون له نفعاً ولا ضراً.

فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم، وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.

والله وحده هو الغني وما سواه فقير، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بأنه الإله الذي يصرف الوجود كله، ومن ثم لا يختار غير ما اختار الله من الأحكام والشرائع، بل يطيع أمره وشرعه.

والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت قدرة الله في هذا الكون من أشياء وأحياء، فيأنس بالله، ويتفكر في مخلوقاته، ويتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء، أو التصرف في شيء إلا بإذن الله.

خالق كل شيء .. ورب كل شيء .. ومالك كل شيء.

والقلب المؤمن بحقيقة التوحيد .. هو القلب الذي عرف الله فتعلق به، ولم يلتفت إلى أحد سواه.

فهو يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدىً وبصيرة، لأن قلبه وبصره معلق باتجاه واحد، ولأنه لا يعرف إلا مصدراً واحداً للحياة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للعطاء والمنع.

فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، ويعبد رباً واحداً، يعرف ماذا يرضيه

ص: 1104

فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه.

والمخلوقات كلها أولها وآخرها، وصغيرها وكبيرها، لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله، وهي كالميت لا تعمل ولا تتحرك إلا بإذن الله، ومثالها كالحجر لا ينفع ولا يضر ولا يتحرك إلا إذا جاءت قوة خارجة أقوى منه فحركته، وهكذا كافة المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله وإرادته.

والمخلوقات قسمان:

شكل للنفع كالطعام والماء .. وشكل للضرر كالنار والسم.

وكل المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بإذن الله لا بذاتها، وهي مملوكة مأمورة مدبرة.

فالنَّار التي ألقي فيها إبراهيم صلى الله عليه وسلم مظهر للضرر، ولكن لما جاء إليها أمر الله لنصرة وليه، قلب حالها الذي خلقها، فصارت نافعة، وكانت برداً وسلاماً على إبراهيم.

والماء الذي يشربه قوم نوح مظهر للنفع، فجاء إليه أمر الله بالضرر فأغرق من كفر واستكبر من قوم نوح.

فالطيبات كلها أشكال للنفع، فإذا جاء إليها أمر الله بالضرر انقادت وأطاعت فضرت بإذن الله من شاء الله.

والطعام وإن جعله الله شكلاً للنفع، فهو لا ينفع ولا يضر بنفسه، فهو مخلوق ليس بيده شيء.

يأكله الصغير فيكبر، ويأكله الضعيف فيسمن، ويأكله الكبير فيضعف، ويأكله الشاب فأحياناً يزيد، وأحياناً ينقص، وأحياناً لا يزيد ولا ينقص، فالفعال هو الله وحده لا شريك له.

والطعام خلقه الله، وأنعم به على خلقه، وهو سبب يتلذذون به، ويمتثلون أوامر الله عند أكله، وهو مملوك مربوب لا ينفع ولا يضر كغيره إلا بإذن الله.

والخبائث والمؤذيات والمهلكات كلها أشكال للضرر، فإذا جاء إليها أمر الله

ص: 1105

بالنفع نفعت وانقادت وأطاعت لأمر ربها.

وحقيقة التوحيد: التعلق بالله وحده ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وعدم التعلق بغيره، أو الالتفات إلى ما سواه.

فحصول الضرر والنفع .. واختلاف الليل والنهار .. وتبدل الحر بالبرد .. وحصول الجوع والشبع .. والأمن والخوف .. والصحة والمرض .. والعزة والذلة .. والفقر والغنى .. ليست بذاتها .. بل أمر الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].

فالموحد لا يتعلق قلبه بالأسباب النافعة كالطعام والدواء مثلاً، ولا يتعلق بالأسباب الضارة كالنار والسموم، بل يتعلق قلبه بالله وحده، الذي له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وبيده مقاليد الأمور.

و {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)} [الحديد: 5].

والله عز وجل ابتلى كل إنسان بثلاثة أشياء:

ابتلاه بالمصائب، لينظر أين يتوجه القلب في جميع الأحوال، إلى الله أم إلى الأسباب؟.

فقلب المؤمن يتوجه عند الجوع إلى الله، وعند المرض إلى الله، وقلب الكافر يتوجه عند الجوع إلى الطعام، وعند المرض إلى الدواء .. وهكذا .. وابتلاه الله بالشهوات والأوامر، لينظر من يقدم أوامر الله على الشهوات، فالمؤمن يقدم أمر الله على المباحات، ومحبوبات النفس، والكافر يقدم محبوباته وشهواته على كل شيء.

وابتلاه بالحلال والحرام، ليعلم من يخافه بالغيب كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} [المائدة: 94].

فالمؤمن إيمانه يدفعه للانتفاع بالحلال، واجتناب الحرام، في جميع الأحوال، والكافر يقترف المحرمات والكبائر، لأنه ليس لديه إيمان يحجزه عن

ص: 1106

المحرمات والكبائر.

والتوحيد يقوم على ثلاثة أصول:

الأول: الاعتقاد واليقين بوحدانية الله، ومكانه القلب.

الثاني: النطق والإقرار، ومكانه اللسان.

الثالث: العمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، ومكانه الجوارح.

فإن أخل العبد بشيء من هذه لم يكن المرء مسلماً.

فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند مستكبر كفرعون وإبليس.

وإن عمل بالتوحيد ظاهراً وهو لا يعتقده باطناً. فهو منافق أشرُّ من الكافر.

والتوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب نوعان:

الأول: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو سبحانه الكامل وحده في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، الذي بيده كل شيء، خالق كل شيء المالك لكل شيء، المحيط بكل شيء، الذي ليس كمثله شيء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

الثاني: توحيد في القصد والطلب، وهو توحيد العبادة، وهو إفراد الله بجميع أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، فيتيقن العبد ويقر أن الله وحده ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وأنه سبحانه المستحق للعبادة وحده دون سواه.

فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة كالدعاء والصلاة، والخوف والرجاء، والتوكل والاستعانة، والذبح والنذر ونحوها إلا لله وحده دون سواه.

ومن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} [المؤمنون: 117].

والله تبارك وتعالى وحده هو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولكماله

ص: 1107

وجلاله وجماله وإحسانه، استحق أن يعبد وحده لا شريك له.

فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، وأن يعظم غاية التعظيم .. وأن يخضع له غاية الخضوع .. فهو وحده المعبود الذي تألهه القلوب وتحبه وتخضع له، وتذل له، وترجوه وتخافه، وتنيب إليه عند الشدائد، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتسكن إليه، وتطمئن بذكره وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].

وقد اجتهد الشيطان لإفساد هذا اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بين عموم البشر.

فزيَّن لآدم وزوجه الأكل من الشجرة، ليحصل لهما الملك والخلد بزعمه كما قال الله عن الشيطان:{قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} [طه: 120].

فأكل آدم من الشجرة، وعصى ربه، ثم تاب إلى ربه، فتاب الله عليه:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].

وزيَّن الشيطان كذلك لقوم نوح أن يصوروا الصالحين من الأموات ليتذكروهم ويتعظوا بعبادتهم، وينشطوا للعبادة إذا رأوهم.

ثم زيَّن لهم أن البناء على قبورهم، والعكوف عندها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.

ثم نقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور، والإقسام به على الله في قضاء الحوائج، لمكانته عند الله.

فلما تقرر ذلك عندهم.

نقلهم إلى دعاء الميت وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور والزهور، ويطاف به، ويستلم، ويحج إليه، ويذبح عنده.

فلما تقرر ذلك عند هؤلاء وألفوه، والشياطين تعينهم لما أشركوا بالله غيره،

ص: 1108

نقلهم الشيطان منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً يقصده الناس من كل مكان.

فلما تقرر ذلك عندهم، زيَّن لهم الشيطان ونقلهم منه إلى اعتبار أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وحط من قدرهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام. وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد؛ ورموهم بالعظائم، ونفَّروا الناس منهم وعنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه، ويأبى الله ذلك:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: 34].

فهذه خطوات الشيطان في إفساد يقين العباد على ربهم، وإغرائهم بعبادة الأصنام من دون الله، وقد حذرنا الله منه بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].

والتوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم هو إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن غيرهم، فمن عبد الله ليلاً ونهاراً، ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)} [النحل: 51].

ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد اتخذ إلهين اثنين، وهذا هو الشرك الذي حذرنا الله منه، وأمرنا بالتوحيد في جميع الأحوال كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].

فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو المؤمن الموحد الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو المشرك، ومن عبد غيره

ص: 1109

من دونه فهو الكافر الجاحد.

والناس كلهم مأمورون بالتوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

والتوحيد يرد الأشياء كلها إلى الله وحده خلقاً وإيجاداً، وبقاء واستمراراً، ونفعاً وضراً، ونجاة وهلاكاً، وحياة وموتاً، وغنى وفقراً.

والكفر والشرك يرد الأشياء كلها إلى غير الله.

فالتوحيد أعدل العدل .. والشرك أظلم الظلم.

ومن علامات ضعف التوحيد واليقين:

ضعف الدعاء، وهو غير تركه، فتركه استكبار .. وعدم الكلام عن عظمة الله .. وعدم التحدث بنعمه .. وقلة ذكره .. وقلة حمده وشكره .. وعدم الثناء عليه .. وعدم نشر دينه وشرعه .. وقلة ذكر أسمائه وصفاته .. وتعظيم المخلوق .. وكثرة ذكره .. وثقل الطاعات عليه .. وخفة المعاصي عليه .. وقلة الرغبة في سماع كلامه .. وعدم الطمأنينة والسكينة في مجالس الذكر.

والله عز وجل واحد لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

هو وحده أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخير الرازقين، له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وله ملك الدنيا والآخرة.

وهو وحده الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء، ويفرج الكربات، ويقيل العثرات.

وهو وحده الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر، ويرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده.

وهو سبحانه الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات ما لا يحصيه إلا هو، الذي عنت له الوجوه، وخشعت له الأصوات، وسبحت بحمده الأرض والسماوات.

ص: 1110

وهو سبحانه الذي لا تسكن الأرواح إلا بحبه، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تزكو العقول إلا بمعرفته، ولا تحيا القلوب إلا بلطفه، ولا يقع أمر إلا بإذنه، ولا يزول إلا بأمره، ولا يزيد ولا ينقص إلا بعلمه ومشيئته.

وهو سبحانه الذي لا يهتدي ضال إلا بهدايته، ولا يستقيم معوج إلا بتقويمه، ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته، ولا يحفظ شيء إلا بكلاءته، ولا يحصل شيء إلا بإذنه، ولا يفتتح أمر إلا باسمه، ولا يتم شيء إلا بحمده.

وهو سبحانه الذي لا يُدرك محبوب إلا بتيسيره، ولا تنال سعادة إلا بطاعته، الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأوسع كل مخلوق فضلاً وبراً.

وهو سبحانه الرب الحق، الإله الحق، الملك الحق، المتفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه، المتفرد بالجلال المطلق من كل الوجوه، المتوحد بالجمال المطلق من كل الوجوه، المبرأ من النقائص والعيوب من كل الوجوه.

لا يبلغ المثنون وإن استوعبوا جميع الأوقات بكل أنواع الثناء ثناء عليه، بل ثناؤه على نفسه أعظم وأكبر وأشمل من ثناء الخلق عليه.

سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)} [الزمر: 4].

إن مدلول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) يقتضي أن تكون الحاكمية العليا لله وحده في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في تدبير الكون سواء.

فهو سبحانه الحاكم الذي يحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو الحاكم الذي يحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته.

وبناء على هذا لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه .. ولا يتقدم بالشعائر التعبدية إلا لله وحده .. ولا يتلقى الشرائع والأوامر في شئون الحياة إلا من الله وحده .. ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يشرع أو يحكم في شيء من هذا كله مع الله.

وإن من الغيورين على الإسلام اليوم وقبل اليوم من يتحدثون لتصحيح شعيرة

ص: 1111

تعبدية، أو استنكار انحلال أخلاقي، أو مخالفة من المخالفات، وهذا واجب، ومن قام به مأجور.

لكن أوجب منه إنكار المنكر الأكبر، وهو قيام حياة الناس على غير التوحيد في العبادات والمعاملات والمعاشرات والأخلاق وغيرها.

والمرض المنتشر في العالم اليوم هو تصدع جدار التوحيد، فالناس يتوجهون في عباداتهم إلى الله، ويتوجهون في قضاء حاجاتهم إلى غير الله، من الناس والأحوال والأشياء والأحجار والأشجار والأموات والحيوانات.

ولإزالة هذا المرض الخطير نتوجه إلى الله في كل شيء، فهو الذي بيده كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، والقادر على كل شيء.

نتوجه إلى الله وحده لقضاء حوائجنا في جميع الأحوال، والله بيده خزائن الأموال، وبيده تغيير الأحوال، ولا ننظر إلى أحوالنا مهما كانت شديدة، فالله على كل شيء قدير:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

فإبراهيم صلى الله عليه وسلم ليس معه قوة ولا جيش، ولكن الله معه، فقلب الله سبحانه سلاح الأعداء وهو النار من ضار إلى نافع، وصارت النار بأمر الله برداً وسلاماً على خليل الرحمن.

والمشركون في بدر معهم قوة الأسباب، والمؤمنون مع رسول الله قلة في العدد والعدة، لكن الله معهم، فتوجهوا إليه فنصرهم، وأهلك أعداءهم.

فالمؤمن حقاً هو الذي يعلم ويتيقن أن الملك والتصريف والتدبير بيد الله تعالى لا بيد غيره.

فلا يرى نفعاً ولا ضراً .. ولا حركة ولا سكوناً .. ولا ظلمة ولا نوراً .. ولا خفضاً ولا رفعاً .. ولا قبضاً ولا بسطاً .. ولا حياة ولا موتاً

إلا والله عز وجل خالقه وفاعله ومدبره، فلا يحصل في ملكه سبحانه حركة ولا سكون، ولا حياة ولا موت، ولا نفع ولا ضر إلا بإذنه وأمره وإرادته سبحانه:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1].

ص: 1112

وأهل التوحيد متفاوتون في توحيدهم علماً ومعرفة وحالاً تفاوتاً لا يحصيه إلا الله الذي خلقهم ويعلم سرهم ونجواهم.

فأكمل الناس توحيداً الأنبياء والرسل، والمرسلون منهم أكمل في ذلك.

وأولو العزم من الرسل أكمل توحيداً وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وأكمل أولي العزم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فقد قاما بالتوحيد بما لم يقم به غيرهما، علماً ومعرفة، وحالاً وجهاداً، ودعوة للخلق إلى ربهم.

فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم من أجله، وصبروا على إبلاغه.

ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

ولما قاموا بحقيقة التوحيد جعلهم الله أئمة الخلائق، يهدون بأمره، ويدعون إليه، وجعل الخلائق تبعاً لهم كما قال سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].

إن التوحيد هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأخذ بها الميثاق عليهم في ذات أنفسهم، وهم بعد في عالم الذر.

فالاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الخالق فيه، وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته كما قال سبحانه:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: 172 - 174].

فالله عز وجل قد فطر البشرية كلها على التوحيد، أما الرسالات فتذكير وتحذير

ص: 1113

لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى، فيحتاجون إلى التذكير والتحذير فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ بداية خلقهم:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].

فلا حجة لهم في نقض الميثاق، حتى لو لم يبعث الله إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم، ولكن رحمة الله وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه فقد تنحرف، وألا يكلهم إلى عقولهم فقد تضل، فبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ومذكرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ألا ما أعظم قدرة الخلاق العليم، إنه مشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته، وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى وهي تجمع وتستشهد وتخاطب خطاب العقلاء، وتستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد، ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب.

إنه مشهد عظيم، مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تقف أمام الذي خلقها وفطرها، فيسألها ألست بربكم؟

فتعترف كلها لله بالربوبية .. وتقر له سبحانه بالعبودية .. وتشهد له سبحانه بالوحدانية .. وهي منثورة كالذر في الكثرة والحجم.

إن الإنسان ليصيبه الذهول .. ويرتعش من أعماقه .. وهو يتملى هذا المشهد العظيم .. ويتصور هذا الذر السابح .. وفي كل خلية حياة .. وفي كل خلية استعداد كامن للاستماع والفهم والإجابة .. وفي كل خلية إنسان كامل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور .. ويقطع على نفسه العهد والميثاق بالتوحيد قبل أن يبرز إلى حيز الوجود.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» . ثُمَّ

ص: 1114

يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآيَة. [الروم: 30]. متفق عليه (1).

وقد أنشأ الله البشر مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده، أودع هذا في فطرة كل حي فهو ينشأ عليه، حتى ينحرف عنه بفعل فاعل يفسد إيمانه، ويميل به عن فطرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يقول الله تعالى: وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» . أخرجه مسلم (2).

فالتوحيد ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها، مودع في كل خلية منذ نشأتها، وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات، وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله سبحانه.

فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها، ولا سبيل إلى أن يقول أحد إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد.

أو يقول إني خرجت إلى هذا الوجود فوجدت آبائي على الشرك، ولم يكن أمامي سبيل إلى معرفة التوحيد، إنما ضل آبائي فضللت فهم المسئولون وحدهم، فلن يقبل هذا كله يوم القيامة:{أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172، 173].

ولكن الله رؤوف بالعباد، يعلم أن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف، فرحمة منه بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا، كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به، حتى يرسل إليهم الرسل، ويفصل لهم الآيات، ليستنقذ فطرهم من الانحراف، ويستنقذ عقولهم من ضغط الهوى والضعف والشهوات.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1358) واللفظ له، ومسلم برقم (2658).

(2)

أخرجه مسلم برقم (2865).

ص: 1115

ولو كان الله تبارك وتعالى يعلم أن الفطر والعقول تكفي وحدها للهدى، دون رسل ولا رسالات، ودون تذكير وتفصيل للآيات، لأخذ الله عباده بها.

ولكنه سبحانه رحمهم بعلمه، فجعل الحجة عليهم هي الرسالة، كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} [الأعراف: 174].

يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله، وإلى ما أودعه الله في نفوسهم من قوى البصيرة والإدراك.

وذلك كفيل بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب التي ضلت، وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد، ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير.

وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي عهد الله الذي عقده مع البشر، المركوز في طبيعة كل حي أن يعرف خالقه، ويتجه إليه وحده بالعبادة.

فإذا نقض هذا العهد العظيم فقد دخل في الشرك الذي لا يغفر الله لصاحبه.

ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟

إن كان يتولاه لينصره ويعينه .. فالله هو فاطر السموات والأرض .. وهو خير الناصرين.

وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرزاق المطعم للخلائق كلها.

ففيم الولاء لغير صاحب السلطان المنعم الرزاق؟: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} [الأنعام: 14].

وقد كان كفار قريش يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يداً أخرى للإغراء والمصالحة واللين، وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أمر الله رسوله أن يقذف هؤلاء بالاستنكار العنيف، والحسم الصريح بقوله:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164].

ولماذا يتخذ العبد ولياً من دون الله؟

ص: 1116

ولماذا يعرض نفسه للشرك الذي نهى الله عنه؟

ولماذا يخالف الإسلام الذي أمره الله به؟

إن كان ذلك كله رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا، فهذا كله بيد الله، وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب، وله القهر على العباد، وبيده وحده النفع والضر، والعطاء والمنع:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17].

وهل يكون الإنسان مسلماً لله في عبادته، بينما هو يتلقى من غير الله في شئون الحياة، وبينما هو يخضع لغير الله، ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله؟

والمحبة الصادقة لله تقتضي توحيد المحبوب في كل شيء، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، التي تستلزم كمال التعظيم لله، مع كمال الذل له، وكل محبة لغير الله فهي عذاب ووبال على صاحبها.

ومن أعرض عن محبة الله، وذكره، والشوق إلى لقائه، ابتلاه بمحبة غيره، وعذبه بها في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

فإما أن يعذبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصلبان، أو بمحبة المردان .. أو بمحبة النسوان .. أو بمحبة الدينار .. أو بمحبة الغناء والفحش .. وغيرها مما هو في غاية الحقارة والهوان.

والإنسان عبد محبوبه كائناً ما كان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

والله سبحانه رب السموات والأرض وما فيهن، وهو الخالق وحده، القاهر وحده، الذي له الأمر كله، وما سواه مخلوق مربوب مقهور مأمور، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} [الرعد: 16].

ص: 1117

والله سبحانه هو الواحد القهار .. المدبر للكون والحياة، العليم بالظواهر والبواطن، والحق والباطل، والباقي والزائل.

فمن آمن به ووحده واستجاب لأمره فله الجنة، ومن أشرك به ولم يستجب لأمره فله النار {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} [الرعد: 18].

وهو سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، وهو الرقيب المسيطر عليها في كل حال، فكيف يجعل له البشر شريكاً الله خالقه ومالكه، وهو رقيب عليه:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} [الرعد: 33].

إن هؤلاء ستروا نفوسهم عن دلائل الهدى .. فحقت عليهم سنة الله .. ومن اقتضت سنة الله ضلاله .. لأنه سار في طريق الضلال فلن يهديه أحد .. لأن سنة الله لا تتوقف إذا حقت بأسبابها على العباد.

والكفار إن أصابتهم قارعة في الدنيا فهو عذاب، وإن حلت قريباً من دارهم فهو الرعب والقلق وتوقع الشر، وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب.

ومواجهة كل حادث وكل مصيبة بلا إدراك الحكمة عذاب، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أدوم وأشق:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} [الرعد: 31].

إن المؤمن حقاً هو الذي يعلم أن إلهه هو الذي يستحق أن يكون رباً لا رب سواه، ولا حاكم سواه، ولا مشرع سواه، ولا متصرف سواه، ولا معبود سواه، ولا مالك سواه.

ومن ثم فهو يعبد الله وحده، ويدين له وحده، لا في أوقات الصلاة فحسب، بل

ص: 1118

في كل شأن من شئون الحياة.

إن عبادة الأصنام والأوثان والأحجار وسائر الأوثان التي كان يزاولها أهل الجاهلية لا تستغرق كل صور الشرك بالله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، وإنما هي صورة من صور الشرك بالله التي يجب تغييرها، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له.

والوقوف بمدلول الشرك عند هذه الصور يمنعنا من رؤية صور الشرك الأخرى التي لا نهاية لها في ميادين الحياة في كل زمان ومكان.

إن التوحيد هو الدينونة لله في كل شيء، والشرك بالله يتمثل في كل وضع وفي كل حالة لا تكون فيها الدينونة خالصة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة، فالرب واحد، والمعبود واحد، والمطاع واحد، والآمر واحد لا شريك له:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

إن العبد الذي يتوجه إلى الله بالاعتقاد في ألوهيته وحده .. ثم يدين لله في الوضوء والصلاة، والصوم والحج، وسائر الشعائر .. بينما هو في الوقت ذاته يدين في حياته الاجتماعية والاقتصادية لشرائع من غير الله .. ويدين في قيمه وأخلاقه وأزيائه لأرباب من البشر .. تفرض عليه هذه الأخلاق والمعاملات والأزياء مخالفة لشرع الله وأمره .. فتارة ينفذ أوامر الله .. وتارة ينفذ أوامر البشر .. يدين لربه في حال .. ويدين لغيره في حال.

إن هذا العبد يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويخالف شهادة أن (لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) في أخص حقيقتها.

فأي إيمان؟ .. وأي توحيد؟ .. وأي اقتداء مع هذا الخلط العجيب؟.

{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].

ص: 1119

إن الإسلام هو الدين الحق الذي جاء لتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية التي تعبد من دون الله، وتوجيه الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

كما جاء الإسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن من شئون الحياة، وبين الدينونة لغيره في كل هيئة وفي كل صورة، وفي كل شأن من شئون الحياة.

فلا بدَّ من عرض الهيئات والصور والحركات على الشرع الإلهي، وتتبعها عند كل فرد، لتضبط وتعرف ويقرر ما إذا كانت توحيداً أم شركاً؟

موافقة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم مخالفة له؟

يدين بها العبد لله وحده، أم لشتى الطواغيت؟

إن دين الله عز وجل منهج كامل شامل لجزيئات الحياة اليومية.

والدينونة لله في كل جزئية من جزئيات الحياة، فضلاً عن أصولها وكلياتها، هي دين الله، وهو الإسلام الذي رضيه الله لنا إلى يوم القيامة، فلا يقبل من أحد ديناً سواه.

والشرك لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غير الله معه، ولكنه كذلك يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه.

فلينظر الناس لمن المقام الأعلى في حياتهم؟

ولمن الدينونة الكاملة؟ .. ولمن الطاعة الكاملة؟

ولمن الاتباع والامتثال؟

فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله .. وإن كان لغير الله معه أو من دونه فهم في دين الطواغيت: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].

وتوحيد الله عز وجل، وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان فقط، إنما هو منهاج حياة كامل يصبغ الحياة كلها بلونه.

يبدأ من اعتقاد بوحدانية الله .. وينتهي بنظام يشمل حياة الفرد والجماعة في

ص: 1120

جميع الأحوال والأماكن والأزمان.

وقد أنزل الله الكتاب بالحق على رسوله صلى الله عليه وسلم .. الحق الواحد الذي يصرف السموات والأرض .. ويصرف أهل السموات والأرض .. وهو المنهج الذي يسير عليه البشر في أنحاء الأرض بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.

والقلب الذي يوحد الله، يدين لله، وحده لا شريك له، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئاً من غيره.

والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله، ويؤمن بأن الدين الذي اختاره الله للبشر لا تصلح حياة البشر إلا به، ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه، ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم والسنن والأحكام، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله، ونظام الحياة الشامل.

وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات، وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً وفق أمر الله:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} [الزمر: 2].

إن التوحيد والشرك متقابلان، لا يجتمعان أبداً، فكما لا يجتمع النور مع الظلام، فكذلك لا يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد، وفي آن واحد.

وقد ضرب الله مثلاً للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء، يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتعارضة.

وعبد آخر يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلب منه، فهو مستريح مستقر على منهج واحد من مصدر واحد كما قال سبحانه:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}

ص: 1121

[الزمر: 29].

فهما لا يستويان، فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق.

والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب لا يستقر على حال، ولا يرضي واحداً منهم فضلاً عن أن يرضي الجميع.

وهكذا حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال.

فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو الذي يسير في هذه الحياة على هدى، لأن قلبه وبصره معلقان بإله واحد، يستمد منه الهدى والتوجيه، ويعتصم بحبله، لا يزوغ عنه بصره، ولا يتجه إلى غير فكره.

ويخدم سيداً كريماً غنياً قوياً واحداً، يعرف ماذا يرضيه فيفعله، ويعرف ماذا يغضبه فيجتنبه.

وبذلك تجتمع الطمأنينة وتتوحد، فالحمد لله الذي اختار لعباده طريق الأمن والإيمان، والراحة والطمأنينة، وطريق الاستقامة والاستقرار.

فهل يليق بالناس مع هذه النعمة الكبرى أن ينحرفوا عنه، ويقفوا بباب غيره؟ .. ويعرضوا عن باب الغني، ويقفوا بباب الفقير؟ .. وماذا يملك الفقير؟ وماذا يعطي؟ .. وماذا يملك العاجز للعاجز؟.

وهل يقضي الحاجات إلا الملك العزيز الجبار، الغني الكريم؟ الملك الذي كل شيء ملكه .. الغني الذي كل شيء في خزائنه .. العزيز الذي كل شيء تحت قهره .. الكريم الذي كل شيء من فضله .. العفو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً .. الرحمن الذي يرحم الخلائق كلها .. التواب الذي يتوب على من أناب إليه .. الودود الذي يتحنن إلى عباده بنعمه .. الخلاق الذي خلق الكون وما فيه.

هو الأول الذي ليس قبله شيء .. الآخر الذي ليس بعده شيء .. الظاهر الذي ليس فوقه شيء .. الباطن الذي ليس دونه شيء .. العليم الذي لا يخفى عليه شيء: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ

ص: 1122

وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 101 - 103].

إذا طلعت الشمس ميز الإنسان بين الذهب والحجر .. وإذا جاء نور الإيمان والتوحيد في القلب ميز العبد بين الكبير والصغير، والقوي والضعيف، ومن يستحق العبادة ممن لا يستحقها، وميز بين الدنيا والآخرة، ورأى كل شيء على حقيقته، ورأى الحق حقاً، ورأى الباطل باطلاً.

والتوحيد والإيمان حق الله على العباد، فينبغي تذكيرهم دائماً بهذا الحق. وقيمة الإنسان عند الله بإيمانه وتوحيده وصفاته لا بذاته، ففي المخلوقات من هو أكبر منه، وأقوى منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (1).

وشريعة الله للبشر إنما هي جزء من تشريعه وتصريفه للكون، فالأوامر الكونية والشرعية للمخلوقات كلها بيد الله وحده، ومخالفة الأوامر الشرعية زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.

وللعبد رب واحد هو ملاقيه، وبيت هو قادم إليه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.

وإن من المؤسف حقاً أننا نقف ضد مرتكب الجريمة في حق المخلوق وهذا حق، ولا نقف ضد مرتكب جريمة الكفر والشرك في شأن أحكم الحاكمين، وهذا حق أكبر من ذلك وأوجب:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي

(1) أخرجه مسلم برقم (2564).

ص: 1123

دِمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الإسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله» متفق عليه (1).

والمؤمن حقاً من جمع في كل وقت بين توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية:

فيشهد قيومية الرب تعالى فوق عرشه .. يدبر أمر عباده وحده .. يخلق ويرزق .. ويعطي ويمنع .. ويعز ويذل .. ويحيي ويميت .. ويدبر جميع الأمور في العالم العلوي والسفلي .. وما شاء الله كان .. وما لم يشأ لم يكن.

لا تتحرك ذرة إلا بإذنه .. ولا يجري حادث إلا بمشيئته .. ولا تسقط ورقة إلا بعلمه .. ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاه علمه .. وأحاطت به قدرته .. ونفذت به مشيئته .. واقتضته حكمته .. يفعل ما يشاء .. ويحكم ما يريد .. فهذا جمع توحيد الربوبية وشهوده.

وأما جمع توحيد الإلهية فهو أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله .. ويجمع إرادته وحركاته على أداء حقه تعالى .. والقيام بعبوديته سبحانه .. فتجتمع شئون إرادته على مراد الله الديني الشرعي.

وهذان الجمعان هما حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فإن العبد يشهد من قوله {إِيَّاكَ} الذات الجامعة لجميع صفات الكمال والجلال والجمال.

ثم يشهد من قوله: {نَعْبُدُ} جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة التي أمر الله بها خلقه، والتي تؤديها جميع الكائنات في ملكه.

ثم يشهد من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} جميع أنواع الاستعانة والتوكل والتفويض والتسليم لله.

ثم يشهد من قوله {اهْدِنَا} هداية الله له للعلم والإيمان .. وأن يقدره عليه .. ويجعله مريداً له، وأن يجعله فاعلاً له .. وإلا فهو غير قادر بنفسه .. وأن يثبته

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (25)، واللفظ له، ومسلم برقم (22).

ص: 1124

على ذلك .. وأن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له .. وأن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة.

وأن يشهده المقصود في الطريق فيكون مطالعاً له في سيره.

وأن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة.

وأن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها، وهما طريق أهل الغضب، الذين عدلوا عن اتباع الحق قصداً وعناداً بعد معرفته وهم اليهود، وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلاً وضلالاً بعد معرفتها وهم النصارى.

ثم يشهد جمع {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} في طريق واحد، عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين.

فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم، فمن حصل له هذا الجمع فقد هدي إلى الصراط المستقيم:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69 - 70].

وأول ما يتعلق القلب بتوحيد الربوبية .. ثم يرتقي منه إلى توحيد الإلهية .. والله عز وجل يدعو عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر .. ويحتج عليهم به .. ويقررهم به .. ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف: 87].

فأين يُصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله، وعن عبادته وحده، وهم يشهدون أنه لا رب غيره، ولا خالق سواه.

فجميع الخلق مقهورون تحت قبضة الله، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب كلها بيده، وكلها مملوكة له، مكشوفة كغيرها له.

من يهده الله فلا مضل له .. ومن يضلل فلا هادي له .. يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه .. وهذا عدله

ص: 1125

وقضاؤه ..

فإذا ثبت قدم العبد في توحيد الربوبية رقى منه صاعداً إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الخلق والأمر، والضر والنفع، والعطاء والمنع والهدى والضلال، والسعادة والشقاء، وكل شيء بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها وحده، وأنه لا موفق إلا من وفقه الله وأعانه، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وأن أصح القلوب وأسلمها من اتخذه وحده إلهاً ومعبوداً، فكان أحب إليه من كل ما سواه، وأرجى له من كل ما سواه، وأخوف عنده من كل ما سواه، فهذا علامة توحيد الإلهية في قلب العبد.

والله تبارك وتعالى يريد منا تحقيق التوحيد في حياتنا، وحياة البشرية كلها، كما حققه الله في الكون كله، وفطر كل مخلوق على التسبيح بحمده.

فخلق الله القلوب للتوحيد والإيمان واليقين .. وخلق اللسان لذكره وتكبيره .. وحمده والثناء عليه .. والدعوة إليه .. وتعليم دينه.

وخلق الجوارح لعبادته وطاعته وتنفيذ أوامره.

وكما يحرك الله الكون كله وما فيه بالسنن الكونية، كذلك هو يحب سبحانه من البشر أن يتحركوا بالسنن الشرعية التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، لأن له الخلق والأمر في الكون كله.

فلا سعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، ولا طمأنينة لها إلا بالإيمان والتوحيد.

فيطمئن كل قلب، وتحصل له السكينة بالإيمان بالله وتوحيده وذكره.

ويتحقق التوحيد في اللسان بالإقرار بالشهادتين، وذكر الله وتكبيره، وحمده والثناء عليه في كل حين.

ويتحقق التوحيد في الجوارح بطاعة الله ورسوله، وتطبيق مقتضيات الإيمان على كل عضو من أعضاء الإنسان.

فللبدن سنن .. وللقلب سنن .. وللسمع سنن .. وللبصر سنن .. ولليد سنن .. وللرجل سنن .. وللعقل سنن .. وللأكل سنن .. وللنكاح سنن .. وللوضوء

ص: 1126

سنن .. وللصلاة سنن .. وللباس سنن .. وللسفر سنن .. وللكسب سنن .. وللعبادات سنن .. وللمعاملات سنن .. وهكذا.

فالكون له سنن .. والإنسان له سنن، والكون كله عابد لربه مطيع، فالإنسان كذلك لا بدَّ أن يكون عابداً مطيعاً لربه ليفوز بالجنة والسعادة، فإن عصى تحمل تبعة معصيته بالعقوبة في الدنيا والآخرة.

فهذه السنن والآداب والأحكام من لوازم التوحيد والإيمان، وهي مظهره وثمرته، لكنها لا تنفع ولا تقبل إلا مع الإيمان والتوحيد، كما أن التوحيد والإيمان لا ينفع بدونها:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].

ص: 1127