الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - فقه المحبة
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31].
وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].
المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام.
ومحبة الله ورسوله ودينه وأوليائه هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.
وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في مجار الظلمات.
وهي الشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال .. والمقامات والأحوال.
والمحبة: توحيد المحبوب بالمحبة، وذلك بسقوط كل محبة في القلب إلا محبة الحبيب، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وأن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
فتهب إرادتك وعزمك ونفسك وأفعالك ووقتك ومالك لمن تحبه .. وتجعلها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه .. فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك
…
فتأخذه منه له سبحانه.
وتمحو من القلب ما سوى المحبوب وما يحب، وهذا كمال المحبة، فما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
وحقيقة المحبة:
ميل الإنسان للشيء بكليته، ثم إيثاره له على نفسه وروحه وماله، ثم موافقته له سراً وجهراً، ثم علمه بتقصيره في حبه.
والمحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدره الله وقضاه، والمرء مع من أحب، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواع الثمار، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وأثمرت الطاعة والموافقة.
ومحبة العبد لربه لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة، وزاد البر، قويت المحبة.
ولا نهاية لجمال المحبوب سبحانه، ولا لجلاله، ولا لبره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم، وكانت على قلب رجل واحد منهم، ثم كانوا كذلك الواحد، كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله من المحبة.
وأصل حب الله لا ينفك عنه مؤمن، أما قوة الحب فينفك عنه الأكثرون.
وقوة الحب للرب تحصل بأمرين:
أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد والصبر.
الثاني: قوة معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ثم تبعها العمل.
ويحصل ذلك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومداومة ذكره، ومعرفة جلاله وإنعامه وإحسانه.
والله تبارك وتعالى جعل الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يُعبد، يحب أن يُّحمد، ويثنى عليه، ويُذكر بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ويحب من يحبه، ويحمده ويثني عليه، وكلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن
يحبه ويحمده ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه؛ لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به، ولذا لا يغفر الله أن يشرك به؛ لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة، والتسوية فيها بينه وبين غيره.
ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده إذا كان من البشر، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة.
والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً، وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات في حقه.
ومتى علم سبحانه بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة.
أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبودية والمحبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
والله عز وجل يحب نفسه أعظم محبة، ويحب من يحبه ويطيعه ويعبده، وخلق خلقه لأجل ذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك.
وهذا محض الحق الذي قامت به السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذي خُلق له، فرضي عنه خالقه وبارئه وأحبه، وإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها.
فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته.
والأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده هي:
قراءة القرآن وسماعه بالتدبر .. والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض .. ودوام
ذكره على كل حال .. وإيثار محابه على محاب النفس .. مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها .. فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محاله .. ومشاهدة بره وإحسانه وآلائه .. ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة .. وانكسار القلب بين يديه سبحانه .. والخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل لمناجاته وتلاوة كلامه .. والتلذذ بمناجاته ثم استغفاره .. وحضور مجالس الذكر .. ومجالسة المحبين الصادقين.
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم.
كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222].
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [آل عمران: 146].
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134].
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة: 4].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (1).
والمحبة على ثلاث درجات:
الأولى: محبة تقطع الوساوس، وتلذ الخدمة، وتسلي عن المصائب.
فالوساوس والمحبة متناقضان، فإن المحبة توجب ذكر المحبوب، والوساوس تقتضي غيبته عنه، حتى توسوس له نفسه بغيره، والمحب يلتذ بخدمة محبوبه، فيرتفع عن التعب الذي يراه الخلي في أثناء الخدمة.
والمحبة تسلي عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب التي يصيبه بها حبيبه.
هي محبة تنبت من مطالعة العبد منة الله عليه، ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة،
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5861)، ومسلم برقم (782)، واللفظ له.
وبقدر ذلك تكون المحبة، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وليس للعبد قطّ إحسان إلا من الله، ولا إساءة إلا من الشيطان، ومن أعظم منة الله على عبده هدايته، وتأهيله لمحبته ومعرفته، وإرادة وجهه، ومتابعة خليله.
وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، وهذا النور متفاوت في قلوب المؤمنين.
وتثبت هذه المحبة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.
وهذا الاتباع يوجب محبة الرب لعبده، ومحبة العبد لربه، وليس الشأن في أن تحب الله فقط، بل الشأن أن يحبك الله، والله لا يحبك إلا إذا اتبعت خليله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وصدقت خبره، وأطعت أمره، وآثرته طوعاً.
الثانية: محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، وتلهج اللسان بذكره، وتعلق القلب بشهوده، ويتم ذلك بمطالعة صفات الرب جل جلاله، وشهود معاني أسمائه، والنظر في معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة في الأنفس والآفاق.
ولكمال هذه المحبة فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه، فيؤثره على غيره، وإذا أحب الله عبداً أنشأ في قلبه محبته.
الثالثة: محبة خاطفة تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم، وهذه أعلى درجات المحبة.
والعقل والشرع والفطرة كلها تدعوا إلى محبته سبحانه، بل إلى توحيده في المحبة.
وقلب المحب دائماً في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، وقوة تعلق المحب بمحبوبه توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه.
ويظهر صدق المحبة في أربعة مواطن:
أحدهما: عند أخذ الإنسان مضجعه، وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه، فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه، وشغل قلبه به.
الثاني: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه، فإنه إذا استيقظ ورُدَّت إليه روحه رُدَّ معها إليه ذكر محبوبه الذي قد كان غاب عنه في النوم.
الثالث: عند الصلاة، فإنها محك الأحوال، وميزان الإيمان، وبها يوزن إيمان الإنسان ومقدار قربه من الله، فهي محل المناجاة والقربة، ولا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه منها إذا كان محباً، فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له، ومثوله بين يديه وقد أقبل محبوبه عليه.
فإذا قام العبد إلى الصلاة هرب وفر مما سوى الله إليه، وآوى عنده، واطمأن بذكره، وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته.
فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة.
الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده، فعند الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربة من محبوبة، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه.
فإذا خاف فوتها، بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته من خالق أو مخلوق محبوب.
ولهذه المحبة علامات:
منها إدمان النظر إلى المحبوب.
ومنها إغضاؤه عن نظر محبوبه إليه مهابة له، وحياء منه، وتعظيماً له.
ومنها كثرة ذكر المحبوب، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره بقلبه ولسانه.
ومنها الانقياد لأمر المحبوب في أي حال.
ومنها قلة صبر المحب عن المحبوب، فينصرف صبره إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه.
ومنها الإسراع إليه في السير .. ومنها محبة أحباب محبوبه ..
ومنها الإقبال على حديثه .. وإلقاء سمعه كله إليه
…
فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء لديه الحديث عنه .. ومنها غيرته على محبوبه
…
وغيرته لمحبوبه .. ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة به .. ومنها خضوعه لمحبوبه .. ومنها هجر كل سبب يقصيه عن محبوبه .. وارتياحه لكل سبب يدنيه من محبوبه. ومنها بذل كل ما يملك في سبيل مرضاة محبوبه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15].
وتنقسم المحبة باعتبار الباعث عليها إلى قسمين:
أحدهما: محبة تنشأ من الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم.
الثاني: محبة تنشأ من جمال المحبوب وكمال أسمائه وصفاته.
فأما الأول: فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نَفَسٍ ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في كل أحواله.
ولا سبيل إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النَّفَسِ التي لا تكاد تخطر ببال العبد، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس، فلله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، وكل نعمة تحتاج إلى شكر.
فإذا كان هذا أدنى نعمة عليه، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].
هذا إلى جانب ما يصرف عن العبد من المضرات وأنواع المؤذيات التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً.
والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال سبحانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42].
فالله عز وجل منعم عليهم بحفظهم وحراستهم مع غناه التام عنهم، وفقرهم التام إليه سبحانه، فإنه غني عنهم من كل وجه، وهم فقراء محتاجون إليه من كل وجه.
خلق لهم ما في السموات وما في الأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وأكرمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا.
وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وكتب لهم بالسيئة الواحدة سيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة.
وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفر ربه غفر له.
ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة.
وشرع لهم سبحانه التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم.
وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمرهم بها، وخلقهم لها، وخلقها لهم، وأعطاهم إياها، وأعانهم عليها، ورتب عليها الجزاء بمنه وكرمه.
فمنه السبب، ومنه الجزاء، ومنه التوفيق، ومنه العطاء أولاً وآخراً.
وهم محل إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله من الله أولاً وآخراً.
أعطى عبده المال وقال: تقرب به إليّ أقبله منك، فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولاً وآخراً.
فكيف لا يحب الإنسان مَنْ هذا شأنه؟
وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه سبحانه؟
ويفرح سبحانه بتوبة العبد إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه سيئاته، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها.
وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم كما قال سبحانه:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7]
فانظر إلى هذه العناية .. وهذا الإحسان .. وهذا التحنن والعطف .. وهذا التحبب إلى عباده .. وهذا اللطف التام بهم.
فما أجدر العبد بطاعة ربه، وعبادته وحده لا شريك، ودوام الحمد والثناء عليه، وإفراده بالمحبة والتعظيم.
ومع هذا كله .. بعد أن أرسل الله إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله.
فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله الشفاء، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وصاحب الحاجة يسأله قضاءها.
ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10].
وقال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53].
فهذا الباب العظيم يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه، فإن نعمه على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات.
فهذه محبة للرب تنشأ من مطالعة المنن والإحسان، ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف القلب عندها.
وكلما ازداد العبد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه.
والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إذا دخلوا منه، دُعوا من الباب الآخر وهو:
القسم الثاني: وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص خلقه وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً، الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم.
فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة مَنْ هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدها نقصاً، وأبعدها من كل خير.
فإن الله عز وجل فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ومعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل.
وكل كمال وجمال في المخلوق فمن آثار صنعه سبحانه، وهو سبحانه الذي لا يحد كماله، ولا يمكن لأحد أن يحيط بجلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته، وعظيم إحسانه، وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» أخرجه مسلم (1).
فهو سبحانه المحمود على كل ما فعل، وعلى كل ما أمر، إذ ليس في أفعاله
(1) أخرجه مسلم برقم (486).
عبث، ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل، والرحمة والرأفة.
وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل، فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته.
ولا يتصور بشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفيه حقه، ولو شهد العبد بقلبه صفة واحدة من صفات كماله؛ لأستدعت منه المحبة التامة عليها.
وهل ما مع المحبين من محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به.
فأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً له.
ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة، وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى.
وهل الأوامر والنواهي إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟
وهل خلق الله خلقه إلا لعبادته التي هي غاية محبته والذل له؟
وكل ما سوى الله باطل، وكل محبة متعلقة بغيره باطلة، والمحبة الحق ليست إلا محبته سبحانه.
وكل كمال في الوجود فهو من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء، وهل الكمال كله إلا لله وحده لا شريك له.
فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء.
ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها، فالله جل جلاله له
الكمال المطلق في كل شيء، فكيف لا يفرده العباد بكمال المحبة؟
وكل كمال في الوجود فهو من آثار كماله سبحانه، وكل علم في الوجود فهو من آثار علمه سبحانه، وكل قدرة في الوجود فهي من آثار قدرته.
فنسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله سبحانه كنسبة علوم الخلق وقدرتهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته.
ولا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه وتعالى، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له نسبة.
بل يجب أن يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
فهذا عقد الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا غنى للعبد عن ذلك، بل هي مسألة تفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل الداخل فيه إلا بها، ولا فلاح له ولا نجاة إلا بها.
ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة (أن لا إله إلا الله) فإن لا الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه، وتدعوه، وتتوكل عليه في مصالحها، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
والمحبة درجات متفاوتة:
بعضها أكمل من بعض، فمحبة عامة الناس تنبض من مطالعة النعم والآلاء، ولهذه المحبة منشأ وثبوت ونمو.
فمنشؤها: الإحسان ورؤية فضل الله ومننه على عباده.
وثبوتها: باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونموها وزيادتها: يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربه، فهو فقير
بالذات، وربه غني بالذات، فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دامت استجابته لله بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتزيد، وإنما كانت هذه محبة العوام؛ لأن منشأها من الأفعال لا من الأسماء والصفات والجمال والجلال.
فلو قطع الإحسان من هذه القلوب لتغيرت، وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها هو الإحسان، ومن وَدَّك لأمر ولّى عند انقضائه، وبتلك المحبة يتلذذ المحب بخدمة محبوبه.
وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان.
ولينظر هل هو متلذذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله عز وجل.
وبمحبة الله يسلو العبد عن المصائب، فإن المحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال بما فاته، فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى في محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضاً عنه أصلاً.
فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه، فجميع المصائب لا يمكن دفعها بمثل محبة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (1).
والمحبة الصادرة من الناس خمسة أنواع:
أحدها: محبة الله، وهذه لا تكفي للنجاة من عذاب الله، فإن المشركين واليهود والنصارى يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحب الله من الإيمان والأقوال والأعمال والطاعات والأخلاق والشرائع والأشخاص ونحوها.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).
وهذه هي التي تدخله في الإسلام، وتخرجه من الكفر، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة كما قال سبحانه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} [آل عمران: 31].
الثالث: الحب لله، والحب في الله، وهذا من لوازم محبة ما يحب الله.
الرابع: المحبة مع الله، وهي محبة أهل الشرك، فكل من أحب شيئاً مع الله لا لله، ولا من أجله، ولا فيه، فقد اتخذه نداً من دون الله، وهذه محبة المشركين.
الخامس: المحبة الطبيعية كمحبة الماء والطعام، والزوجة والأولاد ونحو ذلك، فهذه لا تذم إلا إذا أشغلت عن ذكر الله، وألهت عن محبته وطاعته.
والمحبة في الله من كمال الإيمان، فمن كان حبه وبغضه، وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان.
أما الحب مع الله فنوعان:
أحدهما: نوع يقدح في أصل التوحيد وهو شرك كمحبة المشركين لأصنامهم وأندادهم كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والدعاء، وهذا شرك لا يغفره الله.
الثاني: محبة ما زينه الله للنفوس من الشهوات كما قال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
ولهذه المحبة ثلاث درجات:
فإن أحبها لله توصلاً إلى طاعته، واستعانة بها على مرضاته، فهذه يثاب عليها.
وإن أحبها موافقة لطبعه وهواه، ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه، كانت من المباح الذي لا يعاقب عليه، ولكنه ينقص من كمال محبة الله، وإن كانت هي
المقصودة وقدمها على ما يحبه الله كان ظالماً لنفسه متبعاً لهواه.
والمحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب.
وكمال المحبة:
أن نحب الله .. ونحب ما يحبه
…
ونبغض ما يبغضه.
فإذا أحببنا ما لا يحبه الله صارت محبته ناقصة، وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاصها له.
ومحبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وكل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة محمودة .. أو محبة مذمومة.
فجميع الأعمال الصالحة المبنية على الإيمان لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله ورسوله .. ودينه وشرعه .. وأوليائه وعباده الصالحين.
وجميع الأعمال السيئة لا تصدر إلا عن المحبة المذمومة.
ولا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد وحبه كله لله عز وجل، وإلا فمحبة المخلوق من الشهوات السابقة تجذبه.
وحب الخلق له سبب يجذبهم إليه به، وحب الناس له يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته، وإلا جذبوه وأخذوه إليهم كحب امرأة العزيز ليوسف صلى الله عليه وسلم.
فإن قوة إيمان يوسف صلى الله عليه وسلم ومحبته لله وخشيته له كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها.
وقد يحبونه لعلمه ودينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية لله، وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والصدر والجاه فتنة لكل مفتون، وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب أو حصل نوع بغض.
فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم،
وأعداؤه يسعون في أذاه وضره.
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون تحصيل أغراضهم به.
فإن لم يكن الإنسان عابداً لله، متوكلاً عليه وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة.
وكل إنسان يحب من أحسن إليه، ولاطفه وواساه، ونصره وقمع أعداءه، وأعانه على جميع أغراضه، فهذا محبوب عنده لا محالة.
وإذا عرف الإنسان حق المعرفة علم أن المحسن إليه هو الله سبحانه وتعالى فقط، وأنواع إحسانه لا يحيط بها حصر كما قال سبحانه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].
ولو أن شخصاً أنعم عليك بجميع ما يملك، ومكنك منه لتتصرف فيه كيف شئت، فإنك تظن بل تجزم أن هذا الإحسان منه.
وهذا غلط .. فإنه إنما تم إحسانه بماله، وبقدرته على المال، وبداعيته الباعثة له على صرف المال.
فمن الذي أنعم بخلقه؟ وأنعم بخلق ماله؟ ومن الذي خلق فيه إرادة الإنعام؟ ومن الذي حببك إليه، وصرف وجهه إليك دون غيرك؟ ومن الذي ألقى في نفسه وقلبه أن صلاح دينه ودنياه في الإحسان إليك؟ ولولا ذلك ما أعطاك، فكأنه صار مقهوراً في التسليم ولا يستطيع مخالفته.
فالمحسن حقيقة هو الله وحده لا شريك له، فهو الذي أمره واضطره وسخره لك، فهو جار مجرى خازن الملك، الذي أمر أن يسلم خِلعة الملك لهذا الإنسان.
فالخازن لا يرى محسناً بتسليم خِلعة الملك؛ لأنه مضطر إلى طاعته، ولو خلاه الملك ونفسه لما سلم ذلك، وكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله، حتى يسلط الله عليه الدواعي، ويلقي في نفسه أن حظه في بذل
ذلك فيبذله.
فينبغي للعارف أن لا يحب إلا الله، إذ الإحسان من غيره محال، وإحسان الناس من إحسان الله عز وجل.
والمحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب في الطباع، فكيف إذا كان محسناً إليك وإلى كافة الخلق.
وهذا يقتضي حب الله تعالى غاية المحبة، وحُبّ ما يحب، بل يقتضي أن لا يحب غيره، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الخلق كافة بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، فكيف يكون غيره محسناً، وذلك المحسن حسنة من حسنات المحسن سبحانه.
وكل من كان متصفاً بصفات الجلال والجمال كالقوة والرحمة وغيرهما، أو كان منزهاً عن الصفات الرذيلة، فإن ذلك يوجب له المحبة.
فصفات الأنبياء والصديقين الذين تحبهم القلوب طبعاً ترجع إلى علمهم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وإلى قدرتهم على إصلاح نفوسهم وتزكية قلوبهم.
وإذا نسبت هذه الصفات إلى صفات الله عز وجل وجدتها مضمحلة بالنسبة لصفات الله سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته.
أما العلم فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ونسبة علمهم إلى علمه سبحانه كذرة من جبل، أو قطرة من بحر، بل أقل، وأما صفة القدرة، فالله على كل شيء قدير، وإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرته تعالى وجدت أن ذلك قطرة من بحر، بل أقل.
فإن أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، قدرته محدودة، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا
أذنه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات.
وما هو قادر عليه من نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته، وخالق أسبابه، والممكِّن له من ذلك.
ولو سلط الله سبحانه بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته. فليس للإنسان قدرة إلا بتمكين مولاه، ونواصي الخلق كلهم في قبضته وقدرته، إن أهلكهم لم ينقص من ملكه وسلطانه ذرة، وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعبأ بخلقهم، فهو الغني القوي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى أحد:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28].
فلا قادر على كل شيء إلا هو سبحانه، ولا قوي إلا هو، فله الكمال والعظمة والبهاء والكبرياء والقهر والجبروت.
فإن تُصور أن نحب قادراً لكمال قدرته وعظمته وعلمه فلا يستحق ذلك سواه، ولا يتصور كمال التعظيم والتقديس والتنزيه إلا له سبحانه وحده لا شريك له.
فهو الواحد الذي لا ند له، الفرد الذي لا شريك له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له.
القادر الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
والمحبة قسمان:
محبة خاصة .. ومحبة عامة.
فالمحبة الخاصة: هي محبة العبودية التي تستلزم كمال الذل والطاعة للمحبوب، وهذه خاصة بالله وحده.
أما المحبة العامة المشتركة فهي ثلاثة أنواع:
الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام.
الثاني: محبة إشفاق كمحبة الوالد لولده، أو محبة إجلال كمحبة الولد لوالده.
الثالث: محبة أنس وإلف كمحبة الصديق صديقه، ومحبة الشريك شريكه ونحوهما.
وهذه المحبة بأقسامها الثلاثة لا تستلزم التعظيم والذل، ولا يؤاخذ بها أحد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِينَ» متفق عليه (1).
وكل شيء في العالم لا يجوز أن يحب لذاته إلا الله سبحانه، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره لا لذاته، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا الله وحده.
وكل محبوب سواه إذا لم يحب لأجله فمحبته فاسدة.
والله عز وجل خلق في النفوس محبوبين:
حب الغذاء .. وحب النساء.
لما في ذلك من حفظ الأبدان، وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس، ففسدت أبدانهم.
ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، فخلت الأرض منهم، والمقصود بوجود ذلك بقاء كل منهم ليعبدوا الله وحده، ويكون هو المعبود المحبوب لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره.
وحب الأنبياء والمرسلين وشعائر الدين والمؤمنين تابع لمحبة الله، فإن من تمام محبته حب كل ما يحب سبحانه.
ومحبة الله تعالى يدعيها كل أحد، وذلك غير صحيح حتى تمتحن النفس بالعلامات، وتطالب بالبراهين العملية الدالة على صدق محبة الله، ومنها تقديم ما يحبه الله من الأقوال والأعمال على ما تحبه النفس من الشهوات والملاذ والأموال والأوطان وغيرها.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (15)، ومسلم برقم (44)، واللفظ له.
ومنها أن من أحب الله فإنه يتبع رسوله فيما جاء به، فيفعل ما أمر به، ويجتنب ما نهى عنه، ويتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه.
ومنها أن المحبين لله يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله بالنفس والمال واليد واللسان، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فلا يؤثر فيهم إزدراء الناس لهم، ولومهم إياهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54].
ومنها حب لقاء الله تعالى في الجنة، فمن أحب محبوباً أحب لقاءه، وهذا لا ينافي كراهة الموت.
ومنها أن يكون مؤثراً لما يحبه الله على ما تحبه نفسه.
ومنها أن لا يعصي الله، ومن أحب الله فلا يعصه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بأصل المحبة.
ومنها أن يداوم على ذكر الله، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه.
ومن اجتمعت فيه علامات محبة الله فقد تمت محبته، وصفا في الآخرة شرابه، ومن امتزج بحبه حب غير الله تنعم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين كما قال سبحانه:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 22 - 26].
فقابل الخالص بالصرف. ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} [المطففين: 27، 28].
فقابل المشوب بالمشوب.
وعلامة محبة الله للعبد:
أن يقربه الله من نفسه، ويحبب له طاعته، والإيمان به، ويكره له المعاصي، ويدفع الشواغل والمعاصي عنه، ويوحشه من غيره، ويحول بينه وبين ما يقطعه عنه كما قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8].
وإذا أحب الله عبداً ابتلاه .. فإن صبر اجتباه .. فإن رضي اصطفاه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والمحبة هي التي تحرك المحب في طلب محبوبه الذي يسعد بحصوله، فتحرك محب الرحمن ومحب القرآن ومحب العلم والإيمان إلى طاعة الله وعبادته.
كما أنها تحرك محب المتاع والمال، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان، ومحب الأوطان، إلى ما يحب، فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء.
وكل هذه المحاب باطلة سوى محبة الله وما والاها من محبة دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين.
والله عز وجل خلق عباده له ولعبادته، ولهذا اشترى منهم أنفسهم وأموالهم،
(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
وهذا عقد لم يعقده الله مع خلق غيرهم؛ ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، رضية لديه.
وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها، وقدر ثمنها، وكمال صفاتها، فإذا عُرف قدر السلعة، وعُرف مشتريها، وعُرف الثمن المبذول فيها عُلم شأنها ومرتبتها في الوجود.
فالسلعة أنت .. والله المشتري .. والثمن الجنة والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام.
والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها، وأعظمها قيمة، وإذا كان الله قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه يسعون في مصالحه، في يقظته ومنامه، وحياته وموته، ثم إن العبد أبق عن سيده ومالكه معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه على عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه، ولعنته بمحبته ورحمته. فلما أبق هذا العبد عن مالكه وسيده أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عن ما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته، فهو سبحانه عفو يحب العفو، محسن يحب الإحسان، كريم يحب الجود فإذا أبق منه العبد، وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه، فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته، وعقوبته على إحسانه.
وهو سبحانه يحب من نفسه البر والإحسان، وقد استدعى هذا العبد من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟.
ومع سوء هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزي والهوان فالله يستعطفه، ويدعوه إلى العود إليه، ويفرح بتوبته ورجوعه إلى مولاه الحق الذي هو أولى به.
فإذا رجع هذا العبد إلى ما يحب سيده، وتاب إليه ورجع إليه، وأقبل عليه، ورجع عن عدوه، فقد سار إلى الحال التي تقتضي محبة سيده له، وإنعامه عليه، وإحسانه إليه.
فيفرح به مولاه أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل غاية الكمال والغنى والمجد، فرح محسن به، لطيف جواد، غني حميد، لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به، بل الله خلق عباده المؤمنين، وخلق كل شيء من أجلهم، وكرمهم وفضلهم على سائر المخلوقات:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
وهذا العبد إذا عاد إلى ربه وتاب إليه، فهو بمثابة من أسر له العدو محبوباً له، وحالوا بينه وبينه فهرب منهم ذلك المحبوب رجاء إلى محبته اختياراً وطوعاً فكم يكون فرحه به؟ «لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أحَدِكُمْ مِنْ أحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا» متفق عليه (1).
ومحبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له، فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فإنه سبحانه ألهمه محبته وآثره بها، فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها، فمن تقرب إلى الله شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن أتاه
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6309)، ومسلم برقم (2675)، واللفظ له.
يمشي أتاه هرولة، وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له، وإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرَّ من محبه، وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه، وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله؟.
وكلما تاب العبد إلى ربه توبة نصوحاً فرح الله بتوبته، وأعقبه فرحاً عظيماً، ولذة وسروراً، وفرح الله بتوبة عبده لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات، مما يدل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والتائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً بدل الله سيئاته حسنات.