الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
32 - فقه الصفاء
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30].
وقال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
معرفة العبد لأسماء الله وصفاته، وجلاله وجماله، وبره وإحسانه، ولطفه ورحمته، يوجب له قربه من ربه سبحانه، وقربه منه يوجب له الأنس به، والمحبة له، والهيبة منه.
والأنس ثمرة المحبة والطاعة، فكل عبد مطيع مستأنس، وكل عاص مستوحش.
والقلوب المشرقة بنور الأنس بالله تستحلي الذكر، وتستأنس به، طلباً للاستئناس بالمذكور، وتتغذى بسماع القرآن كما تتغذى وتتلذذ الأجسام بالطعام والشراب.
فإذا كان العبد محباً صادقاً، طالباً لله، عاملاً على مرضاته، كان غذاؤه بسماع القرآن، ولذته بتلاوته، والتفكر في معانيه ومواعظه، والعمل بأحكامه، والتأدب بآدابه.
وهذا الغذاء له لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب والأرواح، وإن كان منحرفاً فاسد الحال مغروراً مخدوعاً كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان، المشتمل على الفحش والفجور ونحو ذلك من محاب النفوس ولذاتها، وحظوظها، وأصحابه أبعد الخلق من الله عز وجل.
وما أحسن القلوب الصافية الخالية من كدر الشرك والنفاق والبدعة والمعصية، المملوءة بنور العلم والإيمان والطاعات:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].
والصفاء: اسم للبراءة من الكدر.
وهو على ثلاث درجات:
الأولى: صفاء علم يهذب لسلوك الطريق، وهو العلم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية.
وحقيقة العبودية: التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً .. وتحكيمه باطناً وظاهراً .. والاقتداء به في سائر الأحوال والأقوال والأفعال .. وصفاء علم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير.
فأكثر الناس سالك بجده واجتهاده غير منتبه إلى المقصود.
وصفاء علم يصحح همة القاصد، ومتى صحت الهمة علت وارتفعت.
وأعلى الهمم:
همة اتصلت بالحق سبحانه طلباً وقصداً، وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحاً، وشمرت للعمل بدينه وحفظه، والجهاد في سبيله.
وهمم العباد متفاوتة:
فهمة متعلقة بمن فوق العرش .. وهمة حائمة حول الحش .. وبينهما من الهمم ما لا يعلمه إلا الله .. وقيمة كل امرئ بقدر ما يطلبه.
الثانية: صفاء الحال، فالحال ثمرة العلم، ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له، وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال.
وإذا صفا الحال شاهد العبد آثار الحقائق وهي حلاوة مناجاة الله، فمتى صفا قلبه من الشوائب ذاق حلاوة الإيمان، وحلاوة المناجاة، ونسي به ما سوى الله، واشتغل بالحق عن الخلق.
الثالثة: صفاء اتصال بربه، فمن تمكن الإيمان من قلبه، وصفا له علمه وحاله، اندرج عمله جميعه في مرضاة ربه، ورآه في جنب حق ربه أقل من خردلة بالنسبة لجبال الدنيا.
فسقطت رؤيته من قلبه لقلته وصغره، فلا يطلب المجازاة عليه.
ويدرك بعين البصيرة صحة الخبر، وصدق المخبر، فيقوى القلب، ويصير الغيب كالشهادة، كأنه يرى ربه جل جلاله فوق سماواته على عرشه، مطلعاً على عباده، يسمع كلامهم .. ويرى مكانهم .. ويبصر أعمالهم.
ويشاهد ربه وهو يرضى ويغضب، ويعطي ويمنع، ويشاهد عظمة ربه وجلاله، وجماله وكماله، وعزته وكبريائه.
فيأنس بربه ومالكه .. ويتلذذ بعبادته .. ويفرح بطاعته وامتثال أوامره .. ويرى أوامره أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].