المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌4 - خطر الشرك

‌4 - خطر الشرك

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].

وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].

الكفر والشرك إذا افترقا فهما بمعنى واحد، وهو الكفر بالله تعالى.

وإذا اجتمعا في آية أو حديث أو كلام، فالمراد بالكفر جحود الخالق سبحانه، والمراد بالشرك جعل شريك لله من مخلوقاته، وإشراكه معه في العبادة.

الشرك بالله أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، وأنجس النجاسات، ولذلك كان أبغض الأشياء إلى الله، وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه لشدة نجاستهم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} [التوبة: 28].

وحرم سبحانه ذبائح أهل الشرك، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم وأولادهم ونساءهم أن يتخذوهم عبيداً.

ونجاسة الشرك نوعان:

نجاسة مغلظة .. ونجاسة مخففة.

فالنجاسة المغلظة: هي الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله لا يغفر أن يشرك به إذا مات العبد ولم يتب منه.

والنجاسة المخففة: هي الشرك الأصغر كيسير الرياء، والتصنع للمخلوق، والحلف به، وخوفه ورجائه.

ص: 1172

ونجاسة الشرك عينية كالبول والغائط، بل هي أنجس منهما.

فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم.

والأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن، أو القلب، أو تؤذيهما معاً، والنجس قد يؤذي برائحته، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.

والنجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على القلب والروح الخبث والنجاسة.

حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من يشم رائحة النتن، ويظهر ذلك كثيراً في عرقه.

ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس عرقاً.

وإذا خرجت النفس الطيبة من البدن، وجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض، وإذا خرجت النفس الخبيثة من البدن وجد لها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.

فالشرك أقبح القبائح، وأنجس النجاسات، لأنه هضم لحق الرب، وتنقيص لعظمته، وسوء ظن به كما قال سبحانه:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6].

فلم يجمع الله عز وجل على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك، فإنهم ظنوا بالله ظن السوء، وما قدروا الله حق قدره، إذ سووا به غيره كما قال الله عن المشركين أنهم يقولون لآلهتهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98].

ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، ولا أنها تحيي وتميت.

وإنما سووها به في محبتهم لها، وتعظيمهم إياها، وعبادتهم لها.

فما قدر الله حق قدره من جعل له عدلاً ونداً وشريكاً يحبه كحب الله، ويخافه

ص: 1173

ويرجوه، ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته، وهذا هو الضلال البعيد، والافتراء العظيم، والظلم الكبير. {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86، 87].

فما ظننتم به من السوء حتى عبدتم معه غيره؟

فإن المشرك إما أن يظن أن الله عز وجل يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عون.

وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته.

وإما أن يظن أنه تعالى إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم، أو لا يكفي عبده وحده، أولا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به.

أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الأرض، وهذا أصل شرك الخلق.

أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه به كما يتوسل الناس إلى الملوك والأكابر يمن يعز عليهم، ولا يمكنهم مخالفته.

وكل هذا تنقص للرَّب، وهضم لحق الإله، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب المشرك، وذلك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص ويضعف ذلك التعظيم والخوف والرجاء والمحبة بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شناعته.

فالشرك كله تنقص لرب العالمين شاء المشرك أم أبى.

ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره، وأن يخلد صاحبه في

ص: 1174

النار، ويجعله أشقى البرية.

فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك الشرك.

كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة، فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً، وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله.

ولهذا جعل الله البدعة قرينة الشرك في كتابه كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].

وأما نجاسة الذنوب والمعاصي فإنها لا تستلزم تنقيص الربوبية، ولا سوء الظن بالله عز وجل، ولهذا لم يرتب الله سبحانه عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك.

واستقرت الشريعة على أنه يعفى عن النجاسة المخففة كبول الصبي الرضيع، والنجاسة في محل الاستجمار ما لا يعفى عن المغلظة.

وكذلك يعفى عن صغائر الذنوب ما لا يعفى عن الكبائر، ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك.

فلو لقي المسلم الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه ربه بقرابها مغفرة.

ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده وشابه بالشرك، فالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، فإنه يتضمن من محبة الله وتعظيمه وإجلاله، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي فلا تثبت معه.

ولكن نجاسة الزنا وفاحشة قوم لوط أغلظ من غيرهما من النجاسات من جهة أنها تضعف القلب وتفسده وتضعف توحيده جداً.

ص: 1175

ولهذا كان أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركاً.

فكلما كان الشرك في العبد أغلب كانت هذه النجاسة والخبائث فيه أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصاً كان منها أبعد كما قال الله تعالى عن يوسف:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24].

وليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تعبيد القلب لغير الله، فإنهما من أعظم الخبائث، وكلما ازداد القلب خبثاً ازداد من الله بعداً.

ولما كانت هذه حال الزنا كان قريناً للشرك في كتاب الله كما قال سبحانه: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور: 3].

والله سبحانه سمى الزناة والزواني خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل فد شرعت فيه الطهارة وإن كان حلالاً، وسمى فاعله جنباً لبعده عن الصلاة حتى يتطهر بالماء.

فكذلك إذا كان حراماً يبعد القلب عن الله تعالى وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان حتى يحدث طهراً كاملاً بالتوبة، وطهراً لبدنه بالماء.

فالعاصي إنما ينقم على أهل الطاعة تجريدهم الطاعة وتركهم المعصية كما حكى الله عن قوم لوط قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)} [الأعراف: 82].

وهكذا كل مشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد، وأنه لا يشوبه بالشرك.

وهكذا المبتدع إنما ينقم على صاحب السنة تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بما يخالفها:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59].

ص: 1176

والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان:

قوم نوح .. وقوم إبراهيم.

فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم دعوا الله عندها، ثم عبدوها من دون الله.

وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر.

وكل هؤلاء إنما يعبدون الجن، فإن الشياطين تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وتتصور لهم بصور الآدميين، فيرونهم بأعينهم.

والجن كالإنس فيهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والمنافق والفاسق. والشياطين من الجن يوالون وينفعون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان من الآدميين:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40، 41].

فنوح صلى الله عليه وسلم أول من غير الشرك الأرضي، وهو عبادة أهل الأرض للأصنام، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم أول من غير الشرك السماوي، وهو عبادة قومه للكواكب والنجوم.

وكلما ضعف الإيمان ضعف اليقين على الله، ثم حصل الشرك، فيبعث الله نبياً يرد الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حتى ختمهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع أهل الأرض إلى يوم القيامة بالإسلام الذي يقوم على أصلين:

شهادة أن لا إله إلا الله

وشهادة أن محمداً رسول الله.

ومعناها: عبادة الله وحده لا شريك له، على طريقة رسوله صلى الله عليه وسلم، في كل شأن من شئون الحياة، وامتثال أوامره سبحانه في جميع الأحوال، وتحقيق العبودية لله في كل أمر:

في العبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.

فعبادة الأصنام لا تعني فقط الصور الساذجة التي كان يزاولها العرب في

ص: 1177

الجاهلية مجسمة في أحجار أو أشجار، أو حيوان أو طير، أو نجم أو كوكب، أو أرواح أو نار.

فهذه الصور لا تستغرق الشرك كله، ولا تستغرق كل صور العبادة للأصنام من دون الله، فلا بدَّ من معرفة معنى الأصنام.

فالشرك بمعناه المطلق يتمثل في كل حالة لا يكون فيها الحكم لله.

فالإنسان الذي يتوجه إلى الله معتقداً بألوهيته، ثم يدين لله في الوضوء والصلاة والصيام وسائر الشعائر، بينما هو في الوقت ذاته يدين في معاملاته ومعاشراته وطريقة حياته لغير الله، ويدين في قيمه وأخلاقه، وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر، فهذا العبد إنما يزاول الشرك في أخص حقيقته، ويجعل مع الله شريكاً يطيعه.

فلهؤلاء الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].

فالإسلام هو توحيد الله في جميع الأحوال، وطاعته وحده في كل أمر وفعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه.

لم يأت الإسلام بتحطيم الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل جاء ليُعبد الله وحده لا شريك له، وليكون الدين كله لله:

في كل أمر .. وفي كل هيئة .. وفي كل صورة .. وفي كل بلد .. وفي كل زمان. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208].

والشرك قسمان:

أحدها: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو نوعان:

الأول: شرك التعطيل، وهو جحد الرب، وهو أقبح أنواع الشرك كقول فرعون:

ص: 1178

{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} [الشعراء: 23].

الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته، ولم يجحد ربوبيته كقول النصارى إن الله ثالث ثلاثة، ومنه شرك عباد الأصنام والكواكب الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر.

القسم الثاني: الشرك في العبادة، وهذا الشرك دون الأول، فإنه يصدر ممن يعتقد أن لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته.

فيعمل لحظ نفسه تارة .. ولطلب الدنيا تارة .. ولطلب الرفعة تارة .. فلله من عمله نصيب .. ولنفسه نصيب .. وللشيطان نصيب .. وللخلق نصيب.

وهذا حال أكثر الناس، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فالرياء كله شرك، والتوحيد ضد الشرك.

فالواجب علينا كما أفردنا الله بالربوبية .. أن نفرده بالألوهية .. ونفرده بالعبودية: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

وهذا الشرك مبطل للعمل كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (1).

والشرك في العبادة يبطل ثواب العمل وهو قسمان:

شرك أكبر .. وشرك أصغر.

فالشرك الأكبر: هو صرف العبادة أو بعضها لغير الله كدعاء غير الله، والذبح لغير الله .. وسؤال غير الله مما لا يقدر عليه إلا الله كنزول الغيث، وشفاء المرضى ونحو ذلك.

(1) أخرجه مسلم برقم (2985).

ص: 1179

ومن الشرك الأكبر الشرك بالله في المحبة والتعظيم، والطاعة والتأله، والخضوع والتذلل، والخوف والتوكل.

فمن أحب مخلوقاً أو عظمه، كما يحب الله ويعظمه، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.

ومن أطاع العلماء والأمراء، والرؤساء والحكام، في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم شركاء لله في التشريع والتحليل والتحريم، وذلك كله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله كما قال سبحانه:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

ومن خاف غير الله من وثن أو صنم أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يضره أو يصيبه بما يكره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها، فمن صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].

ومن توكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كالتوكل على الموتى والغائبين ونحوهم في دفع المضار، وتحصيل المنافع والأرزاق والأولاد، فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كما قال سبحانه:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23].

ويتبع هذا الشرك الشرك بالله:

في الأقوال .. والأعمال .. والإرادات والنيات.

فالشرك بالله في الأقوال كالحلف بغير الله، وقول الإنسان: ما شاء الله وشئت، أو مالي إلا الله وأنت، أو أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا في حسب الله وحسبك، أو هذا من الله ومنك، أو هذا من بركات الله وبركاتك ونحو ذلك.

والشرك بالله في الأعمال كالسجود لغير الله، والطواف بغير بيته، والسجود

ص: 1180

للقبور، والطواف عليها، وتقبيلها واستلامها ونحو ذلك.

والشرك بالله في الإرادات والنيات بحر لا ساحل له، وقلّ من يسلم منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، وهذا حال أكثر الخلق كما قال سبحانه:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].

فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والخوف والرجاء، والمحبة والطاعة والتوبة والدعاء، كله محض حق الله تعالى الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه: من ملك مقرب أو نبي مرسل فضلاً عن غيرهم: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].

وحقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق، والتشبيه للمخلوق به، فالمشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية من التفرد بملك النفع والضر، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل بالله وحده.

فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، فضلاً أن يملكها لغيره، شبيهاً لمن له الخلق والأمر كله، وبيده كل شيء، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.

وهذا من أقبح التشبيه، حيث شبه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.

ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له، والتعظيم والإجلال كله له، والخوف والخشية والرجاء كله له، والدعاء والمحبة والطاعة كلها له سبحانه.

فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا ندَّ له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.

ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم فإن الله لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ

ص: 1181

يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116].

ومن خصائص الإلهية العبودية وهي: غاية الحب لله، مع غاية التعظيم له، والذل له.

فمن أعطى حبه وذله وخضوعه وتعظيمه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه سبحانه.

ومن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، وصرف له ما لا يستحقه.

وأما التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى مدحه وتعظيمه، والخضوع له، فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته.

وما عبد أحد غير الله من الملائكة والكواكب .. والأصنام والأوثان، إلا وقعت عبادته للشيطان كما قال سبحانه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)} [يس: 60، 61].

وقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)} [مريم: 44].

والله عز وجل كما أنه لا يرضى أن يكون معه آلهة أخرى يخلقون ويرزقون ويدبرون .. فإنه لا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يشرعون ويحللون ويحرمون .. ولا يرضى كذلك أن يكون معه آلهة أخرى يعبدون من دون الله.

فالشرك الأكبر:

مخرج من الملة .. ومحبط لجميع الأعمال .. مبيح للدم والمال .. وصاحبه مخلد في النار.

والشرك الأصغر:

ينقص التوحيد .. لكنه لا يخرج من الملة .. وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر .. يعاقب عليه صاحبه .. ولا يخلد في النار خلود الكفار.

ص: 1182

والشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، لكن الشرك الأصغر يحبط العمل الذي قارنه، كأن يعمل عملاً لله يريد به ثناء الناس عليه، كأن يحسن صلاته أو يتصدق أو يصوم أو يذكر الله لأجل أن يراه الناس، أو يسمعونه أو يمدحونه.

فهذا الرياء إذا خالط العمل أبطله.

ومن الشرك الأصغر الحلف بغير الله، وقول الإنسان ما شاء الله وشئت، أو لولا الله وفلان، ونحو ذلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).

والشرك الأصغر قد يكون أكبرَ على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، الأكبر والأصغر، فالشرك ظلم عظيم لا يغفره الله.

والشرك نوعان:

شرك جلي .. وشرك خفي

فالجلي ما سبق ذكره، والخفي لا يكاد يسلم منه أحد، مثل أن يحب مع الله غيره، وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، وأكثر الأمة واقعون فيه كما قال سبحانه:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].

فمن نقصت محبته لله أحب غيره، إذ لو كملت محبته لله لم يحب سواه، وكلما قويت محبة العبد لمولاه صغرت عنده المحبوبات وقلَّت، وكلما ضعفت محبته لله كثرت محبوباته من المخلوقات وانتشرت.

وإذا كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق، وكلما نقص خوفه من ربه زاد خوفه من غيره.

وإذا كمل رجاء العبد في مولاه لم يرج أحداً سواه، وإذا نقص رجاؤه وضعف وقف بباب المخلوق ورجاه، وذل لغير مولاه.

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2354)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (137).

وأخرجه أبو داود برقم (4980) واللفظ له، صحيح سنن أبي داود رقم (4166).

ص: 1183

ومن توكل على ربه كفاه، واستغنى به عمن سواه، وإذا نقص توكله توجه إلى المخلوق، واتكأ على عاجز مثله.

فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد يسلم منه أحد إلا من عصم الله سبحانه.

وكثيراً ما يقرن الناس بين الرياء والعجب.

فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس.

وهذا حال المستكبر:

فمن حقق (إياك نعبد) خرج من الرياء.

ومن حقق (وإياك نستعين) خرج من العجب.

فاللهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7].

واتخاذ الوسائط بين الله وخلقه قبيح عقلاً وشرعاً، فإن الوسائط بين الملوك والناس على أحد وجوه ثلاثة:

الأول: إما لإخبار الملوك عن أحوال الناس بما لا يعرفونه، والله عز وجل يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء، العليم بكل شيء، فلا يحتاج لذلك.

الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلضعفه وعجزه يتخذ أعواناً وأنصاراً.

والله سبحانه هو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل كلهم محتاجون إليه.

الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركه من خارج.

فإذا خاطب الملك من ينصحه أو يعظمه، أو يرجوه أو يخافه، تحركت همة الملك وإرادته لقضاء حوائج رعيته، وقبل شفاعتهم بإذنه وبدون إذنه، لحاجته إليهم، وتارة لخوفه منهم، وتارة جزاء لإحسانهم إليه.

ص: 1184

والله عز وجل لا يرجو أحداً ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل شيء إنما يكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الملك وكل ما سواه عبيد:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18].

وقال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93].

والمشرك إنما يتخذ معبوداً من دون الله لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من أربع:

إما مالك لما يريده عابده منه .. فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك .. فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً .. فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].

فما أعجب حال المشرك، لقد استكبر عن الانقياد للرسل بزعمه أنهم بشر، ورضي أن يعبد ويدعو الشجر والحجر، واستكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان، ورضي بعبادة من ضره أقرب من نفعه من الأصنام، طاعة لأعدى أعدائه الشيطان:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 5، 6].

ومن السفاهة والحماقة أن يتخذ الناس آلهة من دون الله، يعبدونها ويحبونها، ويرجونها ويخافونها، ويتقربون إليها، وهي غافلة عنهم لا تسمع ولا تعقل.

فماذا خلقت هذه الآلهة، وماذا صنعت؟ {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ

ص: 1185

يُخْلَقُونَ (191)} [الأعراف: 191].

وهذا الكون قائم معروض على الأنظار والقلوب فماذا لهم فيه؟

وأي قسم من أقسامه أنشأوه؟ .. وأي جزء من أجزائه شاركوا في بنائه.

والله سبحانه يلقن رسوله صلى الله عليه وسلم ليواجه الكفار بشهادة كتاب الكون المفتوح، الكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة فيقول:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4].

فهذه الأوثان والأصنام التي تعبدونها من دون الله ماذا عملت؟

هل خلقت من أجرام السموات والأرض شيئاً؟

هل خلقوا جبالاً؟ .. هل أجروا أنهاراً؟ .. هل خلقوا حيواناً؟ .. هل أنبتوا أشجاراً؟ .. هل أرسلوا رياحاً؟ .. هل أنزلوا غيثاً؟.

هل كان منهم معاونة على خلق شيء من ذلك؟ .. كلا .. وكلا.

فهذه الأنداد لا تملك نفعاً ولا ضراً، فهي عاجزة ضعيفة، وعبادة العاجز الضعيف الذليل قبيحة باطلة لا تليق بعاقل.

فهذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تستحق شيئاً من العبادة: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

فتلك المعبودات من دون الله لم تخلق شيئاً فكيف تُعبد؟

وليس هناك كتاب إلهي يقر هذا الشرك، أو بقية علم يقر خرافة هذه الآلهة التي تعبد من دون الله؟

فما أحسن العقل والفهم والبصيرة، وما أقبح الجهل والتقليد والتعصب؟ {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].

وعقائد المشركين في مكة مختلفة:

ص: 1186

فمنهم من يعبد الملائكة .. ومنهم من يعبد الجن .. ومنهم من يعبد الشمس والقمر .. ومنهم من يعبد الأصنام المختلفة .. وكل يعمل على شاكلته.

وكان أقل عقائدهم انحرافاً من يقولون عن هذه الآلهة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

ومن العجيب حقاً أننا لو عرضنا على أحد المسلمين صنماً من الذهب، وقلنا هذا يأتي بالرزق والأولاد؟

لقال: أعوذ بالله هذا شرك.

فإذا حولناه إلى نقود ذهبية وجئنا به إليه، قال هذا المسلم: احفظوه، فإنه قاضي الحاجات، المغني عن الناس، فارج الكربات، ومغيث اللهفات.

فبلسانه يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وبيده يمسك النقود الذهبية، كما يمسك الغريق بحبل النجاة.

وبقلبه يتعلق بها ويرى فيها قضاء حاجاته من دون الله.

وهذا هو الشرك الخفي الذي يقول الله عنه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].

إن أي فكرة وأي عقيدة وأي شخصية .. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر .. وهذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من الحق الذي أمر الله به.

وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان المؤثرين في هذا الوجود، وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة وانتفاش.

والمشركون في أنحاء الأرض يشركون مع الله آلهة أخرى في صور شتى.

ويقوم الشرك ابتداءً على إعطاء غير الله سبحانه شيئاً من خصائص الإلهية ومظاهرها، ظلماً وعدواناً.

وفي مقدمة ذلك حق التشريع للعباد في شئون حياتهم كلها.

وحق الاستعلاء على العباد، وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات.

ص: 1187

ثم تأتي مسألة تشريع العبادات الشعائرية للبشر، وكل ذلك ظلم للعباد.

فإن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد.

وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده لا شريك له.

ولتتلقى منه الشريعة والأخلاق والآداب بلا منازع.

ولتعبده وحده بلا أنداد.

فكل ما خرج عن قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق، ومن ثم فهو واهٍ هزيل، لا يحمل قوة ولا سلطاناً، ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة، وكيف يؤثر وهو لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة؟.

وما دام المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطاناً، فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء، وهم أبداً في رعب وخواء:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)} [آل عمران: 151].

وفطرة الله التي فطر الناس عليها تعرف ربها، وتلجأ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة.

فالهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلاً دائماً إلى يوم القيامة، فالناس في الدنيا يصادفون ويواجهون الهول والكرب في ظلمات البر والبحر، فلا يتوجهون عند الكرب إلا إلى الله، ولا ينجيهم من الكرب إلا الله، ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)} [الأنعام: 63، 64].

إن الفطرة عند الشدائد تلفظ كل شيء من دون الله، وتطرح كل شيء، وتتعرى من كل شيء، وتتوجه إلى بارئها وفاطرها، وتتجه إلى الإله الحق بلا شريك، ولا تلتفت لشيء سواه.

لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك، وتدرك انعدام الشريك.

ص: 1188

والانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة.

والجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل.

إن الله عز وجل فطر كل نفس على التوحيد، فتتوجه إلى بارئها عند الخوف، وعند الطمع، وعند الشدة.

وكثير من الناس يعترفون بالله رباً، ولكنهم ينبذون أوامره وشرائعه من ورائهم ظهرياً، بينما يجعلون أوامر الطاغوت مقدمة، تخالف في سبيلها أوامر الله وشريعته، بل تنبذ نبذاً، لاعتقادهم أنها سبب التخلف والمصائب:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57].

والجاهلية القديمة على ما فيها من شرك أكثر أدباً مع الله، فقد كانت تتخذ مع الله آلهة أخرى لتقربها إلى الله زلفى.

فكان الله في حسها الأعلى.

فأما الجاهلية الحديثة، فهي تجعل الآلهة الأخرى أعلى من الله سبحانه عندها.

فتقدس ما تأمر به هذه الآلهة .. وتنبذ ما يأمر به الله نبذاً شنيعاً.

إن الله تبارك وتعالى يأمر المرأة بالعفة والحشمة، والفضيلة والقرار في البيوت، ولكن الوطن والإنتاج يأمرها بأن تخرج وتتعرى، وتعمل مضيفة سافرة على ظهور الطائرات، وصالات الفنادق، وساحات المصانع، وأماكن الرذيلة.

فمن الإله الذي تتبع أوامره؟

أهو الله سبحانه؟ .. أم أوامر الطاغوت؟

والله سبحانه يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة، ولكن الوطن والقومية تستبعد العقيدة، وتأمر أن يكون الجنس أو القوم هم القاعدة.

فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟

أهو الله جل جلاله .. أم هي الآلهة المدعاة؟

والله عز وجل يأمر أن تكون شريعته هي الحاكمة، ولكن عبداً من العبيد أو

ص: 1189

مجموعة من الشعب تقول كلا، إن العبيد هم الذين يشرِّعون، وشريعتهم هي الحاكمة، وهذا كله قائم ظاهر في جميع بلاد الإسلام إلا ما شاء الله.

فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟

أهو الله سبحانه؟ .. أم هي الآلهة المدعاة؟.

والقرآن الكريم يحاور المشركين، ويخاطب عقولهم البشرية لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري أياً كانت طفولته فيقول:{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)} [الأعراف: 191، 192].

إن الإله الذي يخلق هو الذي يستحق أن يُعبد، فكيف يشركون به من لا يخلق، بل هو مخلوق؟

والملك الذي يملك أن يرزق عباده، ويملك أن ينصر عباده بقوته ويحميهم، هو الذي يجب أن يعبد.

فالخلق والأمر .. والقوة والقهر .. والغنى والملك .. هي خصائص الربوبية .. وموجبات العبادة والعبودية.

وما يشركون به لا قوة لها ولا سلطان، لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا نصر غيرهم، فكيف يجعلونها شريكة لله؟.

يا حسرة على العباد كيف لعب الشيطان بعقولهم إلى هذا الحد؟.

إن العقل البشري لو خلي بينه وبين واقع الأمة اليوم، وما حل بها من شرك وظلم وفساد، فإنه لا يقره ولا يرضاه.

ولكنها الشهوات والأهواء، والتضليل والخداع، هي التي جعلت البشرية ترتد إلى هذه الجاهلية، فتشرك بالله ما لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون.

إن البشرية لفي حاجة اليوم، كما كانت في حاجة بالأمس، إلى أن تخاطب بهذا القرآن مرة أخرى، لتؤوب إلى ربها، وتسعد بهداه.

ص: 1190

في حاجة إلى من يقودها من الجاهلية إلى الإسلام، ويخرجها من الظلمات إلى النور، ومن ينقذ عقولها وقلوبها من هذه الوثنية، كما أنقذها الدين أول مرة، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فهل من مشمر؟.

إن شرك تلقي الأحكام من البشر، مثل شرك عبادة الأوثان والأصنام سواء. هذا شرك في العبادة .. وهذا شرك في الشريعة.

وهذا كله شرك، وخروج من التوحيد الذي يقوم عليه دين الله، والذي تعبر عنه شهادة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).

والله تبارك وتعالى ينبه هؤلاء المشركين إلى سخف ما هم عليه من الشرك، إذ كيف يتخذون آلهة لا تخلق بل هي مخلوقة؟

ولا تنصر عبَادها، بل لا تملك لنفسها ولا لغيرها نصراً؟

أين عقول هؤلاء، كيف يدعون من دونهم أو أمثالهم؟

وكيف يدعون من لا يستجيب لهم؟.

وكيف يعبدون من هو غافل عنهم؟.

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: 5، 6].

فما أعجب حال الإنسان إذا أضل؟

وما أخسر البشر الذين لا يستفيدون عن عقولهم؟

{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} [الأعراف: 191 - 194].

إن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون من دون الله أحجار هامدة، ليس لها أرجل ولا أيدي، وليس لها أعين ولا آذان، وليس لها عقول ولا إدراك.

هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم، فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه

ص: 1191

الأحجار الهامدة؟: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)} [الأعراف: 195].

فلا بدَّ لصاحب الدعوة إلى الله أن يستهين بهذه الأسناد والأصنام، وأن يتجرد منها، فهي في ذاتها واهية واهنة، مهما بدت قوية قادرة.

وحتى لو قدرت على أذاه، فإنما تقدر على أذاه بإذن ربه، فليواجههم بقوة مولاه، وليتوكل على الله:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)} [الأعراف: 196].

إن صاحب الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان، لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة، وإلا بمثل هذه العزيمة، وإلا بمثل هذا اليقين:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} [الحجر: 94 - 96].

ولقد كان مشركو العرب يعرفون أن الله هو خالق هذا الكون، فإن معرفتهم بالله لم تكن قليلة ولا سطحية ولا غامضة كما يظنه بعض الناس.

ولم يكن شرك العرب متمثلاً في إنكار الله سبحانه، ولا في عدم معرفتهم الحقيقة كما قال الله عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38].

إنما كان أكثر شركهم يتمثل في عدم إخلاصهم العبودية لله، وذلك بتلقي منهج حياتهم وشرائعهم من غيره، وهو ما لم يكن متفقاً مع إقرارهم بألوهية الله ومعرفتهم له.

فأما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فما كان ذلك قط لاعتقادهم بألوهيتها كألوهية الله سبحانه.

ص: 1192

وإنما اتخذوا الشعائر والعبادة لها، لتكون مجرد شفعاء عند الله كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

فلا يكفي للمسلم الاعتقاد وأداء الشعائر لله وحده فقط .. بل لا بدَّ مع ذلك من إقامة الحياة كلها على منهج الله .. وتحقيق التوحيد في شعب الحياة كلها .. ورفض العبودية لغير الله في كل عمل كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].

وأهل الكتاب بعدما حرفوا كتابهم، وبدلوا شرائعه، هم كفار مشركون كما قال الله عنهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

والأحبار: جمع حبر، وهو العالم من أهل الكتاب، وكثر إطلاقه على علماء اليهود.

والرهبان: جمع راهب، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة، وهو عادة لا يتزوج، ولا يزاول الكسب.

واليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم، ومع هذا فقد حكم الله عليهم بالشرك والكفر، لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها.

وهذا وحده يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله.

والآية الكريمة تسوي في الوصف بالشرك بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوهم واتبعوهم، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً، وقدموا إليه الشعائر في العبادة.

فهذه كتلك في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من الإيمان إلى

ص: 1193

الكفر، ومن التوحيد إلى الشرك.

فالشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته، ولا تقديم الشعائر التعبدية له.

عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالََ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ» وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» أخرجه الترمذي (1).

إن دين الحق الذي لا يقبل الله ديناً غيره هو الإسلام، والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة، بعد الاعتقاد بألوهيته وحده، وتقديم الشعائر التعبدية له وحده لا شريك له.

فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله، صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى .. من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله.

لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله، بغير إنكار منهم، يثبت منه أنهم لا يتبعونهم إلا عن إكراه واقع بهم، لا طاقة لهم بدفعه.

فالدين يتجلى في ثلاثة أمور:

إيمان في القلب .. وأداء الشعائر التعبدية لله .. وتنفيذ الشرائع التي أنزلها الله لعباده.

والذين يعتقدون بألوهية الله سبحانه، ويقدمون له وحده الشعائر، ويتلقون الشرائع من غيره، هم مشركون بنص القرآن.

وهذا أخطر شيء على الدين، وهو من أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه،

(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (3095)، صحيح سنن الترمذي رقم (2471).

ص: 1194

الذين يخدعون بعض الناس على أنهم بهذا مسلمون.

والله سبحانه يقرر في أمثالهم أنهم مشركون، لا يدينون دين الحق، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: 31].

وهؤلاء الأرباب يحلون لهم الحرام، ويحرمون عليهم الحلال، فيتبعونهم ويطيعونهم، فتلك عبادتهم إياهم.

والله تبارك وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين عما يعبدونه من الشركاء، وماذا يملكون من الأمر الذي به يستحقون العبادة؟.

فقال له: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35].

والمشركون مقرون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، ولكنهم غير مسلمين بإعادته ولا بالبعث والنشور كما قال سبحانه:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7].

ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق، ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم.

إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم، وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره، وعدله ورحمته.

وإذا كان هؤلاء الكفار يؤمنون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق، فما لهم لا يؤمنون بأنه كذلك قادر على أن يعيده، وهذه الإعادة قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يؤمنون به.

ثم يسألهم مرة أخرى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ

ص: 1195

تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35].

هل من شركائكم الذين أشركتموهم مع الله من ينزل كتاباً، ويرسل رسولاً؟

وهل فيهم من يضع نظاماً، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير، ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس، ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة، كما هو معهود لكم من الله، ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله، وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟.

ولوضوح الحجة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يهدي للحق، ومن هنا تنشأ قضية جوابها مقرر:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} [يونس: 35].

فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالإتباع ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا ينطبق على كل معبود من دون الله سواء كان حجراً أو شجراً أو كوكباً، أو كانوا من البشر بما في ذلك عيسى بن مريم عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بُعث هادياً للناس، فغيره من باب أولى.

فما أعجب حال أكثر البشر، كيف يحيدون عن الحق الواضح المبين، ويتعلقون بأوهام وظنون لا تغني من الحق شيئاً:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)} [يونس: 36].

وعجيب أمر هؤلاء الكفار إنهم يقرون أن الله خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ولكنهم مع هذا يعبدون الأصنام أو الجن أو الملائكة، ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء في الخلق، وهو تناقض عجيب.

فأنى يؤفكون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب؟

وعجيبة أخرى تقع منهم، وفيها التناقض والاضطراب:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65].

ص: 1196

فهم مضطربون متقلبون؟

إذا خافوا وحدوا الله في مشاعرهم وألسنتهم سواء.

وإذا أمنوا أشركوا مع الله غيره، وانحرفوا من التوحيد إلى الشرك.

وهذا الانحراف ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة، وما آتاهم من الفطرة، وما آتاهم من البينة، وأن يتمتعوا في الدنيا إلى الأجل المقدور، ثم تكون عاقبتهم الشر والسوء:{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)} [العنكبوت: 66].

والشرك: معناه أن تجعل لله شريكاً في ربوبيته أوألوهيته، أو أسمائه أوصفاته.

فإذا اعتقد الإنسان أن مع الله خالقاً أو معيناً فهو مشرك.

وإذا اعتقد أن أحداً سوى الله يستحق أن يعبد فهو مشرك.

وإذا اعتقد أن لله مثيلاً في أسمائه أو صفاته فهو مشرك.

والشرك بالله ظلم عظيم؛ لأنه اعتداء على حق الله تعالى الخاص به وهو التوحيد، فالتوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم، وأقبح القبائح؛ لأنه تنقص لرب العالمين، واستكبار عن طاعته، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، ولعظيم خطره فإن الله لا يغفره.

وقد ذكر الله عز وجل للشرك أربع قبائح في أربع آيات وهي:

1 -

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].

2 -

وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} [النساء: 116].

3 -

وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].

4 -

وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 31].

والجبت: هو كل ما لا خير فيه من السحر والكهانة والعرافة وغيرها، وهو من

ص: 1197

الشرك.

والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود كالأصنام، أو متبوع كعلماء الضلالة، أو مطاع كالأمراء والرؤساء، وهو من الشرك.

والعيافة: هي زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإن ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب شمالاً تشاءم، وهي من الجبت.

والطرق: هو الخط على الأرض على سبيل السحر والكهانة، ثم يقول: سيحصل كذا، أو حصل كذا، وهو من الجبت.

والتطير: هو التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم كالأيام والشهور، وهي من الجبت، وأضيفت إلى الطير؛ لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، وكان العرب يتشاءمون بالطير والمكان والزمان والأشخاص والنبات والحيوان، وهذا كله من الشرك.

والكهان: هم رجال أو نساء في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، تنزل عليهم الشياطين التي تسترق السمع وتخبرهم، ثم يضيف الكاهن إلى هذا أخباراً كاذبة، فيقول: حصل كذا، أو سيقع كذا، فيصدقه الناس إذا وقع ما أخبر به، ويعتقدون أنه عالم بالغيب، وهذا من الشرك.

والعراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، ويخدع بها ضعاف العقول، وهذا من الشرك. وهناك أقوال وأفعال من الشرك أو من وسائله ومنها:

لبس الحلقة والخيط ونحوهما بقصد رفع البلاء أو دفعه، وذلك شرك، وتعليق التمائم على الأولاد، سواء كانت من خرز أو عظام أو كتابة، وذلك اتقاء للعين، وذلك شرك.

والتبرك بالأشجار والأحجار والآثار والقبور ونحوها، فطلب البركة ورجاؤها واعتقادها في تلك الأشياء شرك؛ لأنه تعلق بغير الله في حصول البركة.

والسحر: وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، وهو عزائم ورقى وكلام يتكلم به،

ص: 1198

وأدوية، فيؤثر في القلوب والأبدان، فيقتل أو يمرض أو يفرق بين المرء وزوجه.

وهو عمل شيطاني، وكثير منه لا يتوصل إليه إلا بالشرك.

والسحر شرك؛ لما فيه من التعلق بغير الله من الشياطين، ولما فيه من ادعاء علم الغيب.

قال الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].

وقد يكون السحر معصية من الكبائر إذا كان بأدوية وعقاقير فقط.

والاستسقاء بالنجوم هو عبارة عن نسبة نزول المطر إلى طلوع النجم أو غروبه كأن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فينسب نزول المطر إلى الكوكب لا إلى الله، فهذا شرك؛ لأن نزول المطر بيد الله، لا بيد الكوكب ولا غيره.

ونسبة النعم إلى غير الله شرك؛ لأن كل النعم من الله، فمن نسبها إلى غيره فقد كفر، وأشرك بالله.

كمن ينسب نعمة حصول المال أو الشفاء إلى فلان، أو ينسب نعمة السير والسلامة إلى السائق والملاح والطيار.

وينسب نعمة حصول النعم، أو اندفاع النقم، إلى جهود الحكومة أو الأفراد أو العلم ونحو ذلك.

فيجب نسبة جميع النعم إلى الله كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].

والله جل جلاله خلق الخلق لعبادته، المتضمنة لكمال محبته وتعظيمه، والخضوع له.

ولهذا خلق الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق السموات والأرض.

والله تبارك وتعالى يحب نفسه .. ويحمد نفسه .. ويقدس نفسه .. ويحب من يحبه .. ويحمده ويثني عليه.

ص: 1199

بل كلما كانت محبة عبده له أقوى، كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه.

ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض شيء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به.

ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده، إذا كان من المخلوقين.

فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً؟.

ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة.

أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده، وبين غيره في هذه العبودية والمحبة؟.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 156].

فما أجهل الإنسان وما أضله حين يعبد من دون الله أصناماً ناقصة في ذاتها وفي أفعالها، فلا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً؟.

بل لا تملك لنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الدفع، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم مهجناً لأبيه عبادة الأوثان:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42].

فهذا برهان جلي يدل على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله وأحواله مستقبح عقلاً وشرعاً .. فهل يليق بالإنسان عبادته، وترك عبادة الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؟.

ومن شناعة الشرك وقبحه أن الحيوانات اشمأزت منه، فالهدهد جاء إلى نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما رأى من الشرك، وصار داعياً إلى التوحيد، فقد ذهب الهدهد إلى مملكة سبأ، فلما جاء إلى سليمان قال له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ

ص: 1200

وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} [النمل: 22 - 26].

فمتى يغار أهل التوحيد على البشرية من الشرك؟.

ومتى ينقذونهم من عدوهم الذي زين لهم الشرك والبدع والمعاصي؟.

ومتى يؤدوا أمانة الدعوة إلى التوحيد التي كلفهم ربهم بها؟.

{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].

ص: 1201