المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌2 - العلم بأوامر الله

‌2 - العلم بأوامر الله

قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].

وقال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18].

الله تبارك وتعالى خالق كل شيء في العالم العلوي وفي العالم السفلي.

خلق جميع المخلوقات وجعل لها أوامر.

وأوامر الله عز وجل نوعان:

أوامر كونية لكافة المخلوقات .. وأوامر شرعية خاصة بالإنس والجن.

وأوامر الله الكونية ثلاثة أقسام:

الأول: أمر الإيجاد، وهو أمر متوجه من الرب سبحانه إلى جميع المخلوقات بالإيجاد، فقد كان الله جل جلاله، ولا شيء غيره، ثم خلق خلقه كما قال سبحانه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].

فهو سبحانه الذي يخلق ما شاء في أي وقت شاء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء، ولو رفع الله عنها أمر البقاء لهلكت وفنيت وزالت، فهي باقية بأمر الله لها بالبقاء كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].

الثالث: أمر النفع والضر، والتحريك والتسكين، والإحياء والإماتة، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فلا ينفع شيء ولا يضر إلا بإذن الله، ولا يتحرك شيء ولا يسكن إلا بإذن الله، ولا يحيا شيء ولا يموت إلا بإذن الله كما قال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ

ص: 1526

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)} [غافر: 68].

وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22].

وهذه الأوامر الكونية لازمة الوقوع.

أما الأوامر الشرعية فهي أمر الله الشرعي الموجه إلى الثقلين: الإنس والجن، وهو الدين الذي أرسل الله به رسله.

وأوامر الله الشرعية خمسة أقسام:

الإيمان .. العبادات .. المعاملات .. المعاشرات .. الأخلاق.

وهذه الأوامر الشرعية هي مجموع الدين، قد يستجيب لها بعض الناس، وقد يردها البعض الآخر.

وقد ترك الله للعباد أمر الاختيار: فيستجيب لها من يعلم الله أنه أهل للكرامة، ويردها من يعلم الله أنه أهل للإهانة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وحيث يجعل هدايته، وحيث يجعل علمه.

ولا إكراه في الدين: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} [الكهف: 29].

والهداية بيد الله، ولكن الله أقام الحجة على العباد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعطاهم آلات الإدراك التي يعلمون بها الحق من الباطل، وهي السمع والبصر والعقل:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44].

وبعد البيان هدى الله من شاء إلى الحق بمنه وفضله، لعلمه بمن يصلح للهداية، وترك من شاء ممن لم يرد هدايته وخلى بينه وبين نفسه، لعلمه سبحانه بأنه يصلح للغواية لا للهداية.

ص: 1527

فهدى الله بفضله من شاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وأضل من شاء بعدله، بعد قيام حجته سبحانه.

وأسعد الخلق من عرف الحق، وعمل به، ودعا إليه، وصبر على كل ذلك.

فالإسلام هو الدين الحق الذي ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بخلقه في جميع شئون الحياة.

فهو الدين الكامل الشامل الذي أكرم الله به البشرية، ودعاهم إلى الأخذ به ليسعدوا في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فهو منهج عظيم شرعه الله لعباده، منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وشهوة الإنسان، وضعف الإنسان.

منهج عدل مطلق لجميع الإنسانية، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل دون جيل؛ لأن الله رب الجميع، والله يريد أن يسعد الجميع، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

وهو منهج عظيم، شرعه الذي خلق الإنسان، الذي يعلم حقيقة فطرته، وحاجات هذه الفطرة، وما ينفعها وما يضرها، وما يوافقها وما يخالفها، وما يسعدها وما يشقيها.

وحسب الناس أن يقبلوه، ويسارعوا إليه؛ ليسعدوا في الدنيا والآخرة.

وهو كذلك منهج من مزاياه أن الذي شرعه وأمر به هو خالق هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان، فهو منهج يتلاءم مع ما يجري في هذا الكون، فلا يروح يعارك مخلوقات الله الأخرى، بل يتعرف عليها ويصادقها، حسب المنهج الذي يهديه ويحميه.

وهذا المنهج يكرم الإنسان ويحترمه، ويجعل لعقله مكاناً للعمل في المنهج، مكاناً للاجتهاد في فهم النصوص الواردة، ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو المبادئ العامة للدين.

ص: 1528

ولأهمية هذا الدين وحاجة العباد إليه أرسل به رسله، ليطاعوا بإذنه، لا ليخالف أمرهم، ولا ليكونوا فقط مجرد وعاظ، يلقون الموعظة العابرة، لتذهب في الهواء بلا سلطان

كلا.

إن هذا الدين لباس لهذه الأمة، ووقاية لها من كل سوء، ومتى نزعته أصبحت عارية، وصارت عرضة للهلاك.

إن الدين منهج حياة واقعية للأمة، بشكلها ونظامها، وأوضاعها وقيمها، وأخلاقها ومعاشراتها، وعباداتها ومعاملاتها.

وذلك يتطلب أن يكون للرسالة والدين سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ.

والله عز وجل أرسل الرسل ليطاعوا بإذنه، وفي حدود شرعه.

وبهذا يقوم منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة بموجبه.

فالإسلام دعوة وبلاغ، ونظام وأحكام، وخلافة بعد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بالدين، وتنفذ شريعة الله في الأمة.

لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول .. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسل .. وتحقيق مراد الله في عباده.

وبهذا لا بغيره تتحقق سعادة البشرية، ويحصل لها الفوز والفلاح:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].

هذا وإن كان يكفي لإثبات الإسلام القيام بالأعمال وتحاكم الناس إلى شريعة الله، فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصاحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب لله:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

هذا هو الإسلام .. وهذا هو الإيمان .. فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؟ .. وأين هي من الإيمان؟.

ص: 1529

قبل ادعاء الإسلام، وقبل ادعاء الإيمان.

فهذا الدين منهج ميسر، وشريعة سمحة، وقضاء رحيم، إنه لا يكلف العباد فوق طاقتهم، ولا يكلفهم عنتاً يشق عليهم.

فالله الذي خلق الإنسان يعلم ضعف الإنسان، ويرحم هذا الضعف.

والله عز وجل عليم حكيم يعلم أنه لو كلفهم تكاليف شاقة ما أداها إلا قليل منهم.

والله الرحمن الرحيم لا يريد لهم العنت، ولا يريد لهم أن يقعوا في المعصية.

ولو أنهم استجابوا للتكاليف اليسيرة التي كتبها الله عليهم، واستمعوا للموعظة التي يعظهم الله بها، لنالوا خيراً عظيماً في الدنيا والآخرة.

ولأعانهم الله بالهدى كما يعين كل من يجاهد للهدى بالعزم والقصد والإرادة: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].

إن هذا الدين ميسر يمكن أن ينهض به كل ذي فطرة سوية، إنه لا يحتاج للعزائم الخارقة الفائقة، التي لا توجد عادة إلا في القلة من البشر.

وهذا الدين ما جاء لهذه القلة القليلة، إنما جاء للناس جميعاً.

والناس معادن وطبقات وألوان من ناحية القدرة على النهوض بالتكاليف.

وهذا الدين ييسر لهم جميعاً أن يؤدوا الطاعات المطلوبة فيه، وأن يكفوا عن المعاصي التي نهى الله عنها.

وقتل النفس والخروج من الديار مثلاً للتكاليف الشاقة التي لو كتبت عليهم ما فعلها إلا قليل منهم.

وهي لم تكتب لأنه ليس المراد من التكاليف أن يعجز عنها عامة الناس، وأن ينكل عنها عامة الناس.

بل المراد أن يؤديها الجميع، وأن يقدر عليها الجميع، وأن يشمل موكب الإيمان

ص: 1530

كل النفوس السوية العالية والعادية.

وليس اليسر في هذا الدين هو الترخص، ليس هو تجميع الرخص كلها في هذا الدين، وجعلها منهج الحياة.

فهذا الدين عزائم ورخص، والعزائم هي الأصل، والرخص للملابسات والأحوال الطارئة.

وبعض المخلصين حسني النية، الذين يريدون دعوة الناس إلى هذا الدين، يعمدون إلى الرخص فيجمعونها، ويقدمونها للناس على أنها هي الدين، ويقولون لهم: انظروا كم هو ميسر هذا الدين؟.

وبعض الذين يتملقون شهوات السلطان أو شهوات الناس، يبحثون عن منافذ لهذه الشهوات من خلال الأحكام والنصوص، ويجعلون هذه المنافذ هي الدين.

ولكن الدين ليس هذا، وليس ذاك، إنما هو بجملته برخصه وعزائمه ميسر للناس.

يقدر عليه الفرد العادي حين يعزم، ويبلغ فيه تمام كماله الذاتي في حدود بشريته، كما يبلغ العنب كماله الذاتي في الحديقة الواحدة:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17].

وفي مكة حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته، فصان الله هذه الشريعة أن تكون حديث ألسن، وموضوعات دراسة، قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه لله جملة، ويعبد الله بالطاعة لشريعته في كل شأن.

وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلاً، وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه فوراً.

فتأتي الأوامر والأحكام، فتستقبلها القلوب بالقبول والإذعان كما حصل ذلك في المدينة بعد الهجرة.

ص: 1531

والإسلام له أحكام مرحلية في العلاقات الدائمة بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين.

وله كذلك أحكام نهائية وردت في سورة التوبة، فينبغي الرجوع إليها بوصفها الأحكام النهائية المطلقة.

وكذلك للإسلام في كثير من القضايا والأوامر أحكام مرحلية، ثم أحكام نهائية، كما في تحريم الربا والخمر ونحوهما.

والعلوم كالمياه، منها عذب فرات سائغ شرابه، ومنها ملح أجاج.

والعلوم الإلهية التي جاء بها الرسل فيها الغذاء والدواء والشفاء، وهي رحمة من الله، أرسل بها رسله إلى عباده.

فمن قبلها سعد في الدنيا والآخرة .. ومن ردها شقي في الدنيا والآخرة.

والسمع والبصر والقلب هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك.

فالقلب: يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاؤه وخاصته.

والأذن: تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب.

والعين: تنقل ما رأت وتصبه في القلب.

وصاحب الأمر هو القلب، وسائر الأعضاء حجبة له، توصل إليه من الأخبار والمرئيات ما لم يكن ليأخذه بنفسه.

والقلب خُلق للإيمان والتوحيد وذكر الله، والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم.

فكما لا يجد الجسم لذة الطعام والشراب مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الإيمان والذكر مع حب الدنيا:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].

وإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر إلى الأشياء فقد وضعت في موضعها.

أما إذا لم يصرف القلب إلى العلم، ولم يودع فيه الحق فهو ضائع، والقلب نفسه

ص: 1532

لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه، فإنه لا يقبل غير ما خلق له، وهو مع ذلك ليس بمتروك.

فإنه لا يزال في أودية الأفكار الرديئة وأقطار الأماني السافلة.

وإنما يحول بين القلب وبين الحق في غالب الأحوال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس.

وقد يعرض له الهوى قبل معرفة الحق، فيبعده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق، وكثيراً ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه.

والقلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، والقلوب أوعية فخيرها أوعاها وأرقها وأصفاها.

فالقلب إن كان ليناً رقيقاً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ فيه العلم وثبت وأثر.

وإن كان القلب قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعباً عسيراً.

ولا بدَّ مع ذلك أن يكون القلب زاكياً صافياً سليماً حتى يزكو فيه العلم، ويثمر ثمراً طيباً، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب أن ينبت منعه أن يزكو ويطيب.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأنْبَتَتِ الْكَلا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).

ص: 1533

كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (1).

والعلم الحقيقي هو الذي يورث العمل، ولا بدَّ في كل عمل من أمرين:

إخلاص العمل لله .. وأداؤه كما جاء في سنة رسول الله.

والاتباع الكامل يتحقق بثلاثة أمور:

اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في نيته .. واتباعه في وجهته وهي الآخرة .. واتباعه في هيئة العمل.

فالوضوء له أحكام معلومة .. والصلاة كذلك .. والدعوة كذلك.

وأشرف العلوم بعد العلم بالله وأسمائه وصفاته معرفة دينه وشرعه، وأشرف العلوم من ذلك علم الحدود، لا سيما حدود المشروع: المأمور به، والمنهي عنه.

فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها، وأجهلهم أجهلهم بتلك الحدود كما قال سبحانه:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} [التوبة: 97].

فأعدل الناس من قام بحدود الأقوال والأعمال والأخلاق والمشروعات معرفةً وعملاً، ودعوةً وإرشاداً.

والله تبارك وتعالى فضل بعض مخلوقاته على بعض، واختص بعض عباده بكثرة الأموال، وبعضهم بحسن الأخلاق، وبعضهم بالإكرام، وبعضهم بغزارة العلم، وبعضهم بقضاء حاجات العباد.

وعلى طالب العلم مسئولية عظيمة، وهي متفاوتة بحسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب طاقته وقدرته.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (79)، واللفظ له، ومسلم برقم (2282).

ص: 1534

أما من جهة نفسه:

فعليه أن يعتني بحفظ وفهم الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم، وأن يخلص لله ويراقبه ويتقيه، ويعمل بما علم، وأن يكون هدفه إرضاء الله عز وجل، وأداء الواجب، وبراءة الذمة، ونفع الناس.

ولا يهدف بعلمه وعمله إلى مال ولا عرض من الدنيا، ولا يهدف للرياء والسمعة.

فطالب العلم له موقف مع ربه بالصدق والإخلاص، وله موقف مع نفسه بالعلم والعمل، وله موقف مع غيره بالتعليم وحسن الخلق.

وقبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه معلوم مشاهد في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.

فإذا كان القلب مملوءاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع.

وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير طاعة الله، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.

فكذلك قلب الإنسان المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إليه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا يمكن شغل حركة اللسان بذكره، والجوارح بخدمته، إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته.

فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق، والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيه موضع للشغل بالله، ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكام دينه.

وإذا امتلأ القلب بالشبه والشكوك والخيالات، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها، ثم جاءته حقائق القرآن، والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً تعدته وتجاوزته إلى محل سواه.

ص: 1535

والعالم بالله هو الذي يخشاه .. والعالم بأمر الله هو الذي يعرف أمره ونهيه .. والخشية تمنع اتباع الهوى .. ومعرفة أوامر الله تمنع اتباع البدع .. والكمال في العلم وعدم اتباع الهوى.

وثمرة العلم العمل، والعمل يكمل ويكون مقبولاً إذا توفرت فيه خمسة أمور:

الأول: الإيمان: وهو أساس كل عمل، والمحرك والباعث عليه.

الثاني: الاحتساب: وهو معرفة ثواب العمل عند الله.

الثالث: العلم: وهو أن يقوم بالعمل حسب ما ورد في السنة.

الرابع: الإحسان: وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الخامس: الإخلاص: بأن تكون أعمال العبد خالصة لله وحده.

وشرطي المرور، وعامل البناء، وكل عامل يقوم بعمل، تصرف له الأجرة من المخلوق، وكذلك المسلم يقوم بالصلاة والصيام، والذكر والدعاء فيقضي الله حاجته، ويرزقه الحسنات، ويكفر عنه السيئات.

ولتحريك البدن، ودفعه للقيام بالطاعات، وبعثه للقيام بالمأمورات نذكر الله كثيراً، فنتكلم بعظمة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ونذكر نعمه وإحسانه، حتى يتأثر القلب، ثم القلب إذا زاد فيه الإيمان أمر الأعضاء والجوارح بامتثال الأوامر، وقادها للطاعات بالشوق والرغبة والمحبة.

والإنسان إذا أراد أن يعمل عند أحد عملاً سأل كم الأجرة التي سيدفعها له صاحب العمل؟، وبناء عليها يكون العمل وحسنه.

فكذلك المؤمن إذا أراد أن يعمل الطاعات، تعلم الفضائل قبل ذلك ليعرف قيمة العمل عند الله، وماذا يعطي الله عليه من الحسنات، وبمعرفة ذلك ينشط لأدائه، ويسهل عليه القيام به، ويداوم عليه، ويكثر منه، ويسارع إلى فعله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب أحَدِكُمْ،

ص: 1536

يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» متفق عليه (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه (2).

فكل شيء له قيمة، وبحسب كماله ونفعه وحسنه تكون قيمته، والأشياء المادية يعرف الإنسان قيمتها؛ لأن لها قيمة في قلبه، فهو يعمل من أجل الحصول عليها، أما الأعمال الصالحة التي جاءت عن الله ورسوله فقيمتها مجهولة عند كثير من الناس، بينما القلوب مملوءة بحب ومعرفة قيمة الأشياء المادية.

إن الجهل بأعمال الدين وقيمتها وأجوددها يجعل المسلم لا يرغب ولا يشتاق لتلك الأعمال، ولا يؤديها بيقين وحضور قلب وانشراح صدر.

فلا بدَّ بعد الإيمان من تعلم فضائل الأعمال قبل تعلم المسائل والأحكام فنعرف أولاً:

ما قيمة لا إله إلا الله؟ .. ما قيمة ذكر الله؟ .. ما قيمة الدنيا؟ .. ما قيمة الآخرة؟ .. ما قيمة الصلاة؟ .. ما أجر الجهاد؟ .. ما قيمة الاستغفار؟ ما قيمة الصوم والحج وحسن الخلق؟.

وهكذا، فكل عبادة لها فضائل ومسائل، فنتعلم الفضائل، ثم نتعلم المسائل، ثم نقوم بالعمل على بصيرة بالمحبة والرغبة والتعظيم للمعبود.

وقد أمرنا الله عز وجل بالأعمال الصالحة، وجعل على نفسه الجزاء بمنه وفضله، فله الحمد على ما هدى، وله الحمد على ما شرع، وله الحمد على ما أثاب وأعطى.

وكل شيء له ثلاثة أحوال وهي:

لفظ .. وصورة .. وحقيقة.

فالتقوى مثلاً شرط لحصول الرزق والبركات، ودخول الجنة، واليسر كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

(1) أخرجه مسلم برقم (668).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (33) واللفظ له، ومسلم برقم (760).

ص: 1537

فلو تكلم المسلم عن التقوى بلسانه، أو كتب عنها بيده، أو فكر فيها بدماغه، وليس في قلبه حقيقة التقوى، لم تحصل له الموعودات السابقة على التقوى؛ لأنه جاء بلفظ التقوى، ولكن ليست عنده حقيقة التقوى.

وإذا كان المسلم لباسه فيه التقوى، وكلامه فيه التقوى، وصورته فيها التقوى، ولكن ليس في قلبه حقيقة التقوى، فليس له الموعود على التقوى، فهذه صورة التقوى.

وحقيقة التقوى:

تكون في القلب بالإيمان بالله وطاعته وعبادته وخشيته.

ثم تظهر على الجوارح بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي.

وهذه هي التي تتحقق بها موعودات الله على التقوى.

فما أحسن الفقه في الدين، ومعرفة أحكامه وسننه، وليس فوق هذا شيء من الخير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» متفق عليه (1).

فعلى المسلم أن يحرص على حضور مجالس الذكر التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها رياض الجنة، ليتأثر من كلام الله ورسوله، ويعرف أحكام دينه، ويزيد يقينه على ربه، وعلى موعوداته في الجنة، ويعرف قيمة الأعمال الصالحة، ويسمع كلام الله بالتوجه والإنصات لتحصل له الهداية، ثم يعمل بما علم، ويبلغه للناس:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 18].

فلله كم يحصل لهؤلاء من الأجر والثواب؟ وكم تنزل عليهم من الرحمات؟ وكمن يذكرهم الله فيمن عنده؟.

قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى باب

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).

ص: 1538

أحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ» أخرجه مسلم (1).

والله عز وجل فاوت بين النوع الإنساني أعظم تفاوت يكون بين المخلوقين، فاوت بينهم في الخَلْق والخُلُق، وفاوت بينهم في العلم، وهذا التفاوت العظيم إنما حصل بالعلم وثمرته، ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين، والالتحاق بعالم الملائكة، وصحبة الملأ الأعلى لكفى به شرفاً وفضلاً، فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به.

وسنة الله أن جعل لكل مخلوق كمالاً يختص به هو غاية شرفه، فإذا عدم كماله انتقل إلى الرتبة التي دونه واستعمل فيها.

وهكذا الآدمي:

إذا كان صالحاً لاصطفاء الله له برسالته ونبوته اتخذه رسولاً ونبياً، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فإذا كان جوهره قاصراً عن هذه الدرجة، صالحاً للنبوة رشحه لذلك، وبلّغه إياها، فإن كان قاصراً عن ذلك قابلاً لدرجة الولاية رُشّح لها.

وإن كان ممن يصلح للعمل والعبادة دون العلم والمعرفة جعل من أهله، حتى ينتهي إلى درجة عموم المؤمنين.

فإن نقص عن هذه الدرجة، ولم تكن نفسه قابلة لشيء من الخير أصلاً استعمل حطباً ووقوداً للنار.

فالإنسان يترقى في درجات الكمال درجة بعد درجة، حتى يبلغ نهاية ما يناله أمثاله، فكم بين حاله في أول كونه نطفة، وبين حاله والرب يسلم عليه في داره، وينظر إلى وجه ربه الكريم.

فكيف يحسن بذي همة أن يرضى أن يكون حيواناً وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يصير ملكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

(1) أخرجه مسلم برقم (668).

ص: 1539

فتقوم الملائكة بخدمته، وتدخل عليه من كل باب قائلين:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 24].

وقلب الإنسان يعترضه مرضان يتواردان عليه، وإذا استحكما فيه كان هلاكه وموته وهما:

مرض الشهوات .. ومرض الشبهات.

وهذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله، ومرض الشبهات أصعبهما وأقتلهما للقلب.

وللقلب أمراض أخر من الكبر والعجب، والرياء والحسد، والفخر والخيلاء، وحب الرياسة، وحب العلو في الأرض، وكل هذه الأمراض متولدة من مرضي الشهوة والشبهة.

فلا يخرج مرض القلب عن شهوة أو شبهة أو مركب منهما.

وهذه الأمراض كلها متولدة عن الجهل بالله وبدينه وشرعه، ودواؤها بالعلم الإلهي.

فالعلم للقلب مثل الماء للسمك إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، فإذا عدمه كان كالعين العمياء.

والله جل جلاله بحكمته سلط على العبد عدواً عالماً بطرق هلاكه، لا يفتر عنه يقظةً ولا مناماً حتى يظفر به.

فيحول أولاً بينه وبين الإسلام، فإن فاته وأسلم زين له البدعة، فإن عجز عنه ألقاه في الكبائر، فإن أعجزه ألقاه في الصغائر، فإن أعجزه أشغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فإن أعجزه أشغله بالمباحات والشهوات، فإن أعجزه ذلك سلط عليه حزبه يؤذونه ويشتمونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عن العلم والإرادة وسائر العمل، فهذه سبع سكاكين يذبح بها الشيطان كل واحد من بني آدم.

ولا يمكن أن يحترز من الشيطان من لا علم له بهذه الأمور، ولا علم له بعدوه،

ص: 1540

ولا ما يحصنه منه، ولا بكيفية محاربته، ولا بأي شيء يحاربه، وهذا كله لا يحصل إلا بالعلم.

والخير كله بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، والشر كله بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل.

وكل شر في العالم سببه مخالفة ما جاءت به الرسل.

وكل خير في العالم فسببه طاعة الرسل.

وآفة العلم عدم مطابقته لمراد الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة .. ومن فساد الإرادة تارة.

ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن هذا مشروع محبوب لله، وهو ليس كذلك، أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعاً، فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل.

وأما فساده من جهة القصد، فأن لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة، بل يقصد به الدنيا والخلق.

ولا سبيل للسلامة من هاتين الآفتين في العلم والعمل إلا بمعرفة ما جاء به الرسول في باب العلم والمعرفة، وإرادة وجه الله والدار الآخرة في باب القصد والإرادة.

فمتى خلا القلب من هذه المعرفة وهذه الإرادة فسد علمه وعمله.

وكل من آثر الدنيا واستحبها من أهل العلم فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه وفي خبره وإلزامه.

لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه.

فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة، متبعين للشهوات، لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيَّما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة،

ص: 1541

ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجه الحق.

وإن كان الحق ظاهراً لا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال: لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم يقول سبحانه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)} [الأعراف: 169].

وهؤلاء لا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة.

فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا على الدين، واتبعوا الرياسات والشهوات، يضل أحدهم بعد العلم، ويغوى بعد الرشد، ويتبع الشيطان، ويرغب عن هدى ربه ويتبع هواه:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].

فهذا حال العالم المؤثر الدنيا على الآخرة.

وأما العابد الجاهل، فآفته من إعراضه عن العلم وأحكامه، وغلبة ما تهواه نفسه على ما شرعه ربه.

وعلماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم.

فنفر الناس عنهم وقالوا: لو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة هداة وأدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق، فهم كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، وتبقى فيه النخالة من الشوك والحجر.

وكذلك علماء السوء يخرج منهم الحكم، ويبقى الغل في صدورهم، والإضلال في أعمالهم.

وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب يورث

ص: 1542

خشية الله وتقواه، ومحبته ولذة مناجاته.

أما من حصّل العلم وهو رديء الأخلاق، فما أبعده عن العلم الحقيقي النافع الجالب للسعادة في الدنيا والآخرة.

فإن من أوائل ذلك العلم أن يظهر أن في الطاعات والحسنات أرباحاً عظيمة، وأن في المعاصي سموماً قاتلة مهلكة.

وهل رأيت من يتناول سماً مع علمه بكونه سماً قاتلاً؟.

إنما الذي نسمعه من المترسمين معلومات جمعوها في أذهانهم، لم تنزل في قلوبهم، ولم تظهر على جوارحهم، وإن نطقت بها أفواههم.

فهي حديث يلفقونه بألسنتهم، يقولونه هنا مرة، وهناك مرة وليس ذلك من العلم في شي:{يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} [النساء: 142، 143].

فالفقه في الدين أصله وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بدينه وشرعه، ومصدر ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية، ففيهما الهدى والشفاء والعلم والنور، والسعادة والفلاح:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن: 8].

{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} [الأنعام: 104].

والعلوم الشرعية قسمان:

1 -

ما أخبر به الشارع، وهو ما علَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بما بُعث به من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ونحو ذلك.

2 -

ما أمر به الشارع من الأحكام الشرعية من واجب، ومستحب، وما نهى عنه من محرم، ومكروه.

والأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة ثلاثة أقسام:

1 -

ما يُعرف حدّه ومسماه بالشرع، فهذا قد بيّنه الله ورسوله كاسم الصلاة

ص: 1543

والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام، والكفر والنفاق.

2 -

ما يُعرف حدّه باللغة كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبر والبحر.

3 -

ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم كالبيع والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد.

فما كان من النوع الأول فقد بيّنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان من النوع الثاني والثالث فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة قد عرفوا المراد به لمعرفتهم بمسماه لغة أو عرفاً.

والاسم إذا بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم حدَّ مسماه، عُرِّف بتعريفه هو صلى الله عليه وسلم كيف ما كان الأمر كاسم الخمر والماء والحيض والنفاس والسفر ونحوها، فكل مسكر خمر، وكل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر مطهر، والحيض كل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض، والسفر ليس له مسافة محدودة، فكل ما يسمى لغة وعرفاً سفراً تجري فيه أحكام السفر من قصر وفطر ومسح ونحوها.

ص: 1544