الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - فقه التعظيم
وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67].
التعظيم: هو معرفة عظمة الرب، وتعظيمه وإجلاله مع التذلل له، وعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم تعظيماً له وإجلالاً، ومحبة وطاعة وعبادة.
والتعظيم على ثلاث درجات:
الأولى: تعظيم الأمر والنهي.
وذلك بأن لا يعارضا بترخص يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال، ولا بغلو يجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي، ولا يحملا على علة توهن الانقياد كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء، فإذا أُمن من هذا المحذور جاز شربه ونحو ذلك.
وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وهذه العلل الفاسدة كم عطلت لله من أمر .. وأباحت من محرم .. وحرمت من مباح؟.
وأما الترخص والغلو، فالأول تفريط، والثاني إفراط، ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه.
فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد.
والغلو نوعان:
نوع يخرج العبد عن كونه مطيعاً كمن زاد في الصلاة ركعة عمداً، أو سعى بين الصفا والمروة عشراً عمداً ونحو ذلك.
ونوع يخاف منه الانقطاع كقيام الليل كله، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، وسرد صيام الدهر أجمع.
وهذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا .. ويسروا وأبشروا .. وأملوا ما يسركم من ربكم.
الثانية: تعظيم الحكم الكوني القدري.
فالأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري.
فكما يجب على العبد أن يراعي حكم الله الديني بالتعظيم، فكذلك يراعى حكم الله الكوني بالتعظيم.
وتعظيمه بأن لا يرى فيه عوجاً، ولا يطلب له عوجاً، بل يراه كله مستقيماً؛ لأنه صادر عن عين الحكمة، فلا عوج فيه.
فكل ما يجري في الكون من الحركات والسكنات، والطاعات والمعاصي، والخير والشر، كله بقضاء الله وقدره.
لكن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، والمقضي فعله المباين له، المنفصل عنه، وهو المشتمل على الخير والشر، والعوج والاستقامة.
فقضاؤه سبحانه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل.
وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل، ومنه جور.
وقضاؤه كله مرضي، والمقضي منه مرضي، ومنه مسخوط.
وقضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية، وهذا إرادته الدينية، ومن تعظيمهما الانقياد لهما، فهما وصفان للرب سبحانه.
فأمره الشرعي وقدره الكوني سواء، أمره لا يبطل قدره، وقدره لا يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه، وهو أيضاً من قضائه.
فما دُفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، وما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع مقدور الله إلا بقدر الله وأمره.
ومن تعظيمه أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله، فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وأن المتصرف فيه حقاً هو مالكه الحق سبحانه.
فهو سبحانه الذي يقيمه ويقعده، ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم، وذلك مناف لتعظيمه.
الثالثة: تعظيم الرب سبحانه.
الحق الذي له الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه، والأولى تتضمن تعظيم أمره.
وتعظيم الحق سبحانه أن لا تجعل دونه سبباً، فهو الذي يوصل عبده إليه، فلا يوصل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه سواه، ولا يدني إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، ولا هدى إليه سواه.
وكذلك لا ترى لأحد من الخلق حقاً على الله، بل الحق لله على خلقه، فهو الذي خلقهم ورزقهم وهداهم وأبقاهم.
وأما حقوق العباد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم، وتوبته على تائبهم، وإجابته لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها حقوق أحقوها هم عليه.
فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه سبحانه.
ومن تعظيمه عز وجل أن لا ينازع العبد له اختياراً، فإذا اختار لك أو لغيرك شيئاً إما بأمره ودينه .. وإما بقضائه وقدره، فلا تنازع اختياره، بل ارض باختيار ما
اختار لك، فإن ذلك من تعظيمه جل جلاله.
ولا ترد عليه قدره من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها، لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه.
ومن تعظيمه عز وجل تعظيم حرماته: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
وحرمات الله هي ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص .. والأزمنة والأمكنة .. والأوامر والنواهي.
فتعظيم الأمر، وتعظيم أمره ونهيه، وتعظيم حرماته، وتعظيم قضائه وقدره، هو الواجب على كل مسلم، فيعظم ربه تعظيماً لذاته، وخوفاً من عقابه، وطلباً لثوابه.
فهو سبحانه أهل أن يُعبد وأن يُّحَب، وأن يعظم، وهو الذي يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، فمنه كل شيء، وبيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء.
ومن تعظيم الله جل جلاله صيانة الانبساط بين يدي الله أن تشوبه جرأة فيخرج عن أدب العبودية، فلا بدَّ من مقارنة التعظيم والإجلال لبسط المشاهدة، وصيانة السرور بين يدي الله أن يداخله أمن، فينبغي للعبد أن لا يأمن في هذه الحال المكر، ولا ينسب ما حصل له من الاجتهاد التام والعبادة الخالصة إلى نفسه، بل ذلك محض فضل الله عليه.
ومن أعظم الظلم والجهل والسفه أن يطلب العبد التعظيم والتوقير من الناس، وقلبه خال من تعظيم الله وتوقيره.
فما أجهل الإنسان حين يوقر المخلوق ويجله أن يراه في حال لا يوقر الله أن يراه عليها، فلو عرف الناس ربهم وعظموه، وعرفوا حق عظمته وحَّدوه، وأطاعوه وشكروه.
فطاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب،
المبني على معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة عظمته وقدرته، ولطفه ورحمته.
ومن وقاره سبحانه أن لا تعدل به شيئاً من خلقه
…
لا في اللفظ كقولك: ما شاء الله وشئت .. ولا في الحب والتعظيم والإجلال .. ولا في الطاعة فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله، بل أعظم؛ كما عليه أكثر الظلمة والفجرة .. ولا في الخوف والرجاء، فلا يجعله أهون الناظرين إليه.
ولا يستهين بحق الله عز وجل ويقول هو مبني على المسامحة، ولا يجعله على الفضلة ويقدم حق المخلوق عليه.
ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه، ويعطي الله في عبادته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه.
ولا يجعل مراد نفسه مقدماً على مراد ربه.
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب، ومن لا يوقر الله العظيم، كيف يوقر كلامه ورسله ودينه وأوامره؟. {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)} [نوح: 13].
ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذلك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم.
ومن وقار الله وإجلاله وتعظيمه أن يستحي العبد منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس.
ومن وقار الله أن يستحي العبد من اطلاعه على سره وقلبه فيرى فيه ما يكره.
ومن وقار الله توقير كلامه ورسله ودينه، وعدم هجر كتابه، ومن لا يوقر الله وكلامه، وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وإكرامه؟.