المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌7 - فقه السنة النبوية

‌7 - فقه السنة النبوية

قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].

وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

الله تبارك وتعالى امتن على عباده بأكبر النعم، وهي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، الذي أنقذهم الله به من الضلالة، وعصمهم به من الهلكة، وهداهم به إلى الصراط المستقيم.

بعثه سبحانه إليهم من قومهم ناصحاً لهم مشفقاً عليهم، يتلو عليهم آيات ربه، ويعلمهم ألفاظها ومعانيها، ويزكيهم من الشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق، ويعلمهم القرآن والسنة التي هي شقيقة القرآن.

ويعلمهم الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه، ومعرفة أسرار الشريعة.

فجمع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين:

تلاوة القرآن .. وتعليم الأحكام .. وتزكية القلوب بالإيمان .. وكيفية تنفيذ الأحكام .. وبيان ثواب أهل الطاعة .. وعقاب أهل المعصية.

ففاقوا بمعرفة هذه الأمور والإيمان بها والعمل بموجبها جميع المخلوقين، وكانوا من العلماء الربانيين:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].

والسنة النبوية: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير أو صفة.

والوحي قسمان:

آية محكمة .. وسنة ثابتة.

فالسنة النبوية أحد قسمي الوحي الإلهي، الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 1589

كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكتاب وَمِثْلَهُ مَعَهُ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).

ومن آثار رحمة الله تعالى أن أنزل القرآن الكريم وحياً يتلى إلى يوم القيامة، محفوظ من التبديل والتغيير كما قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

فكان دليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان خير حافظ للشريعة من عبث العابثين، وتحريف الغالين، وكان وما زال نوراً ساطعاً:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 16].

وكما حفظ الله شريعته بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رفع الإصر والحرج عن عباده، فأنزل على رسوله الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعاً آخر من الوحي هو السنة، أنزلها إليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه، إيذاناً بأن في الأمر سعة على الأمة وتخفيفاً عليها.

فيجوز للمسلمين أن يبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم باللفظ النبوي إن تيسر وهو الأولى، لما فيه من أنوار النبوة، وحسن الفصاحة.

ويجوز أن يبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم بعبارات تفي بالمقصود؛ لأن المقصود المعنى لا اللفظ.

وفي هذا الوحي وهذا الوحي صون للشريعة، وتخفيف على الأمة.

ولو كان الوحي كله من قبيل القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه لشق الأمر، وعظم الخطب، ولما استطاع الناس أن يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية.

ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب، ومثار للشك، ومغمز للطاعنين، الذين يقولون لا نأمن من خطأ الرواة

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (17174)، وأبو داود برقم (4604).

ص: 1590

في أداء الشريعة.

ولكن الله حكيم عليم صان الشريعة بالقرآن، ورفع الإصر عن الأمة بجواز رواية السنة بالمعنى، لئلا يكون للناس على الله حجة.

والسنة النبوية وحي من الله إلى رسوله، وهي أصل من أصول الدين يجب اتباعها، والعمل بموجبها كالقرآن، وتحرم مخالفتها كما قال سبحانه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].

وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} [الأحزاب: 36].

وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

والسنة النبوية مع القرآن لها ثلاثة أحوال:

الأولى: أن تكون موافقة لما جاء في القرآن من حيث الإجمال والبيان، فتكون مؤكدة لما جاء فيه لأهميته كالتأكيد على أهمية الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها.

كقوله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَإقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» متفق عليه (1).

مع قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56].

وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183].

وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (8)، واللفظ له، ومسلم برقم (16).

ص: 1591

غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران: 97].

الثانية: أن تكون بياناً لما أجمل في القرآن، وذلك:

ببيان مجمل كالأحاديث التي جاء فيها تفصيل أحكام الطهارة والصلاة، والزكاة والنفقات، والصيام والحج ونحو ذلك.

أو تقييد مطلق كالأحاديث التي بينت المراد من اليد في قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38].

فبينت السنة أنها اليد اليمنى، وأن القطع من الكوع لا من المرفق.

أو تخصيص عام كالحديث الذي بين أن المراد من الظلم في قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].

أنه الشرك، لا عموم الظلم، فأي أحد لم يظلم نفسه؟.

أو توضيح لمشكل كالحديث الذي بين أن المراد بالخيطين في قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} [البقرة: 187].

هو بياض النهار، وسواد الليل.

وأغلب السنة من هذا النوع، ولهذه الغلبة وصفت بأنها مبينة للكتاب كما قال سبحانه:{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44].

الثالثة: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن.

كالأحاديث التي دلت على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح، والحكم بشاهد ويمين، ووجوب رجم الزاني المحصن، ووجوب الكفارة على من انتهك حرمة صوم

ص: 1592

رمضان، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، وكون ذكاة الجنين في بطن أمه ذكاة أمه، ونحو ذلك.

وهذه الأحوال الثلاث تقع في الأحكام والأخبار.

ومجالس النبي صلى الله عليه وسلم العلمية كانت مفتوحة لكل الناس رجالاً ونساء، عرباً وعجماً، خاصة وعامة، أغنياء وفقراء، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مدرسة مشيدة، ولا معهد للتعليم يجلس فيه إلى أصحابه.

بل كانت مجالسه العلمية كيفما اتفق:

فهو في الجيش معلم وواعظ يلهب القلوب بوعظه، ويحمس الجنود بقوله.

وهو في السفر مرشد وهاد .. وهو في البيت يعلم أهله السنن والآداب .. وهو في المسجد مدرس وخطيب، وقاضٍ ومفتٍ، وهو في الطريق يستوقفه أضعف الناس ليسأله عن أمر دينه فيقف ليعلمه ويرشده.

وهو في جميع أحواله مرشد وناصح ومعلم.

إلا أنه كثيراً ما كان يعقد لأصحابه المجالس العلمية بالمسجد، حيث يجتمعون فيه في أغلب الأوقات لأداء فريضة الصلاة، فكان يتخولهم بالموعظة تلو الموعظة، والدرس تلو الدرس، حتى لا يملوا ويسأموا.

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. متفق عليه (1).

فعلى العلماء والدعاة أن يهتدوا بسنته، ويقتدوا بأقواله وأفعاله كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

ولم يكن صلى الله عليه وسلم محجوباً عن رعيته كالملوك، ولا سلطاناً مترفعاً عن الاختلاط بأفراد أمته.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (68)، واللفظ له، ومسلم برقم (2821).

ص: 1593

بل كان متقلباً بين ظهرانيهم .. يبلغ رسالة ربه .. ويعود مرضاهم .. ويشيع موتاهم .. ويفصل في قضاياهم .. ويفض منازعاتهم .. ويجيب داعيهم .. ويستقبل أدناهم وأشرفهم .. ويكرمهم بالكلمة الطيبة .. ويواسي محتاجهم.

وهم في كل ذلك مقبلون عليه بآذان صاغية، وقلوب واعية.

وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحابه سيخلفونه من بعده، وسيقع على كاهلهم أمر الإرشاد والتعليم والإفتاء والدعوة، فأتى في دروسه العلمية بأمور كان لها أكبر الأثر في توجيه الصحابة وتعليمهم كيف يضطلعون بمهنة التعليم والإرشاد.

فكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل عما لا يعلم سكت حتى يأتيه الوحي من الله بذلك.

وكان من هديه أنه إذا قال كلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم عنه.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه ربما طرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، وليشحذ أذهانهم للفهم.

وكان إذا سئل عن مسألة فأجاب عنها، أفاض في مسائل أخرى لها مناسبة بالمقام، أو صلة بالجواب، فيستطرد ليفيد السائل والحاضرين علماً جديداً.

وكان يخص بعض أصحابه بالعلم دون بعض مخافة ألا يفهموا فيفتنوا.

إلى غير ذلك من الأمثلة والآداب والمواعظ التي تلقوها منه، حتى كانوا أئمة في الدين، أساتذة في التعليم، أمناء على أحكام الدين.

فما أحسن الاستجابة لله والرسول، وما أجدر العاقل بذلك.

إن الإسلام يدعو الناس إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، وتخلص النفوس من ضغط الأوهام والأساطير، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة، ومن العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].

ويدعوهم إلى شريعة من عند الله يكملون بها ويسعدون في الدنيا والآخرة.

ص: 1594

ويدعوهم إلى منهج للحياة ومنهج للفكر يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة التي فطر الناس عليها.

ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم، والانطلاق في الأرض كلها لتحرير الإنسان بجملته، وإخراجه من ذل عبودية العباد إلى عز عبودية الله وحده.

ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله لتقرير ألوهية الله سبحانه في الأرض وفي حياة الناس، وتحطيم ألوهية العبيد التي قهروا بها العباد وأضلوهم وأفسدوهم.

ذلك مجمل ما جاءت به السنة، ومجمل ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دعوة إلى الحياة الطيبة في كل شيء.

والله يأمرنا أن نستجيب له طائعين مختارين، وإن كان الله سبحانه قادراً على قهر الناس على الهدى لو أراد، فإنه وحده الذي يحول بين المرء وقلبه، ويصرفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد، وصاحبه لا يملك منه شيئاً، وهو قلبه الذي بين جنبيه.

إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة فيه؛ لئلا ينزلق فيما حرَّم الله.

والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في غفلة من غفلاته.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم يكثر من دعاء ربه بقوله: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

فكيف بنا ونحن غير مرسلين ولا معصومين؟ .. فالقلوب كلها بيديه سبحانه، والناس محشورون إليه، فلا مفر لأحد.

ومع هذا الله يدعونا للاستجابة إليه استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور.

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (12131).

وأخرجه الترمذي برقم (3522)، صحيح سنن الترمذي برقم (2792).

ص: 1595

ولولا الله تبارك وتعالى ما زكى أحد أبداً، ولكن الله أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وبعثه إليهم بالهدى ودين الحق: ليطهر أرواحهم وقلوبهم من دنس الشرك ولوثة الجاهلية وخرافاتها.

ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات التي تزري بهم إلى أقل من رتبة الأنعام.

ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت، والغش والكذب، والسلب والنهب.

ويطهر حياتهم من الظلم والبغي والعدوان بنشر العدل والإحسان والرحمة.

ويطهرهم من كل ما لا يليق بكرامتهم، ويتنافى مع إنسانيتهم:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].

وكمال الإنسان يتم بخمسة أمور:

الإيمان .. والعلم .. والعبادة .. والدعوة .. والتقوى.

وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة وهي خالية من هذه الصفات، فنقلها بتوفيق الله وعونه تدريجياً إلى هذه القمة السامقة:

من الكفر إلى الإيمان .. ومن الشرك إلى التوحيد .. ومن الجهل إلى العلم .. ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله .. ومن الظلم إلى العدل .. ومن الضلال إلى الهدى .. ومن الإثم والعدوان إلى البر والتقوى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].

وعمل النبي صلى الله عليه وسلم هو عمل الأمة من بعده، كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

وكل حديث صحيح حجة على جميع الأمة، يجب العمل به والأخذ بمضمونه ما لم ينسخ، أو يخصص، كما يجب العمل بحكم كل آية في كتاب الله ما لم تنسخ أو تخصص، فالسنة النبوية هي الأصل الثاني من أصول التشريع بعد القرآن الكريم.

ص: 1596

والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن ربه ما يوحى إليه، والذي أوحي إليه هو الكتاب والحكمة، والحكمة هي ثمرة هذا الكتاب، وهي مكملة للكتاب في بيان أحكام الدين.

والسنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم تؤكد ما جاء فيه، وتفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه، وتزيد أحياناً على ما جاء فيه كما سبق.

والأحكام التي استقلت بها السنة لا تقل في المنزلة عن الأحكام التي جاء بها القرآن، فكلاهما وحي من عند الله كما قال سبحانه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].

والأحاديث النبوية هي مفتاح العلوم الشرعية، ومشكاة الأدلة السمعية، وكشاف المسائل العلمية والعملية، تتفجر منها ينابيع الحكم، وتدور عليها رحى الشرع بالأثر.

وهي ملاك كل أمر ونهي، ولولاها لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا فتناً عمياء.

وللسنة أن تنفرد في التشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، ولها أن تقوم بوظيفة البيان حين يترك لها التفصيل والتوضيح، فالشرع الإسلامي قائم على أصلين هما الكتاب والسنة.

وقد فرض الله على الناس الإيمان به وبرسوله، واتباع وحيه وسنن رسوله، وطاعته وطاعة رسوله كما قال سبحانه:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158].

فالقرآن والسنة هما الإمام الذي يقتدى به، والنور الذي يهتدى به، والحبل الذي يعتصم به، والمنهل الذي يستشفى به.

فمن لم يرضع من درهما، ولم يغرف من بحورهما، ولم يقطف من أزهارهما، ولم يستضيء بنورهما، ولم يرتع في رياضهما، فقد حرم من موائد الإكرام من

ص: 1597

رب البرية، وباع الشريف بالخسيس، وكرع في حياض العفن والدناءة.

وكلام الله المنزل قسمان:

قسم قال الله لجبريل اقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله وقرأه على محمد صلى الله عليه وسلم من غير تغيير في لفظه فهذا هو القرآن الكريم.

وقسم قال الله لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول: افعل كذا وكذا وأمر بكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو السنة النبوية.

وجبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، وكل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، والوحي كله محفوظ بحفظ الله له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه شيء، ولا يحرَّف منه شيء كما قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

والوحي الذي أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام:

الأول: وحي بمعنى الإلقاء والإلهام.

الثاني: وحي من وراء حجاب.

الثالث: وحي بواسطة الملك الكريم جبريل.

قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51].

والقرآن من قبيل القسم الثالث كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195].

فالقرآن قسم واحد من الوحي، والقسمان الآخران كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى أمور الدين وأحكامه عن طريقهما، فقد أنزل الله على رسوله الحكمة كما أنزل القرآن.

والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق توكلاً على ربه، وأحسنهم يقيناً عليه.

ص: 1598

عَنْ جَابِرٍ، قال: أقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ، قال: كُنَّا إِذَا أتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَرَطَهُ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أتَخَافُنِي؟ قال: «لا» . قال: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: «اللهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ» . قال فَتَهَدَّدَهُ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأغْمَدَ السَّيْفَ وَعَلَّقَهُ. متفق عليه (1).

وهو صلى الله عليه وسلم أشفق الناس على أمته، يدلهم على كل ما ينفعهم، ويحذرهم مما يضرهم.

قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عز وجل مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ» متفق عليه (2).

وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ، فَأنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيه» متفق عليه (3).

وإذا علمنا ذلك من سيرته صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نقتدي به في حسن خلقه، وحسن توكله، وكمال شفقته على الأمة وفي سائر أخلاقه وعباداته ومعاملاته ومعاشراته.

وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً، ما خير بن أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له.

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3426)، ومسلم برقم (2284) واللفظ له.

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2913)، ومسلم برقم (843)، واللفظ له.

ص: 1599

إثماً.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم َيْنَ أمْرَيْنِ إِلا أخَذَ أيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ الله ِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلا أنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا» . متفق عليه (1).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا» . متفق عليه (2).

وحياة النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على ثلاثة أمور:

فرائض حياة .. وطريقة حياة .. ومقصد حياة.

فالله تبارك وتعالى فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فرائض، وهي العبادات التي بين العبد وربه كالصلوات وصيام رمضان والحج ونحوها، والمعاملات التي بين العبد والخلق كأداء الزكاة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والعدل في المعاملات، والصدق وحسن الخلق، واجتناب الكذب والغش والأخلاق السيئة، وأداء الحقوق.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» . قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» أخرجه مسلم (3).

وأما طريقة الحياة فالله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى التوحيد والإيمان، والأعمال الصالحة، والآداب الحسنة، والأخلاق الطيبة، فالإنسان ليس كالبهائم يأكل ما شاء، وينام كيف شاء، وينكح ما شاء، ويقضي حياته كيف شاء.

بل الله تبارك وتعالى أكرم الإنسان، ومنَّ عليه بالإيمان، وأكرمه بالدين الذي فيه تبيان كل شيء، وأكرمه بالعقل والعلم الذي يعرف به ما ينفعه وما يضره، ومن

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3560)، واللفظ له، ومسلم برقم (2327).

(2)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3562)، واللفظ له، ومسلم برقم (2320).

(3)

أخرجه مسلم برقم (2162).

ص: 1600

يستحق أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

فخلق الله سبحانه الإنسان وأنزل له الدين الذي ينظم طريقة حياته من حين يولد إلى أن يموت كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يأكل المسلم .. وكيف يأكل .. وماذا يقول عند الأكل .. وماذا يقول بعد الأكل؟.

وبيَّن ما يشرب المسلم .. وكيف يشرب .. وماذا يقول عند الشرب .. وماذا يقول بعد الشرب؟.

وبين ما يلبس المسلم .. وكيف يلبس .. وماذا يقول عند اللبس؟.

وبين ما يركب المسلم .. وكيف يركب .. وماذا يقول عند الركوب؟.

وبين متى ينام المسلم .. وكيف ينام .. وماذا يقول عند النوم .. وماذا يفعل عند النوم .. وماذا يقول بعد النوم؟.

وبين متى يسافر المسلم .. ومتى يغزو المسلم .. وماذا يقول عند السفر .. وماذا يقول بعد الوصول من السفر.

وبين ماذا يسمع المسلم .. وماذا يرى المسلم .. وبماذا يتكلم المسلم .. وماذا يفعل عند المرض .. وماذا يفعل عند الخوف .. وماذا يقرأ المسلم .. وماذا يفعل عند النكاح .. وماذا يفعل عند الوضوء .. وماذا يفعل عند الأذان .. وماذا يفعل عند الصلاة؟.

وبين صلى الله عليه وسلم ماذا يفعل المسلم عند الحرب .. وماذا يفعل عند لقاء العدو .. وماذا يفعل به عند موته ودفنه؟

وبين ماذا يفعل بماله .. وكيف يكسب المال .. وكيف ينفقه .. وكيف يزكيه .. وكيف ينميه؟.

وبين صلى الله عليه وسلم كيف يعامل الرجل زوجه .. وكيف يعامل أولاده .. وكيف يعامل والديه .. وكيف يعامل صديقه .. وكيف يعامل عدوه .. وكيف يعامل البهائم؟.

ص: 1601

وبين صلى الله عليه وسلم بم يعامل المحسن .. وبم يعامل الظالم .. وبم يعامل الصائل .. وبماذا يعاقب الزاني أو السارق أو القاتل؟

وبين جميع أحكام الحلال والحرام .. وأحكام البيع والشراء .. وأحكام السلم والحرب .. وأحكام الأمن والخوف.

تلقى صلى الله عليه وسلم كتاب ربه، وأحل حلاله وحرم حرامه، وتخلق بأخلاقه .. وتأدب بآدابه، فكان أحسن الناس خَلْقاً وخُلُقاً، وكان خلقه القرآن الذي فيه كل خير، وفيه تبيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم تفسيراً لهذا القرآن العظيم، فعلى الأمة كافة أن تقتدي به.

قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].

وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

وأما مقصد الحياة فهي الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 45 - 48].

والله عز وجل أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين الكامل، وللحصول على النعيم الكامل لا بدَّ لكل مسلم من القيام بالدين الكامل: تعلم الدين .. والعمل بالدين .. وتعليم الدين .. والدعوة إلى الدين: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران: 32].

وليس للناس من يقتدون به إلا من اختارهم الله واصطفاهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ورباهم وأرسلهم بالدين الحق، خاصة سيدهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأرسله للناس أجمعين.

ص: 1602

فمن آمن به وأطاعه واقتدى به فله الجنة، ومن عصاه شقي في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة: 71].

وماذا أعد الله لهؤلاء من النعيم المقيم والرضوان من الكريم: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} [آل عمران: 74].

وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم كل من أطاعه بدخول الجنة، وأوعد من عصاه بدخول النار كما قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ:«مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» أخرجه البخاري (1).

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.

(1) أخرجه البخاري برقم (7280).

ص: 1603