الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - فقه الإرادة
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 27، 28].
الإرادة: هي مركب العبودية، وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له.
وأكمل الخلق صلى الله عليه وسلم أكملهم عبودية ومحبة، وأصحهم حالاً، وأقومهم معرفة، وأتمهم إرادة.
وحقيقة الإرادة: أن يبقى مراد العبد مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له في الإرادة، وحظه مراد المحبوب منه، لا مراده هو من المحبوب، وبين الأمرين من الفرق كما بين السماء والأرض.
وليس للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده هو إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومراده.
وما يراد بالعبد نوعان:
أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والحياة والموت، ونحو ذلك فهذا لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إرادته، ووقوفه مع ما يراد به، فلا يكون له إرادة تزاحم إرادة الله منه.
فمن الناس من يحب الموت للقاء الله .. ومنهم من يحب البقاء لطاعة الله وعبادته .. وأكمل منهما من يحب ما يحب الله، ويقف مع مراد ربه به من الحياة
أو الموت.
الثاني: ما يراد من العبد من الأوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا في إرادته.
فالذروة العليا للإرادة ليس نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك، لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون لإرادة محض حق محبوبه، وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه فيه نفس حقه ومراده، فهذه هي الإرادة التي لا علة فيها ولا نقص.
والله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض بالحق.
والغاية من خلق المخلوقات نوعان:
غاية تراد من العباد
…
وغاية تراد بهم.
فالغاية التي تراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله، وأن يعبدوه وحده لا شريك له، فيكون وحده هو إلههم ومعبودهم، ومطاعهم ومحبوبهم كما قال سبحانه:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
وأما الغاية المرادة بهم فهي: الجزاء بالعدل والفضل .. والثواب والعقاب والجنة والنار كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31].
وقال سبحانه: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)} [الجاثية: 22].
والله عز وجل فعال لما يريد، يفعل سبحانه ماشاء بإرادته ومشيئته وذلك من كماله سبحانه، وإذا أراد شيئاً فَعَله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وإما إرادته المتعلقة بفعل العبد، فتلك لها شأن آخر.
فإن أراد فعل العبد، ولم يرد من نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً، لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريده من نفسه أن يجعله فاعلاً.
فلله عز وجل إرادتان:
إرادة أن يفعل العبد
…
وإرادة أن يجعله الرب فاعلاً.
وقد يريد فعله، ولا يريد من نفسه أن يخلق له أسباب الفعل، فلا يوجد الفعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه يقول لعبده يوم القيامة:«قَدْ أرَدْتُ مِنْكَ أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ (أحْسِبُهُ قَالَ) وَلا أدْخِلَكَ النَّارَ، فَأبَيْتَ إِلا الشِّرْكَ» متفق عليه (1).
ولم يقع هذا المراد؛ لأنه لم يرد من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له، وفعل الله سبحانه وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، فهو الفعال لما يشاء، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده كما وصف نفسه بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود 107].
وما أعظم شأن الإرادة في الإنسان، فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء.
إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته في طاعة ربه، وعدم الخضوع لشهواته.
ويملك كذلك أن يهبط عن أقل من رتبة البهائم فيشقي نفسه، ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه.
والناس في الإرادة أربعة أقسام:
الأول: من لا يريد ربه، ولا يريد ثوابه، وهؤلاء أعداء الله حقاً، وهم أهل العذاب الدائم.
وعدم إرادتهم لثوابه، إما لعدم تصديقهم به، وإما لإيثارهم العاجل عليه ولو كان
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3334)، ومسلم برقم (2805)، واللفظ له.
فيه سخطه.
الثاني: من يريده ويريد ثوابه، وهؤلاء خواص خلقه كما قال سبحانه عن أمهات المؤمنين:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الأحزاب: 29].
الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله.
فهذا جاهل بربه، ناقص غاية النقص، ليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه البتة.
وأعلى الإرادة عنده إرادة الأكل والشرب والنكاح ونحوها من شهوات الجنة.
وهؤلاء قريبون من مرتبة الحيوان البهيم، وهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته.
الرابع: من يريد الله، ولا يريد منه، وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئاً.
فهذا قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى، فلم يخرج عن الإرادة، وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة.
لكن هذه حال عارضة غير دائمة، ولا هي غاية مطلوبة، ولا هي مقدورة للناس، ولا هي مأمور بها، ولا هي أعلى المقامات فيؤمر بها.