الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - فقه العلم والعمل
قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].
وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].
الناس في العلم والعمل أربعة أصناف:
الأول: من رزقه الله علماً وعملاً، وهؤلاء خلاصة الخلق، وأئمة هذا الصنف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم في ذلك درجات، فأفضلهم أولو العزم، ثم يلي الأنبياء أتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، وهم في ذلك درجات متفاوتة.
الثاني: من حرم العلم والعمل، وهذا الصنف شر البرية، وهم الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، وهؤلاء ناس في الصورة، وشياطين في الحقيقة، وجلهم أمثال البهائم والحمير والسباع.
الثالث: من فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب العمل.
فهذا في رتبة الجاهل أو شر منه، وما زاده العلم إلا وبالاً وعذاباً، ولا مطمع في صلاحه وهدايته.
فمن عرف الطريق وحاد عنها متعمداً فمتى ترجى هدايته؟: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)} [آل عمران: 86].
الرابع: من رزقه الله حظاً من الإرادة والعزيمة والعمل، ولكن قل نصيبه من العلم.
فهذا إذا وفق له الاقتداء بعالم أو داع من دعاة الله ورسوله ازداد عمله، وحسن عمله.
والإنسان لا يرغب في طلب العلم، ولا يقبل عليه إلا بإرادة جازمة، ولا تأتي الإرادة إلا بمحرك لها وهو الإيمان، ومعرفة فضل العلم وثواب العلماء، ومعرفة درجاتهم عند الله.
ومما يرغب العبد لطلب العلم الشرعي، ويحرك نفسه لتعلمه وتعليمه أن يقول لنفسه:
إن الله أمرني بالعبادات والطاعات والفرائض، ولا أقدر على أدائها إلا بالعلم.
ونهاني الله عن المعاصي والآثام، ولا أقدر على اجتنابها إلا بعد معرفة قبحها وسوء عاقبتها، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
ويقول: إن الله عز وجل أوجب علي شكر نعمه الظاهرة والباطنة ولا أقدر على معرفتها، وطاعة الله فيها إلا بالعلم.
وأمرني الله عز وجل بإنصاف الخلق، ولا أقدر على إنصافهم إلا بعد معرفة حقوقهم، وما يجب لهم، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وأمرني سبحانه بالصبر على بلائه، ولا أقدر عليه إلا بعد معرفة ثوابه وحسن عاقبته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وأمرني سبحانه بعداوة الشيطان، ولا أقدر عليها إلا بعد معرفة كيده وخطواته، ولا يتم ذلك إلا بالعلم.
وكمال العمل الصالح وقبوله مبني على ستة أمور:
الأول: إخلاص العمل لله.
الثاني: أن يكون على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: الاحتساب، بأن يعرف قيمة العمل الذي يؤديه لله.
الرابع: اليقين على ذات الله الذي يملك كل شيء.
الخامس: أن يؤديه بالمجاهدة، بترك ما يحب من أجله.
السادس: أن يؤديه بصفة الإحسان، فيؤديه بأحسن هيئة، ويقوم به أمام ربه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربه يراه.
والعمل شرط لصحة الإيمان، والأعمال منها ما هو شرط صحةٍ كالصلاة، ومنها ما هو شرط كمالٍ كبر الوالدين.
والسائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:
قو ة علمية .. وقوة إرادية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العطب.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى الله إذا أبصر الطريق وأعلامها، وأبصر المعاثر والوهاد، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر.
وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، وكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى.
فإذا استشعر قرب المنزل، هانت عليه مشقة السفر.
وكلما سكنت نفسه من كلال السير وعدها قرب التلاقي، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فتواصل السير إلى منازل الأحبة، فتصل حميدة مسرورة، يتلقاها الأحبة بأنواع التحف والهدايا والكرامات، وليس بينها وبين ذلك إلا صبر ساعة.
والناس من حيث القوة العلمية والعملية قسمان:
الأول: من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه.
ويكون ضعيفاً في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المخاوف والمتالف ولا يتوقاها.
فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، إذ قد
يكون لها مقاصد غير وجه الله تحرمها ثمرة العلم، وهو العمل بموجبه، والمعصوم من عصمه الله.
الثاني: من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل.
ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقيدة، والانحرافات في الأقوال والأعمال، كما كان الأول ضعيف العقل والإرادة عند ورود الشهوات.
فداء هذا من جهله .. وداء الأول من فساد إرادته، وضعف عقله.
وهذا حال أكثر أرباب الفقر والسالكين على غير طريق العلم.
فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه.
ومن كملت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله عز وجل، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته.
ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن لله في خلقه شئون، وحكم وأسرار يجهلها أكثر العباد، والله حكيم عليم.
فلكل إنسان قوتان:
قوة علمية نظرية .. وقو ة عملية إرادية.
وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والعملية.
واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق التي توصل إليه، ومعرفة آفاتها، ومعرفة نفسه، ومعرفة عيوبها.
فبهذه المعارف الخمس يحصل كمال قوته العلمية، وأعلم الناس أعرفهم بها وأفقههم بها.
واستكمال القوة العملية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها إخلاصاً وصدقاً، ونصحاً وإحساناً، وشهوداً لمنة الله عليه، وتقصيره في أداء حقه سبحانه.
فهو مستح من مواجهته بتلك الخدمة لعلمه أنها دون ما يستحقه، وحقه أعظم وأكبر من ذلك بكثير، وأنه لا سبيل إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته، فهو مضطر دائماً إلى أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يجنبه الخروج عنه، إما بفساد في قوته العلمية فيقع في الضلال، وإما بفساد في قوته العملية فيوجب له الغضب من ربه.
والله عز وجل يحب أن تعرف سبيل المؤمنين مفصلة لتحب وتسلك، كما يحب أن تعرف سبيل المجرمين لتبغض وتجتنب.
وقد بين الله في القرآن سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء وهؤلاء، وأعمال هؤلاء وهؤلاء، وتوفيقه لهؤلاء، وخذلانه لهؤلاء، وبين ذلك غاية البيان وأتمه:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام: 55].
والناس في معرفة ذلك أربع فرق:
1 -
العالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة مفصلة، وعرفوا سبيل المجرمين مفصلة، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى النجاة، والطريق الموصل إلى الهلكة.
فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.
وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الذين نشأوا في سبل الضلال والشرك، والسبل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى، فخرجوا من الظلام إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الظلم إلى العدل.
2 -
الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهم بسبيل المجرمين
أحضر ولها أسلك.
3 -
الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو لا يعرف ضدها إلا من حيث الجملة.
4 -
الرابعة: من عرف سبيل الكفر والشر والبدع مفصلة، وعرف سبيل المؤمنين مجملة.
وأعمال الإنسان قسمان:
الأول: أعمال القلوب كالإيمان بالله وتوحيده، ومحبته وخشيته، والتوكل عليه، وتعظيمه، والخضوع له، والإنابة إليه، واليقين على ذاته وأسمائه وصفاته.
الثاني: أعمال الجوارح كالذكر والدعاء، والصلاة والصوم، والحج ونحو ذلك.
وهذه الأعمال تتفاوت وتزيد وتنقص، والناس فيها درجات في الهيئة والقدرة، والقلة والكثرة، والرغبة والرهبة، والحسن والكمال.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» أخرجه مسلم (1).
والعلم: هو نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في الداخل.
والعمل: هو نقل صورة المعلوم من النفس وإثباتها في الخارج.
والله بكل شيء عليم، أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
والإنسان ظلوم جهول، ولا يعلم إلا ما علمه الله، فهو سبحانه الذي:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 5].
والإنسان مهما علم فعلمه لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، بل نسبة علوم البشرية كلها إلى علم الله أصغر من الذرة بالنسبة للجبل، وأقل من القطرة بالنسبة إلى البحر، فإن علم الله مطلق، وعلم البشر مهما كان فهو محدود.
ألا ما أجهل الإنسان .. وما أقل علمه .. وما أكثر غروره وطغيانه .. وماذا حصل
(1) أخرجه مسلم برقم (35).
البشر من العلم؟ .. وماذا أدركوا منه؟.
إنك لو سألت أكبر العلماء منهم:
كم شعرة في رأسك؟ .. وكم نفساً تنفسته؟ .. وكم كلمة قلتها؟ .. وكم خطوة مشيتها؟ .. وكم لقمة أكلتها؟ .. وكم كلمة سمعتها؟.
لم يستطع معرفة ذلك، لكن الله علام الغيوب يعلم ذلك كله.
ولو سألته:
كم عدد قطر الأمطار؟ .. وكم عدد ورق الأشجار؟ .. وكم مثاقيل الجبال؟ .. وكم عدد الطيور والحيوانات؟ .. وكم عدد الذرات والنباتات؟.
فإنه لا يعلم، لكن الله عز وجل أحاط بكل شيء علماً.
ولو سألته:
كم في السموات من الملائكة؟ .. وكم في الجنة من القصور والأنهار والثمار وألوان النعيم؟ .. وكم عدد النجوم والكواكب؟ .. وكم عدد الأرواح؟ .. وكم مقادير الأرزاق؟.
فإنه لا يعلم، لكن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم، وكل ما علمه الإنسان فهو مما علمه ربه.
ومتى يخاف الإنسان من ربه؟ .. ومتى يجلّه ويكبره ويعظمه؟.
إذا عرف عظمته وعلم قدرته، وعلم سعة رحمته وعلمه، وغزارة نعمه.
ومتى يستحي الإنسان من أخيه؟.
عندما يعلم أنه يعرف أحواله السيئة، فكيف لا يستحي العبد من ربه، وهو يعلم سره وعلانيته .. وتقواه وفجوره.
والله تبارك وتعالى له الخلق والأمر وحده.
فله أوامر على الإنسان في جميع أحواله، وإذا امتثل الإنسان هذه الأوامر سعد في الدنيا والآخرة، وهذه الأوامر هي الدين.
وقد أمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بعد الإقرار بالشهادتين بأربعة أشياء:
الأول: الصلاة، وفيها يتصل المخلوق بخالقه فيستفيد من خزائنه.
الثاني: الزكاة، وفيها مواساة المخلوق القادر للمخلوق العاجز.
الثالث: الصيام، وبه يتعود الصبر على الأوامر، والصبر عن الشهوات، فإذا انتصر على النفس أمكنه الانتصار على الغير من أعدائه.
الرابع: الحج، وفيه الخروج في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، وتذكير الإنسان بأنه غريب مسافر إلى دار أخرى.
وجميع أعمال الدين كملت في عهده صلى الله عليه وسلم، وخرجت من مسجده صلى الله عليه وسلم، وانتشرت في جميع أنحاء العالم.
فكان مسجده صلى الله عليه وسلم مدرسة فتحت أبوابها في جميع الأوقات لتعلم الدين .. والعمل به .. والدعوة إليه.
يتعلم فيها مختلف الأجناس من عرب وعجم .. ومختلف الألوان من بيض وسود .. ومختلف الطبقات من أغنياء وفقراء .. ومختلف الأسنان من شيوخ وشبان .. ومختلف الناس من سادة وعبيد .. وغيرهم.
فكانت حلقة العلم والتعلم في مسجده صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة .. مباركة نافعة .. تلقن العلم والعمل .. وتزكي الروح والبدن .. وتعنى بالتربية قبل التعليم .. وبتهذيب النفوس قبل حشو الرؤوس.
فكان هؤلاء الذين تخرجوا منها تاج خير أمة أخرجت للناس، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فرضي الله عنهم، ورضوا عنه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
ومن هؤلاء، وبهؤلاء ظهر نور العلم .. وظهر نور العمل .. وكان كمال
الإخلاص والمتابعة.
ثم أصيب العلم بثلاث آفات:
الأولى: أنه خرج من المسجد إلى خارج المسجد فانطفأ نوره، وبقي في الأذهان بصورة معلومات لا تحرك القلب والبدن، ولا تبعث على العمل.
الثانية: أنه تولد عن هذا العلم الكبر وكثرة الجدل عند العالم والمتعلم بسبب عدم العمل به، وثمرة العلم الإلهي التواضع لله، والعمل به، فانطفأ نور آخر.
الثالثة: أنه فقد الإخلاص؛ لأن حطام الدنيا بدأ يؤكل به، وصار القفز إلى المناصب والوظائف عن طريقه، ولم يطلب لله تعبداً، فانطفأ نور آخر من نوره، بل هو أعظم نوره.
وعلم بلا نور .. ولا تواضع .. ولا إخلاص .. ظلمة على ظلمة على ظلمة، ظلمات بعضها فوق بعض، فأنى تبصر الأمة طريقها في هذه الظلمات.
والعلم هو قائد العمل، والعمل ثمرة العلم.
ولقبول العمل شروط:
الأول: الإيمان بالله، وهو التوجه إليه بالعمل.
الثاني: الإخلاص، وهو توحيده بذلك العمل.
الثالث: العلم، وهو أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع: حفظ العمل بحسن الأخلاق.
فلو كانت أعمال العبد كالجبال وهو يؤذي الناس فهو خاسر؛ لأن الناس يأخذون حسناته يوم القيامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أمَّتِي، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أنْ يُقْضَى مَا
عَلَيْهِ، أخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» أخرجه مسلم (1).
وعلوم الدين الواردة في الكتاب والسنة قسمان:
خبر .. وإنشاء.
فالخبر: ما يطلب العلم به، والإنشاء: ما يطلب فعله أو تركه.
والخبر نوعان:
خبر عن الخالق .. وخبر عن مخلوقاته.
فالخبر عن الخالق كالخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا توحيد الربوبية، وإما دعاء إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما يعبد من دونه، وهذا هو توحيد الألوهية.
وإما خبر عن إكرام الله لأهل توحيده وطاعته في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وعن جزائهم في الدنيا والآخرة، وهذا جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
وإما أحكام وتشريع، وهذا من حقوق التوحيد، فإن التشريع كالخلق حق لله وحده كما قال سبحانه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
وأما الخبر عن المخلوقات كوصف خلق السماء والأرض .. والسهول والجبال، والبحار والأنهار .. والنبات والحيوان .. والإنسان .. ونحو ذلك مما في الدنيا.
ووصف الجنة، ووصف النار، وأحوال الحشر والبعث، ونحو ذلك مما يجري يوم القيامة.
ففي القرآن علم كل شيء كما قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
(1) أخرجه مسلم برقم (2581).
والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
وآفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات فلا بدَّ أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب، فلا تميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة، والسنة بدعة.
وكل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بدَّ أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه؛ لأن أحكام الرب كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس.
فمن أراد الدنيا وزينتها فلا بدَّ أن يهدم الآخرة ويهمل أعمالها؛ لأنشغاله بغيرها، ومن أراد الآخرة وأعمالها فلا بدَّ أن يهدم الدنيا ويعرض عن زينتها؛ لأنشغاله بغيرها.
فالدنيا والآخرة ضرَّتان إن ملت إلى إحداهما أضررت بالأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما، فليؤثر العبد ما يبقى على ما يفنى، وما يحبه الله على ما يبغضه، وما هو أنفع وأدوم وأجمل:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17].
والعلماء هم أولو الأمر وأهل الاقتداء، يقتدي بهم السالك، ويهتدي بهم الحيران، ويشفى بهم العليل، ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم، وأقوالهم وأفعالهم، وحركاتهم وسكناتهم، لما كانت لله وبالله، وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم.
وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة.
والعلماء ثلاثة:
الأول: عالم استنار بنور العلم، واستنار به الناس منه، فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء.
الثاني: عالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما.
الثالث: عالم لم يستنر بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا علمه وبال عليه، وبسطته للناس فتنة لهم، وبسطة الأول رحمة لهم.
فالمؤمن الموفق من هداه الله وعلمه وأعانه، وحبب إليه العلم والعمل والتعليم.
وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، فهذا لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالاً، وكفراً وطغياناً:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64].
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41].
وسبيل الله التي يحبها هي الجهاد وطلب العلم وتعليمه، ودعوة الخلق به إلى الله، فقوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، ولهذا قرن الله بهما في قوله سبحانه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} [الحديد: 25].
ولما كان كل من الجهاد بالسيف .. والجهاد باللسان .. يسمى في سبيل الله، فسر الصحابة رضي الله عنهم قوله سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59].
بأن المراد بأولي الأمر: الأمراء المتقون .. والعلماء الربانيون.
فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم.
والأمراء يرجعون إلى العلماء فيما أشكل عليهم، فعاد الأمر إلى فضل العلم والعلماء، وأنهم أئمة الناس الذين يقتدى بهم.
والعلم الحق هو المعرفة وإدراك الحق، وهو الذي يثمر العمل والقنوت والطاعة لله، والتوجه إليه في جميع الأمور.
وهو الذي يجعل المسلم يشعر بجلال الله فيخشاه، ويحس بآلائه ونعمه
فيحمده ويشكره، ويذكر العبد بتقصيره فيستغفر الله ويتوب إليه.
وهو الذي يمنح القلب نعمة الرؤية والتأثر بما في هذا الكون من مظاهر الجلال والجمال والإحسان، فيقبل على ربه محباً له عابداً له.
وهو الذي يجعل المسلم يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، فيعمل بما يحبه ويرضاه:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].
وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، وتشحن الرأس، ولا تؤثر في القلب، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس.
فأصحاب هذا العلم إنما يجمعون معلومات حفظوها في أذهانهم، ونطقت بها ألسنتهم، ولم تتأثر بها قلوبهم.
أما العلم الحقيقي فهو الذي يورث القنوت لله، والخشية منه، والخشوع له، واطمئنان القلب إليه، وأنسه به، ومراقبته في جميع الأحوال، والعمل بشرعه.
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المدركة لما وراء الظواهر من حقائق بالانتفاع بما ترى وتعلم، وبذكر الله في كل حال، وفي كل شيء تراه أو تسمعه أو تلمسه، ولا تنساه في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.
والناس في العمل أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها خالصة لله على طريقة رسول الله، فهؤلاء خيار الخلق وهم بأشرف المنازل.
الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فأعمالهم ليست موافقة للشرع، ولا خالصة لله وحده، وذلك كأعمال المتزينين للخلق، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله.
وهؤلاء هم شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل.
الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكن أعماله غير موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهم كل من عبد الله بغير أمره، كجهال العبّاد ممن يظن أن سماع المكاء
والتصدية قربة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة، وأن الخلوة لمناجاة الله التي يترك بها الجمعة والجماعة قربة، ونحو ذلك مما لم يرد في الشرع، وكل ذلك مردود على صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (1).
الرابع: من أعماله على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لكنها لغير الله كطاعة المرائين، وكالرجل يقاتل شجاعةً أو حميةً أو رياء، أو يحج ليقال، أو يقرأ القرآن ليقال قارئ، أو يعلم ليقال عالم ونحو ذلك.
فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير خالصة لله فلا تقبل، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، فقال:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ أعْلَى فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» متفق عليه (2).
فالمقبول من العمل مهما قلَّ أو كثر ما كان خالصاً لله، صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
والحجة إنما تقوم على العباد بشيئين هما:
التمكن من العلم بما أنزل الله .. والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل كالخرف فلا أمر عليهما ولا نهي.
قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15].
فالمجنون لا يعقل العلم، والخرف لا يقدر على العمل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ومقاصد الإسلام تدور على أربعة أصول:
الأول: معرفة الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو التوحيد والإيمان.
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2810)، ومسلم برقم (1904)، واللفظ له.
الثاني: كيفية أداء العبادات، والمعاملات، والمعاشرات، والأخلاق التي يحبها الله ويرضاها، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء عنه.
الثالث: الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليسعد كل فرد في العالم بهذا الدين.
الرابع: إيقاف المعتدي عند حده، وذلك بوضع الأحكام والعقوبات، التي تحفظ الأمن والأنفس والأعراض والأموال والدين، وهي الجهاد والحدود.
وآفات العمل ثلاث:
فكل عالم وكل عابد وكل عامل وكل داعٍ وكل مجاهد، إذا قام بالعمل، فإنه يعرض له في عمله ثلاث آفات هي:
رؤية العمل .. وطلب العوض عليه .. ورضاه به، وسكونه إليه.
فالذي يخلِّص العبد من رؤية عمله والإعجاب به مشاهدته لمنة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه من الله وبه لا من العبد، كما قال سبحانه:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17].
وقال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].
فالسمع والبصر والعقل، والتقوى والتوفيق والهداية، والإعانة والقبول ونحوها، كلها عطاء من الله وفضله ونعمته.
والذي يخلِّص العبد من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده شيئاً لا عوضاً ولا أجرة؛ لأنه مملوك لسيده، فإن أعطاه سيده شيئاً من الأجر والثواب فهو إحسان وإنعام من سيده لا عوضاً عن العمل:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} [مريم: 93، 94].
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَشْكُرُونَ (61)} [غافر: 61].
والذي يخلِّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران:
الأول: مطالعة عيوبه، وتقصيره في عمله، وما فيه من حظ النفس والشيطان والرياء.
الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها وشروطها، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها.
وتمام العمل يحصل بأمور أهمها:
الإيمان بالله .. ومعرفة الحق .. وإخلاص العمل لله .. وفعله على السنة .. وأكل الحلال .. وكف الأذى عن الناس .. وحسن الخلق .. وتعظيم الرب .. وتعظيم أمره .. ومحبة الرَّب .. ومحبة ما يحب.
وكمال الإنسان مداره على أصلين:
معرفة الحق من الباطل .. وإيثار الحق على الباطل بالعمل به، والدعوة إليه.
وتفاوت منازل الخلق عند الله في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتهم في هذين الأمرين.
وقد انقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام:
الأول: من عرف الحق وآثره على الباطل بالعمل به والدعوة إليه، فهؤلاء أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى.
الثاني: عكس هؤلاء، وهم من لا بصيرة له في الدين، ولا قوة له على تنفيذ الحق على نفسه ولا على غيره.
وهؤلاء أكثر الخلق، وأكثرهم شراً وبلاء، وهم الذين غرَّهم الشيطان فصاروا من جنده وحزبه.
الثالث: من له بصيرة في الهدى، ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه.
وهذا حال المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه.
الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة، ولكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين ولا هو موضع لها سوى القسم الأول كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24].
وكلما كان علم العبد بربه أتم كانت محبته أكمل، وكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم العلم بالله، وأعلى الحب الحب له، وأكمل اللذة بحسبهما، فاللذة تابعة للمحبة، والحب والشوق تابع لمعرفته سبحانه والعلم به.
والعلم شيء غالٍ لا يحصل لأي أحد، وحلية ثمينة لا تساق إلا لمن طلبها، وجاهد من أجلها، وكان صالحاً لها.
فلا ينال العلم مستح ٍولا مستكبر، هذا يمنعه حياؤه، وهذا يمنعه كبره.
وللعلم ست مراتب لا ينال إلا بها وهي:
حسن السؤال .. وحسن الإنصات .. وحسن الفهم .. وحسن الحفظ .. والعمل به، فإنه يوجب تذكره وتدبره ومراعاته .. ونشره وتعليمه وإلا نسيه.
والأعمال التي ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها أربعة:
الدعوة .. والجهاد .. والتعليم .. والعبادة.
وكذلك قام بها الصحابة، وهذه أعمال الأنبياء والرسل:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
فبالدعوة يقوى الإيمان، وتحصل الهداية لنا ولغيرنا، فنتكلم في عظمة الله وكبريائه، وعظمة أسمائه وصفاته وأفعاله، وخزائنه، وعجائب قدرته، وبذلك يتأثر الناس، ويزيد إيمانهم، فيقبلون على الأعمال الصالحة كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3].
ولكن الأعمال الصالحة لا تكون صالحة إلا بالعلم، وبالعلم تكون الأعمال مقبولة من صلاة وزكاة، وصيام وحج وغيرها.
فنتعلم فضائل وأحكام ما نريد أن نعمله، ليكون مطابقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:«مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه مسلم (1).
ولكن قد يقوى الإيمان، وتكون الأعمال صالحة، لكن قد تأتي بعض العوائق فتفسد العمل كالكبر والرياء، والفخر والعجب، ولذلك لا بدَّ من التزكية بالعبادة التي تهذب الأخلاق، وتزكي النفوس بما تشتمل عليه من الصدق والإخلاص، والإحسان والخشوع، والصبر والحلم وحسن الخلق.
فخير القرون الذي اكتملت فيه هذه الصفات الأربع في حياة الأمة، هو القرن الذي عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» متفق عليه (2).
وبالجهاد تظهر قوة الدين، ويتم حفظه ونشره، وقمع المعتدين عليه.
ثم صار الجهاد من أجل الملك والمال لا من أجل إعلاء كلمة الله، فضعفت الدعوة إلى الله، فأقبل أكثر الناس على الدنيا، واشتغلوا بوظائفها، وانصرف الزهاد والصالحون إلى العلم والعبادة.
ثم تولد عن طلب العلم بدون العمل به كثرة الجدل، وأكل حطام الدنيا به، ودخلت الأهواء وحب الدنيا في طلب العلم، فانصرف خيار الناس عنه، وزهدوا فيه، وحمله من ليس من أهله، فكثر الشقاق والخلاف والعصبية واتباع الهوى.
وانصرف خيار الناس إلى التزكية عن طريق السنة، فلزموا المساجد، وتركت الساحة لأهل الباطل، وبدأ الدين يخرج من حياة الناس تدريجياً، ففسدت المعاملات والمعاشرات والأخلاق، ثم بدأ الخلل في التقصير في أداء النوافل،
(1) أخرجه مسلم برقم (1718).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2652)، واللفظ له، ومسلم برقم (2533).
ثم دبَّ التقصير في أداء الفرائض، ثم خرجت حقيقة العبادة، وبقيت صورتها، وصارت جسداً بلا روح، صفوف المصلين متراصة، وقلوبهم متفرقة، والأجساد حاضرة، والقلوب شاردة:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4، 5].
فما أهون هؤلاء على الله، وهم جديرون أن لا تقام لهم في الأرض راية، ولا يرفع لهم دعاء، وأن تتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، وأن تحصل لهم الذلة مع أنهم يملكون أسباب العزة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُْمَمُ، مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَْكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا» ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ:«أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» ، قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» أخرجه أحمد وأبو داود (1).
وفي الدنيا شجرتان:
شجرة العلم .. وشجرة الجهل .. ولكل منهما ثمرة.
فشجرة العلم لو ظهرت صورتها للأبصار لزاد حسنها على صورة الشمس والقمر، فهي سبب كل خير في العالم.
فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، ومن ثمرات هذه الشجرة: الإيمان بالله وتوحيده .. وحب الله ورسوله .. والعمل الصالح بحذافيره .. والحلم والوقار .. والكرم والإحسان .. وخفض الجناح .. وبذل المعروف .. والنصيحة لعباد الله .. والرحمة لهم .. والصبر والشكر ونحو ذلك من الأخلاق العالية من التوكل على الله .. والخشية له .. والخوف منه .. والتواصي بالحق .. والدعوة إلى الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وبرّ الوالدين .. وصلة
(1) حسن: أخرجه أحمد برقم (22397)، انظر السلسلة الصحيحة رقم (958).
وأخرجه أبو داود برقم (4297)، صحيح سنن أبي داود رقم (3610).
الأرحام ونحو ذلك.
وأما شجرة الجهل فهي سبب كل شر وفساد في العالم، وهي تثمر كل ثمرة مرة خبيثة، ومن ثمراتها:
الكفر والكبر .. والشرك والظلم .. والبغي والعدوان .. والشح والبخل .. والفخر والخيلاء .. والعجب والرياء .. والكذب والنفاق .. والفساد في الأرض .. والدعوة إلى سبيل الشيطان .. وتزيين سلوك طرق الغي واتباع الهوى .. وإيثار الشهوات على الطاعات .. وقيل وقال .. وكثرة السؤال .. وإساءة الجوار .. وقطيعة الأرحام .. وغير ذلك من سبل الغواية.
والناس يعملون، ومن هاتين الشجرتين يتزودون، ولشجرة العلم أهل، ولشجرة الجهل أهل، والله أعلم بمن يصلح لهذه، ومن يصلح لهذه، والفلاح في العلم والهدى والنور:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].
والعلماء ثلاثة:
عالم بالله .. وعالم بأيام الله .. وعالم بأوامر الله.
فالعالم بالله: هو الذي يعرف الله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يتبع ذلك من معرفة عظمة ملكه، وسعة خزائنه، ووعده ووعيده.
والعالم بأيام الله: هو العالم بسير الأنبياء والمرسلين، وكيف نصرهم الله وخذل أعداءهم.
والعالم بأمر الله: هو العالم المفتي في الحلال والحرام، والسنن والأحكام التي تتعلق فيما بين العبد وربه .. وفيما بين العبد والخلق.
وأفضل هؤلاء وأعلاهم وأكملهم من جمع بين العلم بالله، وبأيام الله، وبأوامر الله، وهم الصديقون، والخشية والخشوع تغلب عليهم كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
يا حسرة على العباد ماذا قدموا للدين؟، وماذا قدموا للآخرة؟، وماذا قدموا
لأنفسهم؟ ..
للحصول على الدنيا كم نعطي من الوقت والمال والجهد؟.
وإذا أردنا الجنة وهي دار النعيم المقيم فلننظر كم نعطي من الوقت والمال والجهد لأعمال الدين التي هي سبب لدخول الجنة، من عبادة، ودعوة، وتعليم، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وجهاد في سبيل الله، والناس في ذلك درجات .. والصحابة رضي الله عنهم درجات.
فبعض الصحابة رضي الله عنهم أعطى كل الوقت وكل المال للدين كأبي بكر رضي الله عنه الذي بذل نفسه في سبيل الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، مرة في الهجرة، ومرة في تجهيز جيش العسرة.
لأنه خرج حب النفس والمال من قلبه، ودخل حب الله ورسوله ودينه في قلبه؛ لأنه أنفق ماله للدين فجاء حب الدين في قلبه.
ولذلك لما منع قوم الزكاة في خلافته، وقبل ذلك بعض الصحابة، أبى أبو بكر أن ينقص الدين في حياته؛ لأنه بذل نفسه وأنفق ماله من أجل الدين، فصار يؤلمه أن يدب النقص في الدين الذي اكتمل.
وبعض الصحابة كذلك أعطى كل الوقت للدين كأهل الصفة، وبعضهم أعطى نصف الوقت، ونصف المال كعمر رضي الله عنه.
وبعضهم أعطى ثلث الوقت وهم بقية الصحابة.
وأهل الشورى وهم كبار الصحابة وهم من التجار يتناوبون الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتشاور معهم في أعمال الدين.
وكل عمل من أعمال الدين لا بدَّ فيه من ثلاثة أمور وهي:
النية .. والعمل الصحيح .. وترتيب العمل.
فالصلاة مثلاً عمل لا بدّ له من نية، ولا بدَّ أن تكون موافقة للسنة، ولا بدَّ أن تكون كما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فيجب على كل مسلم أداء العمل كما شرعه الله ورسوله:
كمية وكيفية .. ومكاناً وزماناً.
بلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط.
عن أنس رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يَسْألُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ، قَالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فَأَنَا أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَداً، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أتَزَوَّجُ أبَداً، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أمَا واللهِ إِنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (1).
ودَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:«مَا هَذَا؟» . قَالُوا: لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أمْسَكَتْ بِهِ. فَقَالَ:«حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ» متفق عليه (2).
فهؤلاء مخلصون لكن عملهم فوق الترتيب فلا يقبل، فالمطلوب الاعتدال، فالأنبياء يعلمون الناس النية والعمل والترتيب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» أخرجه البخاري (3).
والله عز وجل قد وكل بكل عبد من يحفظ عليه عمله، ويحصي أقواله وأفعاله
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، واللفظ له، ومسلم برقم (1401).
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1150)، ومسلم برقم (784)، واللفظ له.
(3)
أخرجه البخاري برقم (6502).
فلا يضيع منها شيء كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4].
ثم نبه سبحانه بقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} [الطارق: 8].
على بعث الإنسان لجزائه على العمل الذي حفظ وأحصى عليه، فذكر سبحانه شأن مبدأ عمله ونهايته.
فبدايته محفوظ عليه .. ونهايته الجزاء عليه كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} [الطارق: 9].
والسرائر: جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله.
فالإيمان من السرائر .. والشرائع من السرائر .. والشعائر من السرائر.
فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له.
والأعمال نتاج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه نوراً وإشراقاً وجمالاً.
ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته، ولا اعتبار لصورته، فتبدو سريرته يوم القيامة على وجهه سواداً وظلمةً وشيناً، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها.
والعلم بغير إيمان فتنة، فتنة تعمي وتطغي، فالعلم الظاهري يوحي بالغرور والكبر، إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها، وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها، ويلبس ثوباً أكبر منه.
ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل، وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز عنه، لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه.
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم، واستهزؤوا بمن يذكرهم بما وراءه فحاق بهم العذاب وفق سنة الله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83].
والعلوم الشرعية على قسمين:
نظرية .. وعملية.
أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها وأعلاها معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه، وأوامره.
وأما العلوم العملية فنوعان:
أعمال القلوب .. وأعمال الجوارح.
فأعمال القلوب: تزكية النفس بالإيمان واليقين، وتربيتها بالأخلاق الحسنة كالصبر والحلم، والشفقة والرحمة، والمحبة والتواضع، والصدق والإخلاص، ونحو ذلك.
وأعمال الجوارح: العبادات، والمعاملات، والمعاشرات.
ولا تجد هذه العلوم كلها مفصلة إلا في القرآن الكريم كما قال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)} [الإسراء: 12].
فهو كتاب عظيم .. كثير خيره .. دائم عطاؤه .. كثيرة بركته .. يبشر بالثواب والمغفرة .. ويزجر عن القبيح والمعصية: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42].
إن العلم الذي منحه الله للإنسان لم يخلق مقومات الحياة، ولا هو أعطى شيئاً لم يكن موجوداً، ولكنه وفَّر الرفاهية للإنسان في الكون بإذن الله.
واستخدم هذا العلم من لا يؤمن بالله ظلماً وعدواناً في القتل والتشريد، وإهانة الأمم والشعوب وإذلالها، ونهب ثروات وخيرات الأمم، ونشر الرعب والخوف في العالم.
والعالم اليوم بلغ في العلم الإنساني مبلغاً عالياً، وكلما زادت الاكتشافات زاد الخوف، وزاد الرعب فما السبب؟.
السبب أن هذا العلم ما سار على منهج الله، فكل كشف علمي في الأرض يزيد
الإنسان إقبالاً على ربه، فهو إظهار لقدرة الله في الكون، وإبداعه في الخلق، أذن الله بخروجه على يد بعض خلقه كما قال سبحانه:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53].
إن الذين فتح الله لهم باباً من أبواب العلم كان يجب أن يكونوا أكثر الناس خشية لله؛ لأن الله أطلعهم على آية من آياته، وميزهم عن غيرهم بما علموه من آثار قدرة الله.
ولكن بعض العقول تغتر وتعتقد أنها هي التي فعلت، فتهلل لهم البشر، وهم لا يستطيعون سد عرق انفجر في الإنسان، أو تحريك أصبع أصابه شلل.
إن الإنسان يقتله جشعه، فهو أحياناً يملك المال الذي يكفيه طول حياته ويزيد، ولكنه يطلب مزيداً من المال، ويشقي نفسه في الحصول عليه.
وكل مخلوق لله يأكل على قدر حاجته، فالطير والحيوان والحشرات تلتهم من الطعام ما يكفيها فقط وتترك الباقي.
أما الإنسان فهو الوحيد الذي يجمع ويأكل أكثر من حاجته، مع أن الله أعلمه أنه سيصل إليه رزقه تاماً.
وهذا الجشع البشري هو أساس الشقاء الذي جعله العلم الإنساني أساساً لكمال الحياة الدنيا ورفاهيتها.
والله عز وجل جعل الدنيا وسيلة للآخرة، وهذا العلم الإنساني جعلها مقصداً لا غاية بعدها.
فهؤلاء الذين لديهم العلم الإنساني بلا إيمان يعيشون في رعب وشقاء، وينتظرهم في الآخرة شقاء أشد وأبقى:{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} [الرعد: 34].
أما أهل العلم الإلهي، فهم أكثر الناس طمأنينة، وأشدهم خشية لله، وأشكرهم للمنعم، أولئك لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم المهتدون إلى سواء السبيل:
والعلم الإنساني مهما كان كله جهالة بالنسبة للعلم الإلهي؛ لأن العلم الإلهي يربط المخلوق بالخالق، فيعرف عظمته وقدرته، وجماله وجلاله ويعرف دينه وشرعه.
والعلم الإنساني يربط المخلوق بالمخلوق، يدور حول الأرض وما فيها وما تنبت، وحول الجبال وما فيها من المعادن والأسرار، وحول الناس والدواب والأنعام.
والعلماء كلما كشف الله لهم من العلوم والأسرار في هذا الكون، هم أكثر الناس خشية لله، فهم يرون الإعجاز في كل ما خلقه الله.
وقد ذكر الله سبحانه العلم البشري كله في آية واحدة كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} [الحج: 63].
والعلم نعمة كبرى خص الله بها بعض خلقه، ومن أكرمه الله بهذه النعمة فيجب أن تكون طاعته لله أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته أقبح، ولهذا كان أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فهو أول من تسعر به النار.
وقواعد الشرع تقتضي أن يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم، وأن يغفر له ما لا يغفر للعالم.
ونعمة الله على العالم بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل.
وحكم الله على أن من حبي بالإنعام، وخص بالفضل والإكرام، ثم أطلق لنفسه العنان في الشهوات، وتجرأ على انتهاك الحرمات، واستخف بالتبعات والسيئات، أنه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته.
وكذلك في المقابل:
من كثرت حسناته وعظمت، وكان له قدم صدق في الإسلام، وكان له في
الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتله؛ لأنه كتب لقريش فقال له:«وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» متفق عليه (1).
وموسى صلى الله عليه وسلم كليم الرحمن ألقى الألواح التي فيها كلام الله حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وأخذ بلحية أخيه هارون وجره بها إليه، وهو نبي الله مثله.
وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه، وربه تعالى يكرمه ويحبه.
فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذيه في الله، أولى أن لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تخفض منزلته.
ومن له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها.
والعالم إذا زلّ فإنه يحسن إسراع الفيئة، وتدارك الفارط، ومداواة الجرح.
وفيه من معرفته بالله، وبأمر الله، وتصديقه بوعده ووعيده، وخشيته من ربه، وإزرائه عل نفسه بارتكابه معصيته، وإيمانه بالله، وأن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، إلى غير ذلك من الأمور المحبوبة للرب، ما يغمر الذنب ويزيل أثره.
بخلاف الجاهل بذلك أو أكثره، فإنه ليس معه إلا ظلمة الخطيئة وقبحها، وآثارها المردية، فلا يستوي هذا وهذا.
فدل على أن سبب العقوبة قائم، لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشاهد العظيمة، والمواقف الجليلة، والنفع العميم، وهذا مقتضى الحكمة والرحمة، والجود والإحسان، وقد قال سبحانه في شأن يونس:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)} [الصافات: 143، 144].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3007)، ومسلم برقم (2494)، واللفظ له.
أما العقوبة المضاعفة التي ورد التهديد بها في حق أولئك إن وقع منهم ما يكره كما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 74، 75].
وقوله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} [الحاقة: 44، 45].
وآدم صلى الله عليه وسلم لم يسامح بلقمة واحدة، وكانت سبب إخراجه من الجنة كما قال سبحانه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه: 121].
فتلك العقوبة عين الحكمة.
فإن من كملت عليه نعمة الله، وأكرمه الله بما لم يكرم به غيره، وحبي بالإنعام وخص بالإكرام، وتميز بمزيد القرب من ربه، وجعل في منزلة الولي الحبيب، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص، بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع.
فلشدة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واصطناعه لنفسه، واصطفائه على غيره، تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم، ونعمته عليه أكمل.
والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه كذلك يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضاً.
فاجتمع في حقه الأمران:
فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويأخذهم ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم كما قال سبحانه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122].
وكل مؤمن يرى أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر كما قال سبحانه:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ: 6].
فرؤية العلماء أعظم وأكمل من غيرهم لعلمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة
موافقته للأمور الواقعة والكتب السابقة.
ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة، ولما يرون في الأوامر والنواهي من الهداية إلى الصراط المستقيم، المتضمن لكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره كالصدق والإخلاص، وبر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك.
وتنهى عن كل صفة قبيحة تدنس النفس، وتحبط الأجر، وتوجب الإثم والوزر من الشرك والكفر، والزنا والربا، والظلم في الدماء والأموال والأعراض.
وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة تستوجب الحمد والشكر.
والله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان وعلمه القرآن.
فالإنسان إنما تعلم القرآن بتعليمه سبحانه، كما أنه صار إنساناً بخلقه، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وعلمه كتابه، وعلمه البيان، كما قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].
والبيان الذي علمه الله للإنسان له ثلاث مراتب:
أحدها: البيان الذهني، الذي يميز فيه بين المعلومات.
الثاني: البيان اللفظي، الذي يعبر به بلسانه عن تلك المعلومات.
الثالث: البيان الخطي، الذي يخط به تلك الألفاظ التي تحمل تلك المعلومات.
فالأول بيان للقلب .. والثاني بيان للسمع .. والثالث بيان للعين.
وقد جمع الله عز وجل الثلاثة في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78].
والله حكيم عليم، أعطى الإنسان علم ما فيه صلاح معاشه ومعاده، ومنع عنه علم ما لا حاجة له به، ثم يسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم أتم تيسير.
فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ومعرفة دينه وشرعه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فهي أيسر شيء وألذ شيء: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ (22)} [القمر: 22].
وكل ما يراه العبد بعينه، أو يسمعه بأذنه، أو يعقله بقلبه، وكل ما يخطر بالبال، وكل ما تدركه الحواس، فهو دليل على الرب وكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وقد نصب سبحانه من الأدلة والآيات والبراهين ما يدل على وجوده ووحدانيته وصفات كماله مما لا يحصيه إلا الله، ثم ركز ذلك في الفطر، ووضعه في العقل جملة.
ثم بعث الله الرسل مذكرين به، ومفصلين لما في الفطرة والعقل العلم به جملة كما قال سبحانه:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].
وقال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)} [الأعلى: 9، 10].
وقد امتن الله على عباده بتعلم القرآن، وتعلم البيان، ونطق اللسان، فقال سبحانه:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].
وبهذه الحروف والكلمات التي تحمل المعاني علم الله القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر الحيوان.
وبها أنزل كتبه، وأرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد.
وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها في الأذهان.
وكم جلب بها من نعمة، ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيم بها من حق، وهدي بها من ضلالة، وهدم بها من باطل، وأحيا بها من سنة، وأمات بها من بدعة.
وآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل والمنافع في لحم وعصب.
وجعل سبحانه الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة، متعلقاً باسم الرحمن، وهو الاسم الذي تبارك، ومجيء البركة كلها منه، وبه وضعت البركة في كل مبارك، فكل ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما أخلى عنه نزعت منه البركة:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78].
وثمرة العلم العمل به، والعمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا بشرطين:
الإخلاص لله .. والمتابعة لرسول الله.
والمتابعة تتحقق بستة أمور:
الأول: السبب: فقيام الليل مشروع، لكن من أحياه ليلة النصف من شعبان، أو ليلة المعراج، يعتقد مشروعيتها فهو بدعة.
الثاني: الجنس: فلو ضحى بفرس فهذا لا يجوز؛ لأن الأضحية مشروعة ببهيمة الأنعام، والفرس ليس بمشروع.
الثالث: القدر: فلو زاد صلاة سادسة لم يقبل منه.
الرابع: الكيفية: فلو غسل رجليه في الوضوء قبل يديه لم يصح لمخالفته الشرع.
الخامس: الزمان: فلو حج أو صام رمضان في غير وقته لم يصح.
السادس: المكان: فلو اعتكف في غير المسجد لم يصح.
وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، فأزكى العلوم وأشرفها وأعظمها وأكملها العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فهو سبحانه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، يعلم ما في السموات وما في الأرض .. ويعلم ما بينهما وما تحت الثرى .. ويعلم ما في قعر البحار .. وما في جو السماء.
عالم الغيب والشهادة .. يعلم كل شعرة ومنبتها .. وكل شجرة ومغرسها .. وكل زرع وحبه .. وكل نبات وثمرته .. وكل رطب ويابس .. ومسقط كل ورقة: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)}
[الأنعام: 59].
ويعلم سبحانه عدد كل كلمة .. وعد الرمل الحصى والتراب .. وحجمه ووزنه ومكانه .. ويعلم مثاقيل الجبال .. ومكاييل البحار والأنهار والرياح .. ويعلم أعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، وحركاتهم وسكناتهم:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].
وشرائع الإسلام وأحكامه على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب.
فلله عز وجل حكمان:
حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح .. وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين ويكل سرائرهم إلى الله، فيناكحون ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، ولا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة.
وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر، بل إلى الله وحده، والله يتولاه في الدار الآخرة، فنحكم في الظاهر بصحة صلاة المنافق والمرائي، مع أنه لا يسقط عنه العقاب، ولا يحصل له الثواب في الآخرة، فالله وحده هو الأعلم بما في صدور العالمين.
وليس مقصود العلم العمل فقط، بل المقصود مع ذلك الإيمان بالله، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان.
وجهد الصحابة كان أولاً على أنفسهم بالعلم والعمل ثم على غيرهم، فأصلحوا أنفسهم أولاً، ثم أخرج الله بأعمالهم وصفاتهم الناس من الظلمات إلى النور.
والشيطان حريص على جعل الإنسان يجتهد على الناس وينسى نفسه، وبهذا لا يتأثر الناس منه، ولا يقبلون قوله، وإذا اجتمع هذا مع نسيان الإنسان نفسه بلغ
الشيطان مراده من الإنسان.
فالداعي حقاً من يدعو الناس إلى الله، ويقيمهم على الدعوة إلى الله، فالدعوة هي أم الأعمال، وبها تحيا الأوامر والسنن.
والمعلم حقاً من يعلم الناس الدين وأحكامه، ويأمرهم بتعليم الناس ذلك والعمل به، ويسبقهم إلى كل عمل صالح.
والصلاة أول الأوامر بعد الإيمان، والفرق بين الإسلام والكفر هو الصلاة، وإقامة الصلاة تكون بفعلها وأمر الناس بأدائها، وإقامتها بسننها وآدابها وشروطها، وتزيين ظاهرها بتطبيق السنن، وتزيين باطنها بالتوجه التام إلى الله، فيصلي العبد لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فلا بدَّ أن نقيم الصلاة ظاهراً وباطناً حتى نقيم سائر الأعمال بالتوجه التام إلى الله، وحسن العمل خارج الصلاة، وإذا كنا في الصلاة في الغفلة فكيف في سائر أعمالنا كم تكون الغفلة؟.
ولا تكون الصلاة صحيحة إلا بعلم كامل، ولا نقوم بأي عمل في الدين إلا بعلم، والعلم هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن والأحكام.
ولتحصيل حقيقة العلم لا بدّ أن نعرف فضائل العلم، لتقبل النفوس على طلبه، وتعبد الله بموجبه، وبدون العلم الناس لا يعرفون الله ولا رسوله ولا أوامره ولا دينه.
وكل الناس يعملون، ولكن ليس كل الناس يفلحون، فمن عمل بأمر الله ورسوله أفلح، ومن عمل بهواه خسر، فسليمان عليه السلام عمل بملكه بأمر الله ورسوله فأفلح، وفرعون عمل بملكه بهواه فهلك.
والعلم هو الطريق لمعرفة العمل المأمور به شرعاً، والوعظ هو الباعث على العلم والعمل، والأحسن ألا يكون الوعظ يومياً؛ لئلا يسأم الناس، أما العلم فإنه يُطلب على قدر الطاقة، والناس في ذلك متفاوتون، وأكملهم أعلمهم وأتقاهم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].