الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
34 - فقه القبض
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 60،61].
القبض نوعان:
قبض في الأحوال .. وقبض في الحقائق.
فالقبض في الأحوال: أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح.
وهو قسمان:
أحدهما: ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب، أو تفريط في عمل، أو بعد أو جفوة ونحو ذلك.
الثاني: ما لا يعرف سببه، بل يهجم على القلب هجوماً لا يقدر على التخلص منه، وضده البسط.
فالقبض والبسط حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما، ولهما تعلق بالخوف والرجاء، فالرجاء يبسط إلى الطاعة، والخوف يقبض عن المعصية.
والقبض أقسام:
قبض تأديب .. وقبض تهذيب .. وقبض جمع .. وقبض تفريق.
وهذا كله يمنع صاحبه من الأكل، والشرب، والكلام، والانبساط إلى الأهل وغيرهم.
فقبض التأديب: يكون عقوبة على غفلة، أو خاطر سوء، أو فكرة رديئة.
وقبض التهذيب: يكون إعداداً لبسط عظيم شأنه يأتي بعده، فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه، والمقدمة له، كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي، وإعداد لوروده.
وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج، والبلاء مقدمة بين يدي العافية، والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن.
وقد جرت سنة الله عز وجل أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها.
وأما قبض الجمع: فهو ما يحصل لقلب العبد حال جمعيته على الله من انقباضه عن العالم وما فيه، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه.
وأما قبض التفرقة: فهو القبض الذي يحصل للعبد من تفرق قلبه عن الله، وتشتته عنه في الشعاب والأودية.
فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت.
وأما القبض في الحقائق:
فهو يتضمن قبض القلب عن غير الله إليه، وجمعيته بعد التفرقة عليه.
فالرب سبحانه حال بين خواص عباده وبين التعلق بالخلق، وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه، وهم الذي ادخرهم الحق اصطناعاً لنفسه جل جلاله.
وهؤلاء على ثلاثة أقسام:
الأولى: فرقة قبضهم إليه قبض التوفي، فضن بهم عن أعين الناس، فسترهم عن العالمين وقاية لهم، وصيانة عن ملابستهم، فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم.
وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان، وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأزمات دون بعضها، وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء، فالعزلة تحمد في وقت، وتذم في وقت.
الثانية: فرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس، فهم مع الناس مخالطون لهم، والناس يرون ظواهرهم، وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها، فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه.
إذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب، واللباس والمراكب، والنكاح وطلاقة الوجه قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا.
وإذا رأوا منهم الجد والصبر والصدق، وحلاوة الإيمان، وحسن المعرفة بالله، وكثرة ذكره قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة، فأخفاهم عن عيون العالم بذلك.
فهؤلاء يكونون مع الناس، والمحجوبون لا يعرفونهم، ولا يرفعون بهم رؤوساً، وهم من سادات أولياء الله، صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم، لئلا يفتنوا بهم، وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم.
فهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلا الله، فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة.
فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» متفق عليه (1).
الثالثة: فرقة قبضهم منهم إليه، وهذه الفرقة أعلى من الفرقتين قبلها، فالله عز وجل قد ستر هؤلاء عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه، وشغلهم به عنهم، فهم في أعلى الأحوال والمقامات، وقلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، قلوبهم عامرة بالأسرار والتعظيم، والذل والمحبة لمولاهم، وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى أوكارها، قد سترهم وليهم عنهم، وأخذهم إليه منهم.
والناس قسمان:
منهم من يجمع بين الإساءة والأمن .. ومنهم من يجمع بين الإحسان والخوف.
وهذا القسم وجلون خائفون مشفقة قلوبهم، كل ذلك من خشية ربهم: خوفاً أن يضع عليهم عدله فلا تبقى لهم حسنة .. وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى .. وخوفاً على إيمانهم من الزوال .. ومعرفة بربهم وما
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6168)، واللفظ له، ومسلم برقم (2640).
يستحقه من الإجلال والإكرام.
فهؤلاء يفعلون ما أمروا به بكل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من أعمال البر، ومع هذا قلوبهم وجلة خائفة عند عرض أعمالها على الله سبحانه، والوقوف بين يديه أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 59 - 61].