المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌20 - أدوية أمراض القلوب

‌20 - أدوية أمراض القلوب

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57].

وقال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82].

تنقسم أدوية أمراض القلوب إلى قسمين:

أدوية طبيعية .. وأدوية شرعية.

ومرض القلب نوعان:

الأول: مرض لا يتألم به صاحبه في الحال كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشهوات والشكوك، وهذا النوع هو أشد النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم، ولأن سكر الجهل والهوى يحول بينه وبين إدراك الألم، وهو متوارٍ عنه لاشتغاله بضده.

وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض، ولا شفاء منه إلا باتباع ما جاءوا به من الهدى.

والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال كالهم والغم، والحزن والغيظ ونحوها، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها.

فقلب الإنسان يتألم بما يتألم به بدنه، ويشقى بما يشقى به البدن، وأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت.

وأما أمراض القلب التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية، فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بالأدوية المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء.

ص: 1383

فالغيظ مثلاً مؤلم للقلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاد مرضه، واستحق العقوبة عليه، كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق.

وكذلك الهم والغم والحزن من أمراض القلب، وشفاؤها بأضدادها من الفرح والسرور والأنس.

فإن كان بحق شفي القلب، وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارى ذلك واستتر، وأعقب أمراضًا أصعب وأخطر.

وكذلك الجهل مرض مؤلم للقلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، بل تزيده مرضًا إلى مرضه، وإنما شفاؤه وصحته بالعلوم الإيمانية النافعة.

وكذلك الشاك المرتاب في الشيء، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين به، ولما كان ذلك يوجب له حرارة، قيل لمن حصل له اليقين ثلج صدره، وحصل له برد اليقين.

فمن أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية.

والقلب له حياة وموت .. ومرض وشفاء .. وذلك أعظم مما للبدن.

وجماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، وجميع الأسقام:

ففيه من الآيات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل .. فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك .. بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه.

وفيه إثبات التوحيد .. وإثبات الصفات .. وإثبات المعاد .. وإثبات النبوات .. وفي ذلك كله شفاء من الجهل.

وهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.

فمن رزقه الله تعالى ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه، كما يرى الليل

ص: 1384

والنهار، وعلم أن ما عداه من كتب الناس بين علوم لا ثقة بها، وبين ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئًا، وبين أمور صحيحة لا منفعة للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعروا الطريق إلى تحصيلها.

وأما شفاؤه لمرض الشهوات .. فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة .. بالترغيب والترهيب .. والتزهيد في الدنيا .. والترغيب في الآخرة .. والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار.

فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عما يضره، فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي، ويعود للفطرة التي فطره الله عليها، كما يعود البدن المريض إلى صحته.

ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقويه، ويؤيده ويفرحه، ويسره وينشطه كما يتغذى البدن بما ينميه ويقويه.

وكل من القلب والبدن محتاج إلى أن يتربى، فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح.

فكما أن البدن محتاج إلى أن يزكو بالأغذية المصلحة له، والحمية عما يضره، فلا ينمو إلا بإعطائه ما ينفعه، ومنع ما يضره، فكذلك القلب لا يزكو ولا ينمو ولا يتم صلاحه إلا بذلك، ولا سبيل له إلى الوصول إلى ذلك إلا من القرآن.

ونجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة.

فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة، تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت، فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن.

فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة، فقد استفرغ من تخليطه، فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة، والمواد الرديئة فزكا القلب ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت، فصلحت المملكة.

فزكاة القلب موقوفة على طهارته، كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من

ص: 1385

أخلاطه الرديئة الفاسدة كما قال سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].

وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9، 10].

والإنسان إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله، أكسبه ذلك تحريفًا للحق عن مواضعه، فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه، فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه.

فهذا وإخوانه من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، وتعوضت بالباطل عن كلام الله ورسوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41].

أما القلب الطاهر، فلكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته.

وأما القلب الذي لم يطهره الله تعالى، فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة، فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح.

وطهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى الذي يعلم ما في القلوب، ويعلم ما يصلح له منها وما لا يصلح، ومن لم يطهر الله قلبه فلا بدّ أن يناله الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة، بحسب نجاسة القلب وخبثه.

فالجنة دار الطيبين لا يدخلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخبث، فمن تطهر في الدنيا بالإيمان والأعمال الصالحة، ولقي الله طاهرًا من نجاساته دخلها بغير معوق؛ لأنه جاء ربه بقلب سليم، وعمل سليم.

ومن لم يتطهر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر في النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها إلى الجنة بعد طهارته.

ص: 1386

وكذلك المؤمنون إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة.

والله جل جلاله بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا كل طيب طاهر.

والذنوب والخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسةً وضعفًا، فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه.

فالخطايا والذنوب للقلب بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها.

ولذلك كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب، واشتد ضعفه.

والماء يغسل الخبث، ويطفئ النار.

فإن كان باردًا أورث الجسم صلابة وقوة، وإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا والذنوب.

فالقلب والبدن بأشد الحاجة إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة:«اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (1).

وقلوب البشر لها آفات وعلل، وأمرض وأسقام.

والحسد من الأمراض العظيمة التي تصيب القلوب، ولا تداوي أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل.

فالعلم النافع لمرض الحسد، هو أن يعرف الإنسان أن الحسد ضرر عليه في الدنيا والدين.

أما في الدين فهو أنك سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بحكمته، فاستنكرت وكرهت واستبشعت ما

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، واللفظ له، ومسلم برقم (598).

ص: 1387

قضاه الله وقدّره واختاره لعبده.

وهذه جناية كبرى على التوحيد والإيمان والدين.

وأما كونه ضررًا عليك في الدنيا، فهو أنك تتألم في الدنيا، أو تتعذب به، فالذين تحسدهم لا يخليهم الله من نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتألم بكل نعمة تراها، وتتعذب بكل بلية تصرف عنهم، فتبقى مغمومًا محرومًا، قد نزل بك ما تشتهيه لأعدائك.

فهذه هي الأدوية العلمية، فإذا فكر الإنسان فيها بذهن صافٍ، انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك لنفسه، ومفرح عدوه، ومسخط ربه، ومنغص عيشه.

وأما العمل النافع فيه، فهو أن يحكم الحسد، ويكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده، كلف لسانه المدح له، والثناء عليه.

وإن حمله الحسد على التكبر عليه، ألزم نفسه التواضع له، والاعتذار إليه.

وإن بعثه على كف الإنعام عليه، ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فإذا عرف المحسود ذلك طلب قلبه وأحبه، وجاءت الموافقة التي تقطع مادة الحسد.

فهذه أهم أدوية الحسد، وهي نافعة جدًا، إلا أنها مرة على القلوب جدًا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء، لم ينل حلاوة الشفاء.

ومن أمراض القلوب حب الدنيا فكرًا .. وطلبًا .. وتمتعًا، والإعراض عن الآخرة، ومن اتخذ الدنيا ربًا اتخذته عبدًا، والعاقل من يرضى منها بالقليل مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بقليل الدين مع سلامة الدنيا.

ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وبقدر ما يحزن الإنسان للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبه.

وبقدر ما يحزن العبد للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبه.

فالدنيا والآخرة ضُرَّتان .. فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى، وبقدر ما تعمر إحداهما تهدم الأخرى .. وبقدر ما تقدم إحداهما تؤخر الأخرى.

ص: 1388

وطالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، حتى يقتله الشرب.

والدنيا سريعة الفناء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، وهي كالظل فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر.

والدنيا كالأرض إن مشيت عليها حملتك، وإن حملتها على رأسك قتلتك.

وهي دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين .. ودار عارية لا دار ملك .. ودار فناء لا دار بقاء .. ودار زوال والآخرة هي دار القرار.

والعاقل من صرف همه عنها حتى لا يتألم عند فراقها، ويأخذ منها بقدر الحاجة ما يستعين به على عبادة ربه.

وأما الشهوات فيقمع منها ما خرج عن طاعة الشرع والعقل، ولا يتبع كل شهوة، ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل، وخير الأمور أوسطها.

ولا يترك كل شيء في الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا، بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا، ويأخذ منه قدر حاجته.

فيأخذ من القوت ما يقوى به البدن على العبادة .. ويأخذ من المسكن ما يكن من الحر والبرد .. ويحفظ الأهل والمال من اللصوص .. ويستقل من المركب ما يحمله لحاجاته من غير إسراف ولا مخيلة .. ويلبس من الكسوة ما يستر عورته .. ويتجمل به في صلاته، ويتزين به في العيد ولقاء الضيوف.

حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله بكليته، واشتغل بالذكر والفكر والطاعات في جل وقته، وكل ميسر لما خلق له، والله شكور حليم.

ومن أمراض القلب: الحرص والطمع.

فالمال وسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يكون آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة، فهو بحسب استخدامه يكون محمودًا أو مذمومًا.

ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة عن سبيل الله، وكان المال

ص: 1389

مسهلاً وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية من المال.

فعلى العبد القناعة، فإن تشوف إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة، وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص.

وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق، وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، والوقوف بأبواب اللئام.

وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.

ودواء الحرص والطمع:

الاقتصاد في المعيشة .. والرفق في الإنفاق .. والرضا بما قسم الله له.

فإذا تيسر للعبد في الحال ما يكفيه، فلا يضطرب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، واليقين بأن الرزق الذي قدر له لا بدَّ أن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، وأن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء، وما في الحرص والطمع من الذل.

وبذلك تنبعث رغبته في القناعة، لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل، وكلاهما مذموم.

وينظر في أحواله المتنعمين من اليهود والنصارى وأراذل الناس.

ثم ينظر في أحوال الأنبياء والأولياء، ويخير نفسه بين أن يكون مشابهًا لأراذل الناس، أو مقتديًا بأعز الخلق عند الله، ويفهم ما في جمع المال من الخطر، وما فيه من خوف السرقة والنهب، والضياع والفساد، وما في خلو اليد من الراحة والأمن والفراغ.

وبهذه الأمور يقدر على التخلص من الحرص والطمع، وعلى اكتساب خلق القناعة.

والمال إن كان مفقودًا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجودًا فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء، واصطناع المعروف، والتباعد عن الشح والبخل، فإن الجود والسخاء من أخلاق الأنبياء والفضلاء.

ص: 1390

ومن أمراض القلب: البخل والشح.

وسببهما حب المال، ولحب المال سببان:

أحدهما: حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، وإن كان قصير الأمل ولكن له أولاد، أقام الولد مقام طول الأمل.

الثاني: أن يحب عين المال، فمن الناس من يملك ما يكفيه بقية عمره وهو شيخ بلا ولد، ومعه أموال كثيرة، ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة، ولا بمداواة نفسه منها عند المرض، بل صار محبًا لها، عاشقًا لها، يلتذ بوجودها في يده، ويكنزها تحت الأرض أو في مكان أمين، وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها غيره.

ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق أو يعالج نفسه منها.

وهذا مرض للقلب عظيم .. عسير العلاج .. لا سيما في كبر السن.

فعلاج كل علة في القلب بمضادة سببها .. فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر .. ويعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت .. ويعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه.

ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع عنهم، واستقباحه لهم، والتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق؟.

وما هو ثواب إنفاقه في سبيل الله ومرضاته؟.

فإذا عرف الإنسان هذا، وعرف أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة، هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً.

فإن هاجت شهوة الإمساك، قمعها برؤية ثمرة الإنفاق وثوابه، وحسن عاقبته.

ومن أمراض القلب: الرياء والسمعة.

والرياء: مشتق من الرؤية، والسمعة: مشتقة من السماع.

والرياء: أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، والمراءى به كثير، وهو كل ما يتزين به العبد للناس.

ص: 1391

والرياء يحصل بستة أشياء هي:

البدن .. واللباس .. والقول .. والعمل .. والأتباع .. والأشياء.

وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب.

فالرياء في الدين بالبدن يكون بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين.

والرياء بالهيئة والزي بشعث الرأس، وإطراق الرأس في المشي، ولبس غليظ الثياب، وترك تنظيف الثياب، وترك الثوب مخرقًا، كل ذلك يرائي به ليظهر أنه متبع للسنة.

وأما الرياء بالقول فيكون بالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ الأخبار والآثار لأجل البروز في المحاورة، وإظهارًا لغريزة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، ونحو ذلك.

وأما المراءاة بالعمل فكمراءاة المصلي من حوله بطول القيام والركوع والسجود، وإطراق الرأس، وكذلك بالصوم والصدقة، وإطعام الطعام ونحو ذلك.

وأما المراءاة بالأصحاب والزوار كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا من العلماء ليقال إن العالم فلانًا قد زار فلانًا، أو عابدًا من العباد، ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته، ونحو ذلك.

فالرياء محبط للأعمال، وسبب للمقت عند الله تعالى، وهو من كبائر الذنوب والمهلكات.

وما هذا وصفه فجدير بالعاقل التشمير عن ساق الجد في إزالته، وذلك بقلع عروقه واستئصال أصوله.

وأصله: حب المنزلة والجاه عند الناس، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس.

فيعلم أن طلب المنزلة والجاه عند الله بالطاعة، أعظم وأولى من طلبها عند

ص: 1392

الناس بالرياء والنفاق.

ويعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إليه سبحانه، فلا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخلُ من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخلُ عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله لذلك.

وأما ذمهم فلم يحذر منه؟ .. ولا يزيده ذمهم شيئًا ما لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة.

وما يعرض من الرياء أثناء العبادة لا بدَّ أنه يشمر لدفعه وقهره، بذكر ومراعاة باطن العبادة وظاهرها.

ففي إسرار الأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء.

وفي الإظهار فائدة الاقتداء، وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء.

والسر أحرز العملين، ولكن في الإظهار فائدة الاقتداء، وفي كل خير، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأعمال والأشخاص:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة: 274].

وقال الله سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} [البقرة: 271].

ومن أعظم أمراض القلوب: الكبر والعجب.

والكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن.

فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، وهي ثمرات ذلك الخلق.

وعلامة المتكبر:

إن حاج أحدًا أنف أن يرد عليه .. وإن وعظه أحدٌ استنكف من القبول .. وإن

ص: 1393

وعظ عنّف في النصح .. وإن رُد عليه شيء من قوله غضب .. وإن علم لم يرفق بالمتعلمين .. واستذلهم وامتنّ عليهم .. وإن رأى لمن دونه تكريماً حقد عليه.

ويحب قيام الناس له أو بين يديه .. ولا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه .. ويحب أن يثنى عليه في المجالس .. وأن يصدر في المجالس.

فهذا داء الكبر، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه الزهاد والعبّاد والعلماء والولاة فضلاً عن عوام الخلق.

ولا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال.

وجماع ذلك يرجع إلى أمرين:

كمال ديني .. وكمال دنيوي.

فالديني هو العلم والعمل .. والدنيوي هو النسب، والمال، والجمال، والقوة، والذكاء، وكثرة الأنصار ونحو ذلك.

فالكبر استعظام النفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير، وهذا الشعور الباطن له موجب واحد، وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر، فإنه إذا أعجب بنفسه أو بعلمه أو بعمله، أو بشيء من أسبابه، استعظم نفسه وتكبر.

فالعجب يورث كبر الباطن، وكبر الباطن يثمر التكبر الظاهر في الأقوال والأعمال والأحوال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُّحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

ولما كان الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته

(1) حسن، أخرجه أحمد برقم (6677).

وأخرجه الترمذي برقم (2492)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (2025).

ص: 1394

واجبة، وهو لا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة، واستعمال الأدوية القامعة له، وذلك يتم بأمرين:

أحدهما: استئصال أصله، وقلع شجرته من مغرسها في القلب، وذلك بأن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر.

فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة.

وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله وحده لا شريك له.

ثم يتواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين.

وأما علاج التكبر بالأسباب المذكورة السابقة:

فيعلم نسبه الحقيقي، ويذكر أباه وجده، فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده البعيد تراب ذليل.

ومن تكبر بجماله فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر في باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال.

فالأقذار في جميع أجزائه:

البول في مثانته .. والرجيع في أمعائه .. والمخاط في أنفه .. والبزاق في فيه .. والدم في عروقه .. والصديد تحت بشرته .. والصنان تحت إبطه .. والوسخ في أذنيه .. ورائحة العرق تنبعث من جلده.

فهل لأحد أن يتكبر بعد هذا؟.

وأما التكبر بالقوة والأيدي، فيمنعه منه علمه بما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو اعتل عرق واحد من بدنه، لصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل.

ثم إنه لا يطيق شوكة، ولا يقاوم بقة، ولا يدفع عن نفسه ذبابة، فلا ينبغي أن يفتخر بقوته وهذه حاله.

ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو جمل.

ص: 1395

وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم؟ .. ويأكل بها القوي الضعيف؟.

أما الغنى وكثرة المال، وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار، فكل ذلك تكبر خارج عن ذات الإنسان.

وهذا أقبح أنواع الكبر.

فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره، ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً.

والمتكبر بمعرفة السلطان وتمكينه له على وجل، فلو تغير عليه كان أذل الخلق.

أما الكبر بالعلم، فهو أعظم الآفات، وأغلب الأدواء، وأبعدها عن قبول العلاج إلا بجهد جهيد، وتعب شديد، لأن قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، وللعلم طغيان في النفوس كطغيان المال.

ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، إذ من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش وذنبه أعظم من الجاهل.

وأن يعرف كذلك أن الكبر لا يليق إلا بالله الملك العزيز الجبار المتكبر وحده، وأنه إذا تكبر صار ممقوتًا عند الله، لأن اللائق بالمخلوق الضعيف العاجز التذلل والخضوع لا الكبر.

وأما التكبر بالورع والعبادة فذلك فتنة عظيمة على العباد، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر الخلق، ويعلم أن من تقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان، لما عرفه من فضيلة العلم.

والعجب من أمراض القلوب، وهو يدعو إلى الكبر، ويدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، لظنه أنه مستغنٍ عن تفقدها، وما يتذكره منها يستصغره ولا يستعظمه فلا يتداركه، بل يظن أنه يغفر له.

وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويستعلي بها، ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق لها، والتمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن

ص: 1396

آفاتها، والأعمال ما لم تكن خالصة لله، نقية من الشوائب، قلما تنفع.

والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وأن له عند الله منّة وحقًا بأعماله التي هي نعمة من نعمه.

ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أعجب بعلمه ورأيه وعقله منعه ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال، فيستبد بنفسه ورأيه، ويستنكف عن سؤال من هو أعلم منه، ويستجهل غيره، ويصر على خطئه.

فإن كان في أمر دنيوي أخفق فيه، وإن كان في دين هلك به.

ومن أعظم آفات العجب أنه يفتر عن السعي، لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.

وعلاج العجب:

أن من أعجب ببدنه في جماله وهيئته .. وقوته وصحته .. وحسن صوته وصورته .. أن يعلم أن ذلك كله نعمة من الله تعالى عليه .. وواجب النعم الشكر للمنعم .. وأن يعلم أن النعم عرضة للزوال كالأنفس .. وعلاجه بما ذكرناه في الكبر .. وأن يعلم أن الوجوه الحسان .. والأبدان الناعمة سوف تتمزق في التراب .. وسوف تنتن في القبور حتى تستقذرها الطباع.

وعلاج العجب بالعقل والفطنة والذكاء.

أن يعلم أن ذلك نعمة من الله فليشكر الله عليها .. ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه يوسوس ويجن، ويضحك منه الخلق.

وعلاج العجب بالنسب الشريف.

أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم، وظن أنه يلحق بهم فقد جهل، فليتشرف بما شرفوا به من الإيمان والأخلاق والتقوى.

ومن أعجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والأنصار.

فعلاجه: أن يتفكر في ضعفه وضعفهم، وأنهم كلهم عبيد عجزة، لا يملكون

ص: 1397

لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.

ثم كيف يعجب بهؤلاء وهم سيفترقون عنه إذا مات، ويهربون منه يوم القيامة؟.

ومن أعجب بالمال وافتخر به فعلاجه: أن يتفكر في آفات المال، وكثرة حقوقه، وعظم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء، وسبقهم إلى الجنة يوم القيامة، ويعلم أن المال غاد ورائح لا أصل له، وأن في اليهود والكفار والفساق واللئام من يزيد عليه في المال، وغاية المال بلا إيمان أن يكون كقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض.

ومن أعجب برأيه الخطأ فعلاجه: أن يعلم أن جميع أهل البدع والضلال، إنما أصروا عليها، لعجبهم بآرائهم، وتعصبهم لها.

وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره، لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه، ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف، والجهل داء لا يعرف، فعسرت مداواته جدًا.

فعلاجه أبدًا أن يكون متهمًا لرأيه لا يغتر به، إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح.

ومن أمراض القلب: الغرور.

والغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع، عن شبهة وخدعة من الشيطان.

فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، وأشدهم غرورًا الكفار .. والعصاة .. والفساق.

فالكفار منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غرَّه بالله الغَرور كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].

فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة

ص: 1398

نسيئة، فهي إذاً خير، فلا بدَّ من إيثارها.

وقالوا: اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك .. فانظر كيف صاغ لهم الشيطان هذه المقدمات التي جرهم بها إلى النار؟

وعلاج هذا الغرور والجهل بالإيمان والتصديق بما جاء عن الله ورسوله.

وأما غرور الكفار بالله فقولهم: إنه لو كان لله معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظًا فيه وأسعد حالاً:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 35].

وأما غرور العصاة من المؤمنين فهو قولهم: إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن رحمة الله واسعة وكرمه عميم، وربما كان رجاؤهم مستندًا إلى صلاح الآباء، وعلو مرتبتهم.

والمغرورون من البشر أصناف، والأصناف فرق ودرجات:

فأولهم: أهل العلم، والمغترون منهم فرق:

ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها من المعاصي، وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم، وظنوا أنهم عند الله بمكان، ولو كانوا مقصرين في العمل.

وفرقة أحكموا العلم والعمل، فواظبوا على الطاعات الظاهرة، وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم، ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والشهرة في البلاد والعباد، فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم.

وفرقة علموا أن هذه الأخلاق مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها، وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، ثم إذا ظهرت عليهم مخايل

ص: 1399

الكبر والرياسة، وطلب العلو والشرف قالوا: ما هذا كبر، وإنما هو طلب عز الدين، وإظهار شرف العلم، ونصرة دين الله، ونسي هؤلاء ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من التواضع والتبذل، والقناعة ولين الجانب.

ونسي المغرور من هؤلاء أن عدوه الذي حذره الله منه هو الشيطان .. وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به .. وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين؟ .. وبماذا أرغم الكافرين؟ .. وبماذا جذب قلوب العالمين؟.

وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل، وطهروا الجوارح، وزينوها بالطاعات، واجتنبوا المعاصي، وتفقدوا أخلاق النفس، وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر وطلب العلو، وجاهدوا أنفسهم على التبري منها، وقلعوا من القلوب منابتها القوية.

ولكنهم بعد مغرورون، إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخداع النفس ما دق وغمض مدركه، فلم يفطنوا لها وأهملوها.

فالعالم قد يفعل كل ذلك، ويغفل عن المراقبة للخفايا، فتراه يسهر ليله، ويتعب في نهاره في جمع العلوم وترتيبها، وتحسين ألفاظها ونشرها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته.

ولعل باعثه الخفي: هو طلب الذكر، وانتشار الصيت في الأطراف، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء، والمدح بالزهد والورع والعلم.

فنسأل الله السلامة، وحسن الإخلاص، وحسن العمل، ابتغاء وجهه سبحانه.

وفرقة اشتغلوا بعلم الكلام، وفنون الجدل والمناظرات، والمجادلة في الأهواء، فتقطعت أعمارهم في تعلم الجدل، وهذيانات المبتدعة، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم، حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة.

وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب وأفضل عند الله.

ومجموعة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق

ص: 1400

النفس، وصفات القلب من الخوف والرجاء، والصبر والشكر، والإخلاص واليقين، وهم مغرورون، يظنون أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات، ودعوا الخلق إليها، فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات، وهم منفكون عنها عند الله، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين.

وغرور هؤلاء أشد الغرور، لأنهم معجبون بأنفسهم غاية الإعجاب، ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، وهكذا.

فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين، ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب، ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين.

وفرقة أخرى عدلوا عن المنهاج الشرعي في الوعظ والتعليم، فاشتغلوا بالطامات والشطح، وتلفيق الكلمات طلبًا للإغراب، وشغفوا بطيارات النكت والسجع في الألفاظ، وغرضهم أن يكثر الناس حولهم، ويكثر في مجالسهم الزعاق والصراخ، ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وما يفسدونه أكثر مما يصلحونه.

وطائفة أخرى قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا، وتكلموا به على المنابر وفي الأسواق ومجامع الناس.

وكل منهم يظن أنه تميز بهذا القدر، وأنه قد أفلح ونال الغرض، وصار مغفورًا له، وأمن عقاب الله، من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام، لكونه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه، وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.

وطائفة استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث في سماعه، وجمع الروايات الكثيرة منه، وطلب الأسانيد الغريبة العالية.

فهمة أحدهم أن يدور في البلاد، ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان.

فهؤلاء أكثرهم مغرور ليس معه إلا النقل، يحفظ الأسانيد والروايات، ويظن أنه

ص: 1401

يكفيه العمل بما يروى ويحفظ، ويتركون العلم الذي يحصل به علاج القلب من معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ووعده ووعيده، والعلم الذي يحصل به معرفة الدين وأحكامه والعمل به.

ويشتغلون بكثرة الأسانيد، وتعدد الطرق، وطلب العالي منها، همة أحدهم أن يقول: معي من الإسناد ما ليس مع غيري.

وهل نزل الوحي إلا للعلم والعمل والتعليم للدين؟.

فما أشد غرور هؤلاء، والأمة تحتاج من هؤلاء من كان تقيًا عاملاً بعلمه.

وطائفة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة، وزعموا أنهم من علماء الأمة، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو، فأفنى هؤلاء أعمارهم في طلب ذلك.

فهؤلاء كمن يفني عمره في تعلم الخط وتحسين الكتابة، ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة، وكان يكفيه معرفة أصل الخط والباقي زيادة.

فهؤلاء مغرورون أضاعوا أوقاتهم وأوقات غيرهم، واشتغلوا في غير ما خلقوا له، فيكفيهم من اللغة معرفة الغريب في القرآن والسنة، ومن النحو ما يتلعق بالقرآن والحديث.

فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى، فهو فضول مستغنى عنه، يضيع الأوقات، ويشغل عن أداء الحقوق والواجبات.

والصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل.

والذين غرهم الشيطان منهم فرق كثيرة:

فمنهم من غروره في الصلاة .. ومنهم من غروره في تلاوة القرآن .. ومنهم من غروره في الحج أو الصيام أو الأذكار .. ومنهم من غروره في الوضوء .. ومنهم من غروره في الزهد.

وكل عامل غالبًا لا يخلو من غرور إلا من رحم الله.

فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالنوافل والفضائل، وربما تعمقوا في

ص: 1402

الفضائل حتى وصلوا إلى حد العدوان والسرف، كمن غلبه الوسواس في الوضوء والغسل.

وفرقة أخرى غلب عليها الوسواس في الصلاة، فلا يدعه الشيطان يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو الركعة، ويخرج الصلاة عن وقتها، وإن كبَّر شككه الشيطان في صحة نيته.

ومنه من تغلب عليه الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط ويردد التشديدات لا يهمه غيره، ذاهلاً عن معاني الآيات، والاتعاظ بها وفهمها، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإن الله لم يكلف عباده في تلاوة القرآن إلا بما جرت به عادتهم في الكلام.

وطائفة اغتروا بتلاوة القرآن يهذونه هذًا، وربما ختموه في اليوم والليلة مرتين، يتلوه هذا المغرور، وقلبه في أودية الأماني يتجول، فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة مع الغفلة عن تدبره والعمل بموجبه.

وفرقة أخرى اغتروا بالصوم، وربما صاموا الدهر، أو صاموا الأيام الشريفة، لكن صام الظاهر منهم دون الباطن.

فأطلقوا ألسنتهم في كل شيء من الهذيان والغيبة، وملؤوا بطونهم بالحرام عند الإفطار، وقعدوا عن الدعوة إلى الحق، ونشر الهداية.

وكذلك الحج غرهم الشيطان فحجوا بزادٍ حرام، وعليهم من المظالم والديون ما عليهم، وأشغلهم بالرفث والفسوق والخصام.

وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ينكرون على الناس ما ظهر من المعاصي، وينسون ما في بواطن أنفسهم من المنكرات التي تأكل ما جمعوه من الحسنات.

وفرقة زهدت في المال، وقنعت من اللباس والطعام بالدون، ومن المساكن بالمساجد، وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع ذلك راغبون في الرياسة والجاه، إما بالعلم، وإما بالوعظ أو بمجرد الزهد.

ص: 1403

وهكذا في كل عمل للشيطان منه نصيب.

ومنهم فرقة غرهم الشيطان، وجعل لهم زيًا وهيئة ومنطقًا وحركات ومراسم، واختار لهم أدعية باطلة، وحالات مشينة كالتماوت والسماع والتنفس إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات المشينة التي غرهم بها الشيطان.

وفرقة منهم ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق، ومجاوزة المقامات والأحوال، والملازمة في عين الشهود والكشف والوجد، وغيرها من الطامات والهذيان والبهتان، حتى ظن بعضهم أن ما هم عليه من الباطل أعلى من علم الأولين والآخرين، وينظر هؤلاء إلى الفقهاء والعلماء والمحدثين والمفسرين بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، فكم يفرح الشيطان بمثل هؤلاء؟.

وفرقة أخرى وقعت في الإباحة، وطووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام.

فبعضهم يزعم أن الله مستغنٍ عن عمله فلِمَ يتعب نفسه؟.

وقال بعضهم: كلف العباد ما لا يطيقون من تطهير القلوب من الشهوات وحب الدنيا وذلك محال.

فلله كم أضل الشيطان من البشر بمثل هذه الخواطر والأفكار؟.

الصنف الثالث: أرباب الأموال.

والمغترون منهم فرق:

ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والقناطر، وما يظهر للناس، ويكتبون أسماءهم عليها، ليتخلد ذكرهم ويدعى لهم، ويظنون أنهم يغفر لهم بذلك، وهم مغرورون حيث بنوها من أموال محرمة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها، وكتابة الأسماء تنافي الإخلاص، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، والله أعلم بما في صدور العالمين.

وربما اكتسبت هذه الفرقة المال من الحلال، وأنفقت على المساجد، وهي

ص: 1404

أيضًا مغرورة إما بالرياء، وحب الثناء، أو بالإسراف الذي زينه الشيطان بزخرفة المساجد ونقشها، والتي تشغل المصلين، وتخطف أبصارهم.

والمقصود من الصلاة الخشوع، وحضور القلب، وهذه الزخرفة تشغلهم عن ذلك، وتحبط ثواب أعمالهم. ووبال ذلك كله يرجع إليه، وهو مع ذلك يغتر به، ويرى أنه من الخيرات.

وطائفة أخرى من الأغنياء ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين، ويطلبون بذلك المحافل الجامعة، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم، وكفرانًا لإحسانهم إليه.

ويكرهون التصدق في السر طلبًا لمحمدة الناس، وعلو الجاه عندهم.

وفرقة أخرى من الأغنياء اشتغلوا بحفظ، الأموال وإمساكها بحكم البخل، ثم هم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى النفقة كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن ونحو ذلك.

وهم مغرورون بذلك، لأن البخل المهلك قد استولى على قلوبهم.

وفرقة أخرى غلبهم البخل، فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه، ويطلبون من الفقراء من يخدمهم، ويتردد في حاجاتهم، وكل ذلك من مفسدات النية، ومحبطات الأعمال.

وفرقة أخرى من أرباب الأموال والفقراء وعوام الخلق اغتروا بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون الاتعاظ أجرًا، وهم مغرورون، لأن فضل مجالس الذكر لكونها مرغبة في الخير، فإن لم يهيج المجلس الرغبة في العمل فلا خير فيه.

فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلى القلب وهي كثيرة، فليس في الإنسان صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان، ومدخل من مداخله، ومطيَة من مطاياه.

ص: 1405

وعلاجها على وجه العموم بثلاثة أمور:

الأول: اللجوء إلى الله بالدعاء وسؤاله إبعاد الشيطان عنه.

قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36].

الثاني: العناية في إزالة هذه الصفات المذمومة من القلوب، وقلعها منها، فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان، فإذا كان الإنسان متصفًا بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والحرص ونحوها، كان بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم، فإن الكلب لا محالة يتهور عليه ويتوثب، ويشق دفعه.

وإن لم يكن متصفًا بها لم يطمع فيه، لأنه لا داعي له هناك، ويكون دفعه أسهل ما يكون.

وتزال تلك الصفات بضدها .. فيزال الغضب بالرضا .. ويزال الكبر بالتواضع .. ويزال الطمع بالورع .. ويزال الحسد بمعرفة أن النعم فضل الله يؤتيه من يشاء .. وهو أعلم بمن يصلح لها .. ويزال البخل بالإنفاق .. وهكذا.

الثالث: ذكر الله تعالى والفكر، فكلما ألم بقلوبهم شيء من تلك الصفات المذمومة ذكروا الله وتفكروا في حقه، وفيما أمر به، وفيما نهى عنه، فعند ذلك تحصل لهم البصيرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201].

والغين على القلب ألطف شيء وأرقه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ، مِائَةَ مَرَّةٍ» أخرجه مسلم (1).

والران من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها، فإذا كثرت الذنوب والمعاصي عند العبد، وتوالى الذنب بعد الذنب، أحاطت تلك الذنوب والمعاصي بالقلب

(1) أخرجه مسلم برقم (2702).

ص: 1406

وتغشته، فيموت القلب إذا غمرته تلك الأعمال الخبيثة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).

فالذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].

فالغين ألطف شيء وأرقه .. والران أن يسود القلب من الذنوب .. والطبع أن يطبع على القلب، وهو أشد من الران .. والأقفال أشد من الطبع .. وهي أن يقفل على القلب فلا يصل إليه شيء كما قال سبحانه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].

وجميع أمراض القلوب إنما تنشأ من جانب النفس، ومن جانب الشيطان، ولكل منهما على القلب آثار وأضرار .. ولكل منهما علامات، ولكل منهما دواء.

ولا تزكو القلوب إلا بثلاثة أمور:

تزكية القلوب بالتوحيد والإيمان .. والتزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات .. والتزكية بفعل النوافل المشروعة.

فإذا زكت القلوب ذكرت ربها في كل حين، وعبدته بكل جارحة، وأطاعته في كل أمر، وتخلقت بأحسن الأخلاق، مع الله بالإيمان وأحسن الأعمال، ومع الخلق بأحسن المعاملات والمعاشرات:{وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر: 18].

(1) حسن صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3334)، وقال حسن صحيح، وهذا لفظه.

وأخرجه ابن ماجه برقم (4244)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3422).

ص: 1407