الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19 - فقه الغنى
قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164].
وقال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
الغنى: اسم للملك التام، فالمالك من وجه دون وجه ليس بغني، وعلى هذا لا يستحق اسم الغني بالحقيقة إلا الله وحده، وكل ما سواه فقير إليه بالذات.
ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم.
والغنى في الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق.
وكما أن كون الإنسان مخلوقاً أمر ذاتي له، فكونه فقيراً أمر ذاتي له، وغناه أمر نسبي عارض له، فإنه قد استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به، فقير إليه.
ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته، وهو الله الغني بذاته عما سواه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
وغنى البشر قسمان:
غنى عال .. وغنى سافل.
فالغنى السافل هو الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والأموال، والأنعام، والحرث والزرع، والعقار والمراكب ونحو ذلك.
وهذا أضعف الغنى، فإنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع إلى مالكها سبحانه عن قريب.
ولا أضعف من همة مَنْ رضي بهذا الغنى الزائل، وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإياه يطلبون، ولا أحب إلى الشيطان ولا أبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى، والخوف من فقده.
فجدير بمن نصح نفسه أن لا يغتر به، ولا يجعله غاية مراده، بل إذا حصل له جعله سبباً لكسب الأجور، ووسيلة لغناه الأكبر، ويجعله خادماً من خدمه لا خادماً له، ويعز نفسه أن يُعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمة لغيره:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر: 66].
أما الغنى العالي، فإن العبد إنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته، ويدفع حاجته، وهو نوعان: غنى بالله .. وغنى عن غير الله.
وفي قلب الإنسان فاقة عظيمة، وضرورة تامة، وحاجة شديدة، لا يسدها إلا بحصول الغني الحميد، الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء.
ومن استغنى به سبحانه عما سواه زالت عنه كل حسرة، وحضره كل سرور وفرح.
والغنى على ثلاث درجات:
الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، فيتعلق بالله وحده، وإذا تعلق به تخلص من التعلق بغيره.
والغنى عند أهل الغفلة بالسبب والأشياء، ولذلك قلوبهم معلقة به، وصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها.
وغنى العارفين بالمسبب سبحانه، فمن كان سكونه إلى ربه فهو غني به، وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه.
الثانية: غنى النفس، فالنفس من جند القلب ورعيته، وهي من أشد جنده خلافاً عليه وشقاقاً له، وغناها تماماً لغناه، ويكون ذلك باستقامتها على المرغوب وهو الحق سبحانه باستدامة طلبه، وقطع المنازل بالسير إليه، وسلامتها من التعلق
بغير الله، وبراءتها من المراءاة، وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها.
فمراداتها دليل على شدة فقرها، وعدم استقامتها على مطلوبها الحق.
وذلك يدل على أنها غير واجدة لله، إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه، ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره، ولمََا أرادت بعملها غيره.
الثالثة: الغنى بالحق، وذلك يكون بشهود ذكره إياك، ومطالعة سبقه للأشياء جميعاً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والفوز بوجوده، فهو الموجود بذاته، والغني بذاته، وجميع المخلوقات في العالم العلوي والسفلي هو الذي كساها حلة الوجود، فهي معدومة بالذات، فقيرة إليه بالذات، وهو سبحانه الغني بذاته:{سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68].
والقلب لما كان هو الملك، فصلاحه صلاح لجميع رعيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
فالقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه، وعطاياه السنية من الإيمان والتوحيد، والمعرفة والعبودية، والطاعة والاستقامة، خلع على الأمراء والرعية خلعاً تناسبها، تأنس بها وتسعد بها:
فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة، والرضا والإخبات، فأدت الحقوق سمحة بانشراح ورضى، وجانست القلب ووافقته، وصارت وزير صدق، بعد أن كانت عدوة له معاندة له.
وأثمرت هذه المؤازرة والموافقة الطمأنينة واللذة.
وسلاح النفس كامن متوارٍ، لولا قوة سلطان القلب وقهره لها لحاربت بكل سلاح تملكه.
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار والانقياد، وخلع على الوجه خلعة
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، واللفظ له، ومسلم برقم (1599).
المهابة والنور والبهاء .. ، وخلع على اللسان خلعة الصدق، والقول السديد والحكمة النافعة .. ، وخلع على العين خلعة الاعتبار في النظر، والغض عن المحارم .. ، وخلع على الأذن خلعة استماع النصيحة، واستماع القول النافع من كلام الله ورسوله .. ، وخلع على اليدين والرجلين خلعة المسابقة والمسارعة إلى الخيرات والطاعات .. ، وخلع على الفرج خلعة العفة عما حرم الله .. وهكذا.
فلا ترى هذا العبد إلا يغدو ويروح يرفل في هذه الخلع والحلل.
فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس فذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض.
وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر، وطلبها الرفيق الأعلى، فحينئذٍ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق.
مؤدية لحقوقه .. قائمة بأوامره .. راضية عنه .. مرضية له.
{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30].
فغنى القلب سلامته من الفقر إلى السبب، وشهوده والاعتماد عليه، والركون إليه والثقة به.
فمن كان معتمداً على سبب غناه واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط.
ومتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن منازعته لأحكام الله، ومن علة مخاصمة الخلق إلا في حقوق ربه استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً أمره إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: «اللَّهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أعْلَنْتُ، أنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لا إلَهَ
إلا أنْتَ، أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ» متفق عليه (1).
وأما غنى النفس فهو استقامتها على المرغوب، وهو أمر الله الديني الذي يحبه ويرضاه، وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله سبحانه، وتعظيماً لأمره، وإيماناً به، واحتساباً لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلباً لتعظيم المخلوقين ومدحهم له، أو هرباً من ذمهم، أو طلباً للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل الفقر إلى المخلوق لا إلى الله.
أما الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه فهي أعلى درجات الغنى، وأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك قبل ذكرك له، وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر سبحانه خلقك ورزقك وعملك، وإحسانه إليك، ونعمه عليك، حيث لم تكن شيئاً البتة.
وذكرك جل جلاله بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، فجعلك أهلاً لما لم تكن له أهلاً قطّ، وإنما هو الذي أهَّلَك بسابق ذكره، وهو الذي أيقظك وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام.
ومن الذي وفقك للتوبة وقبلها منك فذقت حلاوتها؟.
ومن الذي وفقك لمحبته وعمر قلبك بمحبته فأنست به بعد الوحشة؟
ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة، فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة، ذكرك بها قبل وجودك، وتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده.
إذ هو الجواد المحسن، المحسن لذاته لا لمعاوضة، ولا لطلب جزاء منك، ولا لحاجة دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟.
فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك؛ لذكره لك
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120)، واللفظ له، ومسلم برقم (769).
بها، فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبب إليك بنعمته.
هذا كله مع غناه عنك، فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء.
أما الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز وجل فهي دوام شهود أوليته سبحانه، وهذه أعلى مما قبلها.
فالله عز وجل إذا فتح قلب عبده فشهد أوليته سبحانه، حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الكامل في أسمائه وصفاته، الغني بذاته عما سواه.
الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويمجده ويعبده، فهو معبود محمود، حي قيوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال والجلال والجمال.
فهو القيوم الذي قيام كل شيء به، ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه، فسائر الموجودات كلها سواه سبحانه أفنتها أولية الحق سبحانه، وكل صفة من صفات الرب سبحانه يستغنى العبد بها بقدر حظه من معرفتها، وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وتوفيته لعباده، وتعبد بمقتضى هذه الصفات، يعرج قلبه إلى الصمد مناجياً له، مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز الجبار.
فيشعر بأن كلامه وعمله صاعدان إليه، معروضان عليه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك.
ويشهد نزول الأوامر والمراسم الإلهية إلى أقطار العالم كل وقت بأنواع التدبير والتصريف:
من الإحياء والإماتة .. والتولية والعزل .. والخفض والرفع .. والعطاء والمنع .. والإكرام والإهانة .. والغنى والفقر .. والصحة والمرض .. وتقلب الدول .. ومداولة الأيام بين الناس .. إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا
يتصرف فيها سواه، فهو الذي:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} [السجدة: 5، 6].
والمسلم إذا أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك إذا شهد العبد مشهد علم الله المحيط، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا في أعماق البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط علمه سبحانه بكل شيء في الكون، وعلمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود، من مراقبته لنفسه، وحراسة خواطره وألفاظه، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن جميع حركاته الظاهرة والباطنة، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لربه علانية، بادية لا يخفى على الله منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله سبحانه سماع صوت من جهر عن سمعه لصوت من أسر، ولا يشغله سمع من سمع في كل زمان ومكان.
ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة كما قال سبحانه:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28].
فإذا استشعر ذلك، وتعبد بمقتضى هذا الشعور بذكر ربه والثناء عليه، وتعظيمه وإجلاله، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وجوارحه، استغنى بذلك عما سواه سبحانه.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير، الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه في العالم العلوي والسفلي.
وكذلك إذا شهد مشهد قيومية الرب تعالى، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على
كل نفس، وأنه تعالى القائم بنفسه، المقيم لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره.
وأنه سبحانه بكمال قيوميته لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قادر على كل شيء.
فهذا المشهد العظيم مشهد الربوبية الذي يدركه كل إنسان.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم، وهو شهادة أن (لا إله إلا الله)، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه باطل ومحال.
فلا أحد سواه سبحانه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية التعظيم مع نهاية الذل له إلا هو سبحانه.
وذلك لكمال ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو عز وجل المستحق للطاعة التامة وحده، والمعبود وحده، وله الخلق والأمر وحده، وله الحكم وحده، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى عنه سبحانه فقر وفاقة، وكل عزٍّ بغيره ذلٌّ وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة.
فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره، فكذلك يستحيل أن يكون لهم إله غيره.
فهو الذي انتهت إليه الرغبات والمخلوقات، وتوجهت نحوه الطلبات والسؤالات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فهو الغني الصمد بذاته، الذي حاجة كل أحد إليه، ولا حاجة به إلى أحد.
وتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره؛ لصحة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطر لها كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
والدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده، وهذا الغنى أعلى درجات الغنى.
لأنه غنى بالحق سبحانه، وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده، يعرف بذلك النور عظمة الذات كما يعرف عظمة الصفات، ويميز به بين الحي الذي يموت ويفنى، والحي الباقي الذي لا يزول ولا يفنى، فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم.
فيا له من فقر ينقضي، ومن غنى يدوم، ومن عيش لذيذ.
ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين؛ لأنه قد قرت عينه بالله، والفوز بوجوده، فيناجيه ويعبده كأنه يراه، ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَاّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَة» أخرجه ابن ماجه (1).
وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه، فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه؟.
فالفقر الحقيقي: الافتقار إلى الله في جميع الأحوال، والاستغناء به في جميع الأحوال، وأحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه في جميع الأحوال، وملازمة السنة في جميع الأفعال، وطلب القوت من وجه حلال.
وحاجات هذا العبد الفقير إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر، فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات، وطلبها ممن يملكها بطريقها الصحيح، فهو عامل على
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه برقم (4105)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3313).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (950).
مراد الله منه، لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من الله، قد خلص بكليته لله سبحانه، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب، زاهد في كل ما سوى الله، راغب في كل ما يقرب إلى الله.
وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الفقر الذي يسوغ أخذ الصدقة بقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 - 8].
وعوضه سبحانه عما نزهه عنه بأشرف المال وأجله وأفضله، وهو ما أخذه بظل رمحه وقائم سيفه من أعداء الله، الذين كان مال الله بأيديهم ظلماً وعدواناً كما قال سبحانه:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} [الحشر: 7].
فالله عز وجل خلق المال ليستعان به على طاعته ونفع عباده، وهو بأيدي الكفار ظلماً وعدواناً.
فإذا فاء ورجع إلى أولياء الله وأهل طاعته فاء إليهم ما خلق لهم.
ولكن لم يكن غنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وملكه من جنس غنى بني الدنيا وأملاكهم، فإن غناهم بالشيء، وغناه صلى الله عليه وسلم عن الشيء وهو الغنى العالي.
وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو صلى الله عليه وسلم إنما يتصرف في ملكه تصرف العبد الذي لا يتصرف إلا بإذن سيده كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَاللهُ الْمُعْطِي وَأنَا الْقَاسِمُ، وَلا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» متفق عليه (1).
وذلك لكمال مرتبة عبوديته، ولأجل ذلك لم يورث، فإنه عبد محض من كل وجه لربه عز وجل، والعبد لا مال له فيورث عنه.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3116)، واللفظ له، ومسلم برقم (1037).
وقد جمع الله عز وجل له بين أعلى أنواع الغنى، وأشرف أنواع الفقر، وأكمل له بذلك مراتب الكمال، فكان في فقره أصبر خلق الله، وأشكرهم له، وكذلك في غناه.
وقد جعله الله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأباها، وعرض عليه أن يجعل له جبل الصفا ذهباً فلم يقبله، وخير بين أن يكون ملكاً نبياً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً.
ومع هذا جبيت إليه أموال جزيرة العرب وغنائم حنين، فأنفقها كلها، ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمل عيال المسلمين وديونهم فقال:«مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه (1).
فرفع الله سبحانه قدر نبيه أن يكون من جملة الفقراء الذين تحل لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين أغناهم بالأموال المكتسبة والموروثة، بل أغناه به عما سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسع عليه غاية السعة.
فأنفق صلى الله عليه وسلم غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، ولا استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقاراً ولا أرضاً، ولا ترك شاة، ولا بعيراً، ولا عبداً، ولا ديناراً ولا درهماً.
فصلوات الله وسلامه عليه، فقد أكمل مرتبتي الغنى والفقر، وأوفاهما حقهما وعبوديتهما، وقد أغنى الله به الفقراء، وأعز به الأذلاء. فما نالت أمته الغنى والعز إلا بسببه، وأغنى الناس من صار غيره به غنياً:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
وأعظم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه كتاب الله عز وجل، الذي هو هدى للناس، وموعظة للقلوب، وشفاء لما في الصدور ورحمة للعالمين كما قال
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (2398) واللفظ له، ومسلم برقم (1619).
فالقرآن العظيم شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع، وأمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني.
وفي القرآن الكريم من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد ما يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت عند الإنسان الرغبة في الخير والرهبة من الشر أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوات نفسه.
وفي القرآن الحكيم من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبيَّنها أحسن بيان ما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.
وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
والقرآن المجيد هدى للناس، ورحمة للعالمين، والهدى هو العلم بالحق، والعمل به، والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى به، فالهدى أجلّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يُهتدى به ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.
وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور، وحصل الغنى التام للقلب ولذلك أمر الله عباده بالفرح بذلك فقال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين أعظم نعمة ينعم بها الإنسان على الإطلاق، ولا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل.