الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - العلوم الممنوحة والممنوعة
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4].
وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه البيان بأنواعه:
البيان الذهني .. والبيان اللفظي .. والبيان الكتابي .. والبيان بالإشارة.
وأعطاه العقل الذي بواسطته يستقبل العلم الذي فيه صلاحه، وصلاح معاشه ومعاده، ويسر عليه طرق ما هو محتاج إليه من العلم، فأعطاه معرفة خالقه وبارئه ومبدعه سبحانه، ويسر عليه طرق هذه المعرفة، وجمعها وشرحها وفصلها وبينها في كتابه عز وجل.
ويسر عليه طرق هذه المعرفة، فليس في العلوم ما هو أجلّ وأعظم وأبين وأيسر منها، لعظم حاجة الإنسان إليها في معاشه ومعاده:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].
ثم وضع سبحانه في العقل من الإقرار بحسن شرعه ودينه، الذي هو ظله في أرضه، وعدله بين عباده، ونوره في العالم.
فيه تبيان كل شيء .. وتفصيل كل شيء .. ومعرفة الحق من الباطل .. وبيان الهدى من الضلال .. ومعرفة التوحيد من الشرك .. وبيان أسماء الله وصفاته وأفعاله .. وما يحبه وما يسخطه .. وبيان ثواب أهل الطاعة .. وعقوبة أهل المعصية .. وغير ذلك من بركاته.
فلو اجتمعت عقول العالمين كلهم، فكانوا على عقل أعقل رجل منهم، لما أمكنهم أن يقترحوا شيئًا أحسن منه، ولا أعدل ولا أنفع، ولا أصلح ولا أهدى للخليقة في معاشها ومعادها منه.
فهو أعظم آياته، وأوضح بيناته على ربوبتيه وألوهيته، وعدله وإحسانه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88].
وكذلك أعطاهم الله سبحانه من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجتهم، كعلم الطب والحساب، وعلم النبات والزراعة، وعلم الصناعة والمعادن، واستخراج المياه، وإقامة المباني، وصناعة وسائل النقل والاتصالات، وصناعة الأدوية، وطرق الصيد، والتصرف في وجوه الكسب المشروع والتجارة، ونحو ذلك مما فيه قيام مصالح العباد، وتيسير معاشهم.
فسبحان العليم الحكيم الذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، وزوده بآلات العلم والمعرفة، فمتى يشكر الإنسان هذه النعم؟.
ثم إن الله تبارك وتعالى منع البشر علم ما سوى ذلك، مما ليس من شأنهم ولا حاجة لهم به، ولا مصلحة لهم فيه، ولا نشأتهم قابلة له كعلم الغيب .. والعلم بكل ما كان وما يكون .. والعلم بما في قلوب الناس .. والعلم بعدد القطر .. وعدد أمواج البحار .. والعلم بعدد ذرات الرمال .. والعلم بعدد الأوراق ومساقطها .. والعلم بعدد الكواكب ومقاديرها والمسافات بينها.
والعلم بما فوق السماوات .. وما تحت الثرى .. وما في لجج البحار .. وما في أقطار العالم من المخلوقات والحركات.
والعلم بتسبيح الجبال والطير والحيوان والنبات .. ومعرفة ما في الأرحام، ووقت نزول الأمطار .. وعدد الأنفاس .. إلى سائر ما حجب الله عن البشر علمه، واختص بعلمه عالم الغيب والشهادة.
فمن تكلف علم ذلك فقد ظلم نفسه، وتدخل فيما لم يؤمر به، وتجاوز ما حد له، وكلف نفسه ما لا طاقة له به، وأوضاع أوقاته فيما لا يمكنه الإحاطة به.
ومن حكمته سبحانه ما منع عباده من العلم بوقت قيام الساعة، ومعرفة آجالهم، ومقدار مكاسبهم، وأماكن موتهم، وطوى علم ذلك عن جميع خلقه، واختص به وحده كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].
وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصيرًا لم يهنأ بالعيش، وكيف يهنأ به وهو يترقب الموت في ذلك الوقت.
وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول إذا قرب الوقت أحدث توبة.
وهذا لا يرضاه العباد من بعضهم، فكيف يرضاه رب العباد.
فلو أن عبدًا أسخط سيده سنوات، ثم لما علم أنه صائر إليه أرضاه ساعة، لم يقبل منه، ولم يرض عنه.
وكذا سنة الله عز وجل أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه توبة ولا إقلاع: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء: 17، 18].
فما أعظم حكمة الله في عباده .. وما أعظم نعمه عليهم .. حيث ستر عنهم مقادير آجالهم .. ومبلغ أعمارهم .. ومكان وفاتهم.
فلا يزال من وفقه الله يترقب الموت في كل يوم، بل كل لحظة، فيكف عما يضره في معاده، ويجتهد فيما ينفعه ويسر به عند القدوم على ربه.
فسبحان مالك الملك، ومدبر الدهور والخلائق، القائم على كل نفس، الذي إذا شاء أحيا، وإذا شاء أمات، وإذا شاء أعطى، وإذا شاء منع، وإذا شاء عافى، وإذا
شاء أسقم، وإذا شاء أغنى، وإذا شاء أفقر، وإذا شاء هدى، وإذا شاء أضلَّ.
وهو الحكيم العليم الذي يضع الشيء في موضعه، وهو أعلم بمن يصلح له، ومن لا يصلح، ومن يشكر النعمة، ومن لا يشكرها.
كاشف الكربات .. ومجيب الدعوات .. ومغيث اللهفات .. وغافر الخطيات.
أحاط بكل شيء علمًا .. وأحصى كل شيء عددًا .. ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59].
إن هذا الكون العظيم هو كتاب الحق المفتوح، الذي يقرأ بكل لغة، ويدرك بكل وسيلة، ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ، وساكن العمائر والقصور.
كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده، فيجد فيه زادًا من الحق حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق، وهو قائم مفتوح كل آن:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 8].
ولكن العلم الإنساني الحديث يطمس هذه التبصرة، أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين والخالق الحكيم، لأنه في رؤوس مطموسة، رانت عليها خرافة المنهج العلمي الوثني، الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101].
أما كتاب الله عز وجل الذي أنزله على رسوله، فقد جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين، وفيه العلم الحق الذي ينبغي لكل مسلم أن يتدبره، ويعمل به، ويدعو إليه كما قال سبحانه:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} [الأنبياء: 10].
والعلم الحق أن يعرف الإنسان حقيقة الارتباط بين هذا الكون وخالقه، وحقيقة
الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه.
وهاتان حقيقتان ضروريتان لكل علم حق، وبدونهما يبقى العلم قشورًا لا تؤثر في حياة الإنسان، ومعلومات تصدع الرؤوس.
ومن أوتي من العلم مالا يبكيه، ولا يبعثه لطاعة ربه، ولا يزجره عن معصيته، خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، ويؤثر في عقله وقلبه، وروحه وبدنه، لأن الله وصف العلماء بقوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107 - 109].
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28]
ومن علم هذا تفطر قلبه على كل علم يجر إلى الكبر، ولا يبعث على الخشية والعمل.
وشعور الإنسان بأن له خالقًا، خلقه، وخلق هذا الكون، يغير من شعوره بالحياة، ويجعل لوجوده قيمةً وهدفًا.
وشعوره بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه يغير من فكره وعمله.
فيؤثر الإيمان على الكفر .. والأعمال الصالحة على ما سواها .. والآخرة على الدنيا .. والأوامر على الشهوات .. والسنن على العادات.
فسبحان من استأثر بعلم كل شيء، وأحاط بكل شيء، وقدر كل شيء، وتصرف في كل شيء، وله كل شيء.
فالله قوي والعبد ضعيف .. والله قادر والعبد عاجز .. والله غني والعبد فقير .. والله عليم بكل شيء .. والعبد جاهل بكل شيء إلا ما علمه الله إياه.
أعلمه الله أشياء .. وأخفى عنه أشياء .. وأقدره على أشياء .. وأعجزه عن أشياء .. وهو الحكيم العليم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا هداة مهتدين.