الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - فقه التوفيق والخذلان
قال الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160].
وقال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} [الأنعام: 125].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
النعم كلها من الله وحده .. نعم الطاعات كلها .. ونعم اللذات كلها.
وعلى كل عبد أن يرغب إلى الله، أن يلهمه ذكرها، ويوزعه شكرها، وكما أن النعم منه سبحانه، ومن مجرد فضله، فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه.
والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده، وتخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده، فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه، فهو مضطر إلى التضرع والابتهال إلى ربه، ليدفع عنه أسبابها، حتى لا تصدر منه.
وإذا وقعت كذلك بحكم القدر، فهو كذلك مضطر إلى الدعاء والتضرع إلى ربه، ليدفع عنه عقوباتها.
فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها:
الشكر
…
وطلب العافية .. والتوبة النصوح.
ومدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد، بل بيد مقلب القلوب، ومصرفها كيف يشاء.
فإن وفق عبده أقبل بقلبه إليه، وملأه رغبة ورهبة، فصار من السعداء.
وإن خذله تركه ونفسه ونسيه، ولم يأخذ بقلبه إليه، فصار من الأشقياء.
وللتوفيق والخذلان أسباب وهي:
أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت.
فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان، والنوعان متفاوتان في القبول.
فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت.
وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول أعظم تفاوت، لكنه أقل من النوع الإنساني.
فإذا كان المحل قابلاً للنعمة .. بحيث يعرفها .. ويعرف قدرها وخطرها .. ويشكر المنعم بها .. ويثني عليه بها .. ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود .. وعين المنَّة .. من غير أن يكون هو مستحقاً لها.
بل هي لله وحده، ومنه وبه وحده، فوحده بنعمته إخلاصاً، وصرفها في محبته شكراً.
وشهدها من محض جوده سبحانه، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزاً وضعفاً وتفريطاً.
وعلم أن الله إن أدامها عليه فذلك محض فضله وصدقته وإحسانه.
وإن سلبه إياها قهراً فهو أهل لذلك مستحق له.
وكلما زاده الله من نعمه، ازداد ذلاً له وانكساراً، وقياماً بشكره، وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيقه شكرها، كما سلب نعمته من لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها.
فإن لم يشكر نعمته سبحانه، وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سبحانه، سلبه إياها ولا بدَّ كما قال عز وجل:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة، بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال سبحانه عن
والواجب أن يقول كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم لما أوتي الملك: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40].
والمؤمن يرى كل نعمة من ربه هو المالك لها، وهو المتفضل بها، منَّ بها على عبده من غير استحقاق منه، بل هي صدقة تصدق بها على عبده، وله أن لا يتصدق بها، وله أن يسلبها.
فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئاً هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أنه أهلاً ومستحقاً، فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة، وعلت بها واستطالت على غيرها، فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال سبحانه:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: 9، 10].
وإذا علم الله هذا من قلب عبد.
يأس وكفر عند الضراء .. وفرح وفخر عند النعماء .. وكلاهما فتنة وبلاء .. وذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه.
فإن محله غير قابل لها، ولا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال سبحانه:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22 - 23].
فأسباب الخذلان من النفس وفيها .. وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة.
فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق سبحانه أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة، وخلق الشجر، هذه قابلة للثمرة، وهذه لا تقبلها.
وخلق النحلة قابلة لأن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانها، والزنبور غير قابل لذلك.
وخلق سبحانه الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره، ومحبته وتوحيده، وإجلاله وتعظيمه، ونصح عباده.
وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل قابلة لضده، وهو الحكيم العليم.
فكل خير فأصله توفيق الله للعبد .. وكل شر فأصله خذلانه لعبده.
فالتوفيق أن لا يكلك الله إلى نفسك .. والخذلان أن يخلى بينك وبين نفسك.
وإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمفتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللجوء والرغبة والرهبة، وحسن التوجه إليه.
فمتى أعطى الله العبد هذا المفتاح، فقد أراد أن يفتح له أبواب الخير والبركات.
ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مرتجاً عليه، فهو واقف دونه.
وعلى قدر نية العبد وهمته ورغبته في ذلك، يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة تنزل من الله على عباده بقدر همهم ورغبتهم ورهبتهم.
والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك.
والله بصير بالعباد .. وهو الحكيم العليم .. يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به .. ويضع الخذلان في مواضعه اللائقة به.
وما أُتي من أتي إلا من قِبل إضاعته الشكر والافتقار والدعاء.
وما ظفر من ظفر بتوفيق الله وعونه إلا بقيامه بالشكر والافتقار والدعاء.
وملاك ذلك كله الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وقد ضل أكثر الخلق عن باب التوفيق:
إما لاشتغالهم بالنعمة عن شكر المنعم بها .. أو رغبتهم في العلم وتركهم العمل .. أو المسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة .. أو الاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم .. أو إدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها .. أو إقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها .. أو الاهتمام بالعادات والتقاليد وترك السنن
والآداب.
والناس في الحياة قسمان:
أحدهما: من قابلوا أمر الله بالترك ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بعدم الشكر ومنعه بالتسخط، ولم يستجيبوا لله والرسول.
فهؤلاء أعداء الله ورسوله، وهم شر البرية، وليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى الحسرة والعذاب الأليم.
وهؤلاء أكثر الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103].
وهؤلاء هم الأشقياء في الدنيا، المخلدون في النار يوم القيامة كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6].
الثاني: قسم قالوا: أنت ربنا ونحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.
سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله ورسوله، فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت، صاروا إلى النعيم المقيم كما قال سبحانه:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
فانظر لنفسك من أي الفريقين أنت؟
وبأي العملين اشتغلت؟ .. ومن أطعت ومن عصيت؟ ..
وماذا قدمت وماذا أخرت؟
وكل إنسان يوم القيامة سوف يخبر بما قدم وأخر: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} [القيامة: 13].
هل قدم حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟ .. أو أخر حاجات الدنيا أو حاجات الدين؟.
وهل قدَّم أوامر الله على شهوات النفس؟. أو أخَّر شهوات النفس أو أوامر الله عز وجل؟ .. وهل قدم محبوبات الرب على محبوبات النفس؟.
والله عز وجل خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أموالهم وأنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم، ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له، فتطيع ربها وتعبده بشرعه الذي أنزله.
وقد خلق الله عباده، وخلق كل شيء من أجلهم كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} [لقمان: 20].
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق بالعقل والعلم .. والبيان والنطق .. والشكل والصورة الحسنة .. والهيئة الشريفة .. واكتساب العلوم، والتخلق بالأخلاق الشريفة الفاضلة من البر والصدق والإيمان، والطاعة والانقياد.
وقد اشترى الله عز وجل من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل ثمن ذلك الجنة كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة لله، مصطفاة عنده، مرضية لديه، وقدر السلعة يُعرف بجلالة قدر مشتريها، وبمقدار ثمنها.
فإذا عرف الإنسان قدر السلعة .. وعرف مشتريها .. وعرف الثمن المبذول فيها .. علم شأنها ومرتبتها في الوجود.
فالسلعة أنت أيها المؤمن، والله المشتري، والثمن الجنة، والنظر إلى وجه الرب، وسماع كلامه في دار الأمن والسلام والخلود.
والله عز وجل هو الملك العزيز الجبار، لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها وأعظمها قيمة وقدراً.
وإذا كان الرب قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدمه، يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه، وحياته وموته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض.
ثم إن العبد لجهله أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه.
ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه، وصالح عدوه الشيطان، ووالاه من دونه، وصار من جنده، مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه وخالقه ومالكه، فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه، على عدوه الشيطان، أبغض خلقه إليه، واستبدل غضب ربه برضاه، ولعنته برحمته ومحبته.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟
وإذا أراد الله عز وجل خذلان من عصاه استدرجه، والاستدراج معناه أن يعامل الله العصاة والمجرمين باللطف والإحسان، مع تماديهم في الغي والإجرام.
وذلك بأن يزيد الله نعمه عليهم، فيظنون أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادون بطراً وانهماكاً في الغي، حتى تحق عليهم كلمة العذاب كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183].
فكلما أحدثوا ذنباً، فتح الله عليهم باباً من أبواب الخير والنعم، فيزدادون بطراً وإمعاناً في الغي والفساد، ثم يأخذهم الله تعالى أغفل ما يكونون:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183].
فالتوفيق أن لا يكل الله العبد إلى نفسه، بل يتولاه ويعينه ويدافع عنه.
والخذلان أن يخلي الله تعالى بين العبد ونفسه ويكله إليها.
والعبد مطروح بين الله، وبين عدوه إبليس.
فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئب الشاة:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [آل عمران: 160].
لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا لأحد من خلقك طرفة عين.
ولضعف الإيمان، وضعف اليقين على الأعمال الصالحة، غيَّر أكثر المسلمين مكان الاجتماع، وغيَّروا موضوع الاجتماع، وغيروا أعمال الاجتماع.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان المسجد مكان اجتماعهم، وموضوع الاجتماع الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وتعلم الدين، ومواساة الفقراء، واستقبال الضيوف، وتعلم القرآن والذكر والعبادة ونحو ذلك.
وكان الاجتماع في المسجد لجميع المسلمين أغنياء وفقراء، وسائر الطبقات وأعمال الاجتماع إقامة الدين في أنحاء الأرض، وخروج الناس للدعوة إلى الله، وتعليم الناس أحكام دينهم، وقراءة القرآن، والعمل به، والخروج للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك.
واليوم تغيرت الأحوال:
فتغير مكان الاجتماع، فأصعب شيء على المسلم اليوم هو الاجتماع في المسجد، وصار الاجتماع في غير المسجد سهلاً، بل لذيذاً ومحبوباً، كالاجتماع في الفنادق والحدائق، والمطاعم والأسواق، والملاعب وأماكن الترفيه، فضلاً عن أماكن اللهو والفساد.
وتغير موضوع الاجتماع فصار كله للدنيا، وأقيمت الدنيا بأركانها الخمسة على حساب الآخرة.
وأركان الدنيا الخمسة بينها الله بقوله سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].
فحل المال مكان الإيمان .. وحلت الشهوات مكان الأعمال .. وأعمال الدنيا مكان أعمال الدين .. فقام سوق الدنيا .. وتعطل سوق الدين عند كثير من المسلمين .. فنزلت بهم من الله المحن والشدائد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)} [مريم: 59].
ومتى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فاعلم أنه قد مسخ.
ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله، والاستعداد للقائه، وحل فيه حب المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا فاعلم أنه قد خسف به.
ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس بالله إلى الأنس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى حب الخلوة مع غيره، فاعلم أنك لا تصلح له.
والموجودون الآن من بني آدم أربعة أصناف:
الصنف الأول: مؤمنون بالله، تعلموا الدين، وعملوا بالدين، ودعوا إلى الدين، بنية النبي، وبيقين النبي، وبفكر النبي، وبترتيب النبي، فهؤلاء خير القرون، ونصرة الله معهم، وفي مقدمتهم الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: مؤمنون صالحون، لكنهم لا يقومون بالدعوة، فهم قانعون بالأعمال الصالحة، فالله يعطيهم في الدنيا حياة طيبة بقدر ما عملوا، وفي الآخرة لهم الجنة.
لكن في الدنيا إذا جاءت الأحوال والمصائب فغالباً لا يستطيعون حفظ أنفسهم من الفتن.
الثالث: مسلمون، ولكنهم غارقون في المعاصي والمحرمات.
وهؤلاء مقلدون للكفار، يحبون معاشرتهم، فهم عبيد لهم، ولشهواتهم.
الرابع: كفار ومشركون، وهؤلاء يبقون في الدنيا إلى آجالهم، ولكن إذا آذوا وقاتلوا الصنف الأول، فالله ينصر المؤمنين عليهم، ولو كانوا قليلي العدد والعدة.
والمطلوب جهد الصنف الأول على الصنف الثاني، ليأتي عندهم مع الصلاح الإصلاح .. وعلى الصنف الثالث بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والترغيب والترهيب .. ليغيروا حياتهم من الاقتداء بالكفار، إلى الاقتداء بالأنبياء والصحابة في الدعوة والعبادة والاستقامة، وعلى الصنف الرابع بالدعوة إلى الله، وعرض الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة لعلهم يهتدون.
والله عز وجل هو العزيز الحكيم الذي يأمر بالعدل والإحسان، عم بعدله عموم عباده، وخص من شاء منهم بفضله وإحسانه.
ولو أن ملكاً أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولاً، وكتب معه كتاباً يعلمهم فيه أن العدو مصبحهم عن قريب، ومخرب البلد، ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالاً ومراكب وزاداً وعدة وأدلة، وقال: ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة لتنجوا.
ثم قال لجماعة من مماليكه اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده، واحملوه ولا تذروه يقعد، واذهبوا إلى فلان وفلان كذلك، وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي، فذهب خواص الملك إلى من أمروا بحملهم، فحملوهم إلى الملك، واجتاح العدو من بقى في المدينة، وقتلهم وأسر من أسر، فلا يعد الملك ظالماً لهؤلاء؟
بل هو عادل فيهم، لأنه حذرهم، وبين لهم سبيل النجاة.
نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم، إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
والله تبارك وتعالى هو الذي جعل في قلوب عباده المؤمنين محبته والإيمان به، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان، وذلك محض فضله ومنته عليهم، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم؟
بل تولى سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده، فجاد عليهم به فضلاً منه ونعمة.
والله عليم بمواقع فضله، ومن يصلح له، ومن لا يصلح له، حكيم بجعله في مواضعه كما قال سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7 - 8].
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد، بأن يجعله قادراً على فعل ما يرضيه، مريداً له محباً له مؤثراً له على غيره، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه، وهذا مجرد فضله، والعبد محل له.
فلم تكن محبتكم للإيمان، وإرادتكم له، وتزيينه في قلوبكم منكم، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك.
والذي حبب إليكم الإيمان، أعلم بمصالح عباده منكم، وأنتم لولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان.
والنفس أمَّارة بالسوء، وهي منبع كل شر، وكل خير فيها ففضل من الله منَّ به عليها لم يكن منها كما قال سبحانه:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)} [النور: 21].
فحب الإيمان، وكراهية الكفر، وتزكية النفس بالإيمان محض فضل الله ونعمته على عبده، وهو الذي جعل العبد بسبب ذلك من الراشدين:{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 8].
فهو سبحانه العليم بمن يصلح لهذا الفضل، ويزكو عليه وبه، ويثمر عنده، وهو الحكيم فلا يضعه عند غير أهله، فيضيعه بوضعه في غير موضعه.
والحسنات كلها من إحسان الله ومنِّه وتفضله على العباد بالهداية والإيمان كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43].
فجميع ما يتقلب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب
سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول وقوة منهم إلا به، وهو سبحانه خالقهم وخالق أعمالهم الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر، فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبه من نفسه.
وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر ربه على ذلك، فزاده من فضله عملاً صالحاً، ونعماً يفيضها عليه.
وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه، استغفر ربه وتاب، فزال عنه سبب الشر.
فيكون دائماً شاكراً مستغفراً، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].
والعالم كله قسمان:
سعداء .. وأشقياء.
فالسعداء أربعة أنواع كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].
وأما الأشقياء فهم نوعان:
كفار .. ومنافقون.
فذكر الكفار بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد: 19].
وذكر المنافقين بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} [النساء: 145].
أما المخلط فليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه، لأنه أتى بسببه، فعسى الله أن يتوب عليهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} [التوبة: 102].
ومسارعة الكفار إلى الكفر لا تضر الله شيئاً، وإنما هي فتنة لهم، وقدر الله بهم.
فقد علم الله من أمرهم وكفرهم، ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة، فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته.
وقد كان الهدى مبذولاً لهم، فآثروا عليه الكفر، فتركهم يسارعون في الكفر، وأملى لهم ليزدادوا إثماً، مع الإملاء في الزمن، والإملاء في الرخاء.
فهذا الإمهال والإملاء، إنما هو وبال عليهم وبلاء:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)} [آل عمران: 176].