المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌25 - فقه الخوف

‌25 - فقه الخوف

قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].

وقال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: 40 - 45].

وقال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].

الخوف: هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل، واضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف.

وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب.

وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها، وأزعج النفوس للآخرة.

والناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.

وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته فررت إليه.

والخوف المحمود ما حال بين العبد وبين محارم الله عز وجل، وهو ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: الخوف من العقوبة، وله متعلقان.

نفس المكروه المحذور وقوعه .. والسبب والطريق المفضي إليه.

فإذا عرف الإنسان قدر الخوف، وتيقن إفضاء السبب إليه، حصل له الخوف.

الثانية: خوف المكر، فمن حصلت له اليقظة بلا غفلة، واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك.

ص: 1978

فإنه ينبغي للعبد أن يخاف المكر، وأن يُسلب هذا اليقين والحضور، واليقظة والحلاوة.

فكم من مغبوط بحاله، انعكس عليه الحال، ورجع من أحسن الأعمال إلى أقبح الأعمال، واستبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة، وبالقرب بعداً.

الثالثة: هيبة الجلال لذي الجلال، فإن وحشة الخوف تكون مع الانقطاع والإساءة؟.

أما هيبة الجلال فإنها متعلقة بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكلما كان العبد بربه أعرف، وإليه أقرب، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم، وهي أعلى درجات الخوف.

وأكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة، وهو وقت تملق العبد ربه، وتضرعه بين يديه، وهي مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه مع هيبة جلاله.

وأكمل الأحوال اعتدال الخوف والرجاء في القلب مع غلبة الحب لله.

فالخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة، والتي عليها مدار مقامات السالكين إلى الله وهي:

الخوف .. والرجاء .. والمحبة.

والخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يتخلف عنه.

وقد أثنى الله عز وجل على أقرب عباده إليه بالخوف منه فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الانبياء: 90].

وكلما كان العبد بالله أعرف كان له أخوف، ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به.

فأعرف الناس بالله أخشاهم لله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} [فاطر: 28].

ومن عرف الله جل جلاله اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وإجلاله له.

ص: 1979

فخوف الله جل جلاله من أجلِّ منازل الطريق إلى الله، فإن العبد له حالتان:

إما أن يكون مستقيماً .. أو مائلاً عن الاستقامة.

فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهذا الخوف ينشأ من ثلاثة أمور:

أحدها: معرفة العبد بالجناية وقبحها.

الثاني: تصديق الوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.

الثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.

فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب:

إما أن يكون عدم علم العبد بقبحه .. وإما عدم علمه بسوء عاقبته ..

وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب على ذنوب أهل الإيمان.

فإذا علم العبد قبح الذنب، وعلم سوء مغبته، وخاف أن لا يفتح له باب التوبة، اشتد خوفه فابتعد عنه.

وهذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.

وأما إن كان المسلم مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].

وخوف العبد المسيء الهارب من الله خوف مقرون بوحشة ونفرة، فهو مشفق من عمله لعلمه بأنه صائر إلى العقوبة كما قال سبحانه:{تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22].

وأما خوف المسيء الهارب إلى الله الفار إليه فهو خوف محشو بالحلاوة

ص: 1980

والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه، فله نظران:

نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة .. ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأنس وحلاوة وطمأنينة.

ولهذا يزول الخوف وسائر الآلام والأحزان في الجنة كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

والخوف متعلق بالذنب، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، فهي سبب المخافة.

فإن قيل: ما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي سبب المخافة؟، وشدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

قيل: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله، والمنزلة عنده، وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد؛ لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه ما لا يجب على غيره كما قال سبحانه عن الملائكة:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} [النحل: 49].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أصُومُ وَأفْطِرُ، وأُصَلِّي وَأرْقُدُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (1).

وأيضاً فإن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه، ولولا خوف

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063) واللفظ له، ومسلم برقم (1401).

ص: 1981

الإزاغة لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

وكذلك الله عز وجل خالق العباد وأفعالهم الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلوب، ويجعل فيها التوبة والإنابة، وأضدادها، وكل عبد مفتقر في كل لحظة إلى هداية يجعلها الله في قلبه، وحركات يحركه بها في طاعته، وهذا إلى الله سبحانه فهو خلقه وقدره.

فمن هداه وصلاحه ونجاته بيد غيره من أحق بالخوف منه؟

ومن هنا كان خوف أولياء الله من فوات الإيمان.

والعلماء هم الذين يخشون الله ويخافونه، والعلم بالذات لا يكفي في الخوف، بل لا بدَّ من العلم بأمور ثلاثة:

الأول: العلم بقدرة الله، فإن الملك مثلاً عالم باطلاع رعيته على سوء أفعاله، لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعها.

الثاني: العلم بكونه عالماً، فالسارق من مال السلطان يعلم قدرته، ولكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه.

الثالث: العلم بكونه حكيماً، فالعامل عند السلطان عالم بكونه قادراً على منعه، وعالم بفعله للقبائح، لكنه يعلم أنه قد رضي بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف.

فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، قادراً على جميع الكائنات، غير راض بالفواحش والمنكرات.

ولا حرج على العبد أن يخاف من المؤذيات طبعاً كالسباع والحيات ونحو ذلك، فيتحرز منها بالأسباب الواقية.

كما أنه لا حرج على المسلمين في الخوف من عدوهم حتى يعدوا له العدة المادية مع الاعتماد على الله، فنأخذ بالأسباب ولا نعتمد إلا على الله وحده.

والخوف الذي نهى الله عنه بقوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، هو الخوف من المخلوق على وجه يحمل صاحبه على ترك

ص: 1982

الواجب، أو فعل المحرم خوفاً منه، وهكذا الخوف من غير الله على وجه العبادة لغيره، واعتقاد أنه يعلم الغيب، أو يتصرف في الكون، أو ينفع أو يضر بغير مشيئة الله، كما يفعل المشركون مع آلهتهم.

وأسباب الخوف كثيرة:

فقد يكون الخوف بسبب جناية قارفها الخائف.

وقد يكون عن صفة في المخوف كمن وقع في مخالب سبع.

وقد يكون الخوف من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل، أو جوار حريق، فالماء من طبيعته الإغراق، والنار من طبيعتها الإحراق.

وكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع.

وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي.

وتارة يكون بهما جميعاً.

فإذا كملت معرفة العبد بربه أورثت جلال الخوف، واحتراق القلب، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن، وعلى الجوارح، وعلى الصفات. وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره على الأعمال أن يمنع عن المحظورات والمحرمات والشبهات.

ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه، ولا وصول إلى ذلك في الآخرة إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تتم المعرفة إلا بالعمل ودوام الفكر، وانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك ذلك إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف الذي يحرق كل شهوة.

فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، وفضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي، ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف.

ص: 1983

وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة، وبه تحصل العفة والورع، والتقوى والمجاهدة، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله.

وليس الخوف بكثرة الذنوب، بل بصفاء القلوب، وكمال المعرفة بالله، فما أخطر الجهل، وما أعظم الغفلة؟

فلا قرب الرحيل ينبهنا .. ولا كثرة الذنوب تزعجنا .. ولا رؤية الخائفين تخوفنا .. ولا خطر الخاتمة يزعجنا .. ولا عظمة الجبار وقوة بطشه تزجرنا.

ونحن نخاف من يوم القيامة؛ لأننا لا ندري هل يعاملنا الله بعدله، أم يعاملنا بفضله؟ فنسأل الله أن يعاملنا بفضله لا بعدله، ولا ندري هل تكون أعمالنا مقبولة أو مردودة؟.

ولا ندري بم تواجهنا ملائكة الله؟

فأهل الإيمان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الانسان: 7].

والخائفون من الله درجات:

فمنهم من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله تعالى .. والخوف من المناقشة .. والخوف من النار .. أو حرمان الجنة .. أو الحجاب عن الله سبحانه وتعالى .. ومنهم من يغلب على قلبه خوف الموت قبل التوبة .. ومنهم من يغلب عليه خوف الاستدراج بالنعم .. أو خوف الميل عن الاستقامة .. ومنهم من يغلب عليه خوف سوء الخاتمة.

وأعلى من هذا خوف السابقة .. ومنهم من يخاف سكرات الموت وشدته .. أو سؤال منكر ونكير .. أو عذاب القبر.

ومنهم من يخاف كل ذلك أو بعضه بحسب قوة المعرفة واليقين وضعفهما. فالخوف نعمة من الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى.

ومن ثمرات الخوف:

ص: 1984

أنه يقمع الشهوات .. ويكدر اللذات .. فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة .. فتحترق الشهوات بالخوف .. وتتأدب الجوارح .. ويذل القلب ويستكين .. ويفارقه الكبر والحسد .. ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة .. وحفظ الأنفاس والأوقات، وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف .. وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى وأسمائه وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال.

والخوف من الله تعالى على مقامين:

أحدهما: الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الإيمان أو قوة الغفلة.

الثاني: الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء، فإن معرفة عظمة الله وجلاله وأسمائه وصفاته تقتضي الهيبة والخوف، فهم يخافون البعد والحجاب، ويخافون من العذاب.

ولولا أن الله لطف بعارفيه، وروَّح قلوبهم بالرجاء لاحترقت من نار الخوف، وأقرب الخلق إلى الله وأعلمهم به أشدهم له خشية كالملائكة، والأنبياء والعلماء، والأولياء، والعباد، ونحن أجدر بالخوف منهم؛ لكثرة معاصينا، وجهلنا بربنا.

وإنما أَمِنّا لغلبة الجهل علينا، وشدة غفلتنا.

والصفات السيئة كالكبر، والعجب، والحسد، سباع وهوام مشحونة في باطن الإنسان، فمن قهرها وقتلها قبل الموت نجا، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه، وظاهر بشرته يوم القيامة.

والله تبارك وتعالى هو الذي بيده الحول كله، والخلق كله، والأمر كله، والقوة كلها، فالخوف والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويُخاف إنما هما لله، وبيد

ص: 1985

الله، فكيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة؟

بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فعلى قدر خوف العبد من غير الله يسلط عليه، وعلى قدر رجائه لغيره يكون الحرمان.

وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمعت لتكوينه الخليقة.

ومن خاف الله أمن من كل شيء، ومن خاف غير الله أخافه الله من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله.

ووجل القلب يحصل للعبد بمعرفة عظمة الله وجلاله وكبريائه، ثم معرفة عظمة أسماء الله وصفاته، ثم معرفة عظمة كلام الله، ثم معرفة عظمة أوامر الله، ثم معرفة عظمة ثوابه وعقابه.

فإذا عرف العبد ذلك سارع لطاعة ربه وامتثال أوامره.

فسبحانه من إله ما أعظمه .. وما أعظم أسماءه وصفاته وأفعاله .. وما أعظم كلامه .. وما أعظم دينه وشرعه: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68].

وخوف الناس قسمان:

أحدهما: خوف عبادة وتذلل وتعظيم، وهذا لا يصلح إلا لله سبحانه، فمن خاف من الأصنام، أو الأموات، أو الأولياء، أو مخلوق مثل هذا الخوف فهو مشرك شركاً أكبر.

الثاني: الخوف الطبيعي والجبلي، فهذا إن حمل على ترك واجب، أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئاً مباحاً فهو مباح.

والخشية نوع من الخوف لكنها أخص منه، والفرق بينهما:

أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي منه وحاله كقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

ص: 1986

والخوف قد يكون من الجاهل، وأيضاً الخشية تكون بسبب عظمة المخشي، بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف.

وكلما قوي إيمان العبد زاد خوفه، وزال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، والشيطان يكيد ابن آدم بذلك كما قال سبحانه:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175].

والله عز وجل هو المقرب والمبعد، فليحذر القريب من الإبعاد، والمتصل من الانفصال، يعلم من يصلح للقرب منه، ومن لا يصلح كما قال سبحانه:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)} [البقرة: 235].

والله عز وجل غيور، لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته، واتصل قلبه بمحبته، والأنس به أن يكون له التفات إلى غيره البتة.

ومن غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده أن يلتفت إلى غيره.

فإذا أذاق عبده حلاوة محبته، والأنس به، ثم ساكن غيره، باعده من قربه، وقطعه من وصله، وأوحش سره، وألبسه رداء الذل والصغار والهوان.

فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب، وسلط عليه من يسومه سوء العذاب، وملئ من الهموم والغموم والأحزان، وصار محلاً للجيف والأقذار، وبدل بالأنس وحشة، وبالعز ذلاً، وبالقرب بعداً، كان هذا بعض جزائه.

فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات، وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات.

ومن عرف ربه، وذاق حلاوة قربه ومحبته، ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره، ثبط جوارحه عن طاعته، وعقل قلبه عن إرادته ومحبته، وأخره عن محل قربه،

ص: 1987

وولاه ما اختاره لنفسه.

وإذا أراد المرء أن يعرف ما حل به من بلاء الانفصال، والبعد وذل الحجاب فلينظر من استعبد قلبه .. واستخدم جوارحه .. وشغل سره؟

وينظر أين يبيت قلبه إذا أخذ مضجعه؟

وأين يطير قلبه إذا استيقظ من منامه؟

فذلك هو معبوده وإلهه، فإذا سمع النداء يوم القيامة: لينطلق كل واحد مع من كان يعبده، انطلق معه كائناً ما كان:{ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)} [الزمر: 15].

ص: 1988