الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
18 - علامات مرض القلب وصحته
قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة: 124، 125].
وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61].
خلق الله تبارك وتعالى كل عضو من أعضاء البدن لفعل خاص به، وجعل كماله في حصول ذلك الفعل منه.
ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من الاضطراب والنقص.
فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن يتعذر عليها النظر والرؤية، ومرض اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن تتعذر عليه حركته الطبيعية، أو يضعف عنها.
ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على جميع شهواته.
فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئًا.
ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين.
بل إذا كان قلب العبد خاليًا عن ذلك، عادت تلك الحظوظ واللذات عذابًا له ولا بدَّ، فيصير معذبًا بنفس ما كان منعمًا به من جهتين:
من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه مع شدة تعلق روحه به.
ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له.
وكل من عرف الله عز وجل أحبه، وأخلص له العبادة، ولم يؤثر عليه شيئًا من
المحبوبات.
فمن آثر عليه شيئًا من المحبوبات فقلبه مريض ولا بدَّ، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب، سقطت عنها شهوة الطيب.
وقد يمرض قلب الإنسان ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لانشغاله عنه، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته.
وعلامة ذلك:
أن لا تؤلمه جراحات القبائح .. ولا يوجعه جهله بالحق.
فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته.
وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، لضعف علمه وبصيرته وصبره.
والقلب يبصر الحق كما تبصر العين الشمس، والحق إذا لاح وتبين، لم يحتج إلى شاهد يشهد به، كما أن الأجسام إذا تجلت أمام العين لم تحتج إلى شاهد.
والحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وإذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ فالزم الحق.
فالعصر إذا كان فيه إمام عارف بالسنة داعٍ إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السّواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115].
ومن علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة .. وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار.
والقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، يؤثر الضار المهلك على النافع الشافي.
وأنفع الأغذية غذاء الإيمان .. وأنفع الأدوية دواء القرآن .. وكل منهما فيه الغذاء والدواء، والشفاء والرحمة.
ومن علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، ويحل فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا يأخذ حاجته ويعود إلى وطنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أخرجه البخاري (1).
وكلما صح القلب من مرضه، ترحل إلى الآخرة، وقرب منها حتى يصير من أهلها، يعمل بأعمالها، ويجني من ثمارها.
وكلما مرض القلب واعتل، آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
ومن علامات صحة القلب، أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به.
ومن علامات صحته كذلك أن لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به.
ومن علامات صحته أنه إذا فاته فرض من فرائض الله، أو فاته ورده، وجد لفواته ألمًا عظيمًا، أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.
(1) أخرجه البخاري برقم (6416).
ومن علامات صحته أنه يشتاق إلى الخدمة والعبادة، كما يشتاق الجائع إلى الطعام أو الشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه.
ومن علامات صحته أن يكون همه واحدًا، وأن يكون في الله، وأن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شحًا بماله.
وأن يكون اهتمام العبد بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل.
فيحرص فيه على الإخلاص والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله جل جلاله.
فالقلب السليم الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه له، والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم حول مراضيه، ومحابه سبحانه.
وكلما وجد من نفسه تقاعسًا أو التفاتًا إلى غيره تلا عليها: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30].
فإذا انصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، صارت العبودية صفة له، وأتى بها توددًا وتحببًا وتقربًا.
فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي قال: لبيك وسعديك، والمنّة لك، والحمد فيه عائد إليك:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285].
وإن أصابه قدر قال: أنت ربي العزيز الرحيم، وأنا الفقير العاجز الضعيف، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا ملجأ لي منك إلا إليك.
وإن أصابه ما يكره قال رحمة أهديت إلي، وإن صرف عنه ما يحب قال شرًا صرف عني.
فكل ما مسه به من السراء والضراء، اهتدى بها طريقًا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه.
والقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه.
فاللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
ومرض القلوب نوعان:
مرض شبهات وشكوك .. ومرض شهوات وفسوق.
وصحة القلب الكاملة تتم بشيئين:
كمال معرفته بالله وعلمه ويقينه .. وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه.
فإن كان عند الإنسان شبهات تعارض ما أخبر الله به، في أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفًا .. وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافًا في إرادته، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
فلا تغلب على العبد الشبهات إلا بفساد علمه بالله، وجهله بعدله وقضائه، وحكمته وشرعه وجزائه.
ولا تغلب عليه الشهوات إلا بفساد نفسه، وغلبة شهوات الدنيا عليه، وغلبة رياساتها وحظوظها على ما عند الله والدار الآخرة.
وإنما يكون فقط أحدهما أبرز من الآخر.
فمن الأول قوله سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 10].
ومن الثاني قوله سبحانه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} [الأحزاب: 32].
والقلب مكان الإيمان والتقوى، كما أن المعدة مكان الطعام والشراب، والإيمان في القلب يحرك البدن لطاعة الله، كما أن الطعام في المعدة يمد البدن بالغذاء الذي به تتم صحته وتكمل حركته.
فالقلب يحتاج إلى غذاء الإيمان، والبدن يحتاج إلى أكل الطيبات، وكلاهما لازم للإنسان، وكماله باجتماعهما، وهلاكه بفقدهما.
ولهذا أمرنا الله عز وجل بهذا وهذا فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172].
والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، والصفات الرديئة فيه مثل الغضب والشهوة المحرمة، والحقد والحسد، والكبر والعجب، وأخواتها كلها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب؟.
وحرام على قلب أن يدخله النور، وهو مظلم فيه شيء مما يكره الله عز وجل.
وعلل القلب كثيرة مؤلمة أشد من ألم البدن.
وعلاجها: أن ينظر إلى العلة أولاً .. فإن كان المرض داء البخل .. فعلاجه بذل المال .. ولكن لا يسرف، أو يبذر، ولا يقتر.
ومعرفة الوسط تكون بأن تنظر إلى نفسك.
فإن كان إمساك المال وجمعه، ألذ عندك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك البخل، فعالج نفسك بالبذل.
وإن كان البذل ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك، فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك.
ولا تزال تراقب نفسك، حتى تنقطع علاقة قلبك بالمال، فلا تبالي من قلته أو كثرته، ولا تميل إلى بذله ولا إمساكه.
فكل قلب صار كذلك فقد جاء الله سليمًا.
وإذا أراد الله بعبد خيرًا بصره بعيوب نفسه .. وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج .. وما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء .. علمه من علمه وجهله من جهله.
وعلاج أدواء القلوب معلوم موجود، وهو أن تعرف فاطرها ومعبودها وتطيع أمره .. وتحب ما يحب .. وتحذر مما يكره .. وذلك كله في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44].