المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌2 - خطر الجهل

‌2 - خطر الجهل

قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64].

وقال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].

وقال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل: 116، 117].

العلم شجرة الزينات والحسنات .. والجهل شجرة القبائح والسيئات.

والناس متفاوتون في الجهل .. كما هم متفاوتون في العلم .. فجاهل بأسماء الله وصفاته .. وجاهل بدينه وشرعه .. وجاهل بقضائه وقدره .. وهم متفاوتون في الجهل بذلك فمستقل ومستكثر.

والجهل شجرة خبيثة تثمر كل شر وبلاء وقبيح، والعلم شجرة طيبة تثمر كل خير وبركة ومليح.

والجاهل يضر نفسه، ويضر غيره، والعالم ينفع نفسه، وينفع غيره.

فالعالم والجاهل لا يستويان في العمل، ولا يستويان في الجزاء، ولا يستويان في القيمة عند الله، وعند الناس:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر: 9].

والجهال بأسماء الله وصفاته يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون.

فلجهلهم يقرُّون في قلوب الضعفاء، أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة وإن طال زمانها، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكر الله.

وأنه سبحانه يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى مكان الفساد، ومن التوحيد

ص: 1128

والطاعة إلى الشرك والمعصية، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

وقوله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].

وقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال24].

ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة، وأنه كان عابداً في السماء، لكن جنى عليه جاني القدر، وأنه ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسد الذي يثب عليك بغير جرم منك.

ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» . متفق عليه (1).

وبنوا هذا وأفعاله على أصلهم الباطل، وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمة ولا بسبب، وإنما يفعل بمشيئة مجردة من الحكمة والتعليل والسبب، وأنه يجوز عليه أن يعذب أهل طاعته أشد العذاب، وينعم على أعدائه وأهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواء.

ألا ما أخطر الجهل على صاحبه وعلى من اقتدى به؟ فأي جهل يصد عن الله وعن دينه فوق هذا؟

فإذا رجع العاقل إلى نفسه، وفهم منهم هذا قال: من لا يستقر له أمر، ولا يؤمن له مكر، كيف يوثق بالتقرب إليه، وكيف يعول على طاعته واتباع أمره؟.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3208)، ومسلم برقم (2643)، واللفظ له.

ص: 1129

وقال: ليس لنا إلا هذه المدة اليسيرة، فإن هجرنا اللذات، وتركنا الشهوات، وتكلفنا أثقال العبادات، وكنا مع ذلك على غير ثقة منه أن يقلب علينا الإيمان كفراً، والتوحيد شركاً، والطاعة معصية، والبر فجوراً، ويديم علينا العقوبات كنا خاسرين في الدنيا والآخرة.

فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم، وتخمر في نفوسهم، صاروا إذا أمروا بالطاعات وهجر اللذات، بمنزلة من يقول لولده: معلمك إن أحسنت وأطعته ربما عاقبك، وإن أسأت وعصيته ربما أكرمك. فيودع في قلبه ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة، ولا على وعده على الإحسان.

وإن كبر الصبي وصلح للمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس، فيجعله وزيراً أو أميراً، ويأخذ المحسن المتقي، فيخلده في الحبس أو يقتله.

فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة، والبريء بالعذاب.

فانظر إلى جناية الجهل وأهله، وإلى ما حصل بها وبهم من الفساد وترك العمل، وبغض الدين عند من وقع في شراك هؤلاء؟

وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟

ولو اجتهد الكفار والملاحدة على تبغيض الدين للناس، والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا.

وهذا الصنف من الناس يظن أنه يقرر التوحيد والقدر، ويرد على أهل البدع، وينصر الدين.

ولو علم هؤلاء أن كتب الله المنزلة كلها .. ورسله كلهم .. شاهدة بضد ذلك .. ولا سيما القرآن .. لعلموا أنهم ليسوا على شيء .. وأنهم يفسدون أكثر مما يصلحون .. وينفرون الناس من دين الله أكثر مما يجمعون.

ص: 1130

ولو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه، لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

فالله سبحانه قد أخبر في كتابه، أنه إنما يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ولا يظلمها كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40].

ويجزي سبحانه بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ويجزي السيئة بمثلها كما قال سبحانه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].

وهو سبحانه الحكيم العليم الذي هدى الضالين .. وأصلح الفاسدين .. وأنقذ الجاهلين .. وآوى الشاردين .. وتاب على المذنبين .. وعلَّم الجاهلين ..

وإذا أوقع عذاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته أخذه ببعض كفره، بحيث يعذر العبد من نفسه، ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه، وأنه هو الظالم لنفسه كما قال سبحانه عن أهل النار:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11].

ولهذا قال الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 45].

فهذا قطع إهلاك يحمد عليه الرب تعالى، لكمال حكمته وعدله، ووضعه العقوبة في موضعه، الذي لا يليق به غيرها، فلا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة.

ولهذا قال سبحانه عقيب إخباره عن الحكم بين عباده يوم القيامة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ

ص: 1131

بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].

فكأن الكون كله قال: الحمد لله رب العالمين، لما شاهدوا من حكمة الحق وعدله وفضله وإحسانه.

وقد أخبر سبحانه أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه، ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة، كما قال سبحانه عن نوح صلى الله عليه وسلم:{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)} [الشعراء: 117 - 121].

ولما سأله نوح صلى الله عليه وسلم نجاة ابنه أخبر أنه يغرقه بسوء عمله وكفره، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي بلا ذنب ولا سبب.

كما أنه سبحانه ضمن زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله، ولم يخبر أنه يضلهم ويبطل سعيهم، وكذلك ضمن زيادة الهداية، وحصول البركات للمتقين، الذين يتبعون رضوانه.

وأخبر سبحانه أنه لا يضل إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وأنه إنما يضل من آثر الضلالة على الهدى، فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه، وأنه إنما يقلب قلب من لم يرض بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به، ودفعه ورده.

فيقلب فؤاده وبصره عقوبة له على رده ودفعه للحق، وأنه سبحانه لو علم في تلك المحال التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيراً لأفهمها وهداها، ولكنها لا تصلح لنعمته، ولا تليق بها كرامته كما قال سبحانه:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23].

وقد أزاح سبحانه العلل، وأقام الحجج، ومكن من أسباب الهداية، فمن يصلح للهداية هداه، ولا يضل إلا الفاسقين والظالمين، ولا يهدي المسرفين والمكذبين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم، وأنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، وإذا أعرض عن

ص: 1132

الله أعرض الله عنه.

فيختار العبد لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى، والغي على الرشاد كما قال سبحانه:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].

فهؤلاء لما انصرفوا عن الحق باختيارهم عاقبهم الله فلم يوفقهم للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، لأنهم أغلقوا على أنفسهم أبواب الهدى.

وأما المكر الذي وصف الله به نفسه، فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنه عدل ومجازاة.

وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فهي منهم أقبح شيء، ومن الله أحسن شيء، لأنها عدل ومجازاة.

أما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا الرجل عمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه، فإن فيه آفة كامنة خذل بها في آخر عمره، فلو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.

وأما شأن إبليس، فإن الله قال لملائكته:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].

فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا تعلمه الملائكة.

فلما أمرهم الله بالسجود، ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد لأمر الله فبادروا إلى الامتثال والطاعة.

وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والكفر والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

ص: 1133

وأما خوف أولئك من مكره فحق، فإنه يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيروا إلى الشقاء.

فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمة ربهم.

أما قوله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].

فهذا إنما هو في حق الكفار والفجار، ومعناه: فلا يعصي ويأمن مقابلة الله له على مكر السيئات بمكره به إلا القوم الخاسرون.

والذي يخافه العارفون بالله من مكره أن يؤخر عنهم عذاب الذنوب، فيحصل لهم نوع اغترار، فيأنسوا بالذنوب، فيأتيهم العذاب على غرة وفترة قبل التوبة.

أو أن يغفلوا عنه، وينسوا ذكره، فيتخلى عنهم، فيسرع إليهم البلاء والفتنة، فيكون مكره بهم تخليه عنهم.

أو أن يعلم سبحانه من ذنوبهم، ما لا يعلمون من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.

أو يبتليهم ويمتحنهم بما لا صبر لهم عليه فيفتنوا به وذلك مكر.

هذا خطر الجهل بأسماء الله وصفاته، يولد مثل هذه الطامات، والقول على الله بلا علم، وظن الناس بربهم غير الحق.

فماذا ينتظر هؤلاء من العقوبة؟

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} [الأنعام: 144].

وأما الجهل بدين الله وشرعه، فقد نشأ بسببه من البدع والمخالفات ما عمَّ وطمَّ، وبلغ السهل والجبل.

والناس متفاوتون في ذلك، فمن الناس من يعبد الله مخلصاً لكن على جهل، ومنهم من ابتدع في الدين عبادات لم يشرعها الله ورسوله، فصارت عبادات يتقرب بها الجاهلون إلى الله، ويدافعون عنها، ويعادون من أنكرها عليهم،

ص: 1134

ويدعون الناس إليها، وينسبونها لله ورسوله فبأي شيء يفرح الشيطان بأكثر من هذا؟.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى: 21].

وأما الجهل بقضائه وقدره، فقد نشأ بسببه نسبة ما لا يليق به إليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فالجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، والعارف إنما يشكو إلى الله وحده.

وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه كما قال سبحانه:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79].

فالمراتب ثلاث:

أخسها أن تشكو الله إلى خلقه .. وأعلاها أن تشكو نفسك إليه .. وأوسطها أن تشكو خلقه إليه.

والجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة في ثنايا التاريخ .. وليست المقابل لما يسمى بالعلم والحضارة.

وإنما حقيقة الجاهلية: هي رفض الاهتداء بهدي الله .. ورفض الحكم بما أنزل الله .. ورفض العمل بشرع الله.

فالجاهلية في الحقيقة هي التي تستنكر هدى الله .. وتستحب العمى على الهدى .. وتزعم أن ما هي فيه هو الخير المحض .. وأن ما تدعى إليه من الهدى هو الضرر والخسران كما قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17].

وزوال هذه الجاهلية يكون بالإيمان، والأعمال الصالحة، وبذل الجهد لإعلاء

ص: 1135

كلمة الله.

ولما جاء الإسلام ذهب الكفر، ولما جاء الحق زهق الباطل.

وذهاب الإسلام يكون على يد أربعة أصناف من الناس:

صنف لا يعملون بما يعلمون .. وصنف يعملون بما لا يعلمون.

وهذان الصنفان فتنة لكل مفتون، فالأول العالم الفاجر، والثاني العابد الجاهل، والناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على العامة والخاصة، فليحذر العبد من هؤلاء، ولا يخالف قوله فعله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} [الصف: 2].

والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة كما قال الله عنهم:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].

والصنف الرابع: الذين يمنعون الناس من العلم والعمل، ويثبطونهم عنهما، وهؤلاء هم نواب إبليس في الأرض، وهم أضر على الناس من شياطين الجن.

وهؤلاء كالسباع الضارية، ومَنْ قبلهم كالأنعام السائمة.

والله حكيم عليم، يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في طاعته، والله أعلم بمن يصلح لهذا، ويصلح لهذا.

والله عز وجل أعطاك السمع والبصر والعقل .. وعرفك الخير والشر .. وبين لك ما ينفعك وما يضرك، وأرسل إليك رسوله، وأنزل عليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل .. وأعانك بمدد من جنده الكرام يحفظونك ويثبتونك، ويحاربون عدوك.

أمرك الله بشكره لا لحاجته إليه، بل لتنال به المزيد من فضله.

وأمرك بذكره، ليذكرك بإحسانه إليك، وأمرك بالسؤال ليعطيك، بل أعطاك أجلَّ العطايا بلا سؤال.

ص: 1136

فكيف ينسى الإنسان ربه، ويكفر بنعمه، ويسأل غيره، ويشكو مَنْ رَحِمَهُ إلى من لا يرحمه، ويتظلم ممن لا يظلمه، ويدعو من يعاديه ويظلمه.

ألا ما أجهل الإنسان بربه .. وما أظلمه لنفسه ولغيره.

إنْ أنعم الله عليه بالصحة والعافية، والمال والجاه، استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلبه ذلك ظل ساخطاً على ربه وهو شاكيه، لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء.

العافية والمال تلقيه إلى مساخطه، والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته، وشكايته إلى خلقه.

عجيب أمر هذا الإنسان؟ .. وغريب منه الإعراض والكفران؟.

دعاه الله إلى بابه فما وقف عليه، ثم فتح له فما عرج عليه، أرسل إليه رسوله يدعوه إلى دار كرامته فعصاه، وقال: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا أترك ما أراه لشيء سمعت به.

ومع هذا الجحود والإعراض لم يؤيسه من رحمته، بل قال: متى جئتني قبلتك، ومتى استغفرتني غفرت لك، رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقوبتي:{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156].

إن الإنسان بالعلم والإيمان تحصل له الطمأنينة والسكينة، والانقياد والتسليم، وطاعة الله ورسوله.

وبسبب الجهل والكفر تحصل له الوحشة والاضطراب، والرياء والاستكبار، ومعصية الله ورسوله، والاعتراض على أسماء الله وصفاته، والاعتراض على شرعه وقدره.

وقلَّ من يسلم من هذا، فكل نفس بسبب الجهل معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة، فأناخت ببابه.

ألا ما أعظم الجهل بالرَّب والدين والشرع.

ص: 1137

ماذا يملك الإنسان من أمره إذا كانت ناصيته بيد الله، ونفسه بيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه يقلبه كيف يشاء، وحياته وموته بيده، وسعادته وشقاوته بيده، وعافيته ومرضه بيده، وغناه وفقره بيده؟.

وحركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله بإذن الله ومشيئته؟

إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى عجز وضيعة، وتفريط وخطيئة.

وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه، وجعله أسيراً له، فهو لا غنى له عنه طرفة عين، ومع ذلك فهو لجهله متخلف عنه، معرض عنه، يتبغض إليه بمعصيته مع حاجته إليه.

نسي ذكره، واتخذه وراءه ظهرياً مع أنه إليه مرجعه، وبين يديه موقفه، وفوق هذا رافق عدوه، واستجاب لأوامره:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)} [النساء: 38].

وقد ذم الله عز وجل أهل الجهل في كتابه، وشبههم بالأنعام، بل وصفهم بأنهم أضل سبيلاً كما قال سبحانه:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].

وأخبر سبحانه بأن الجهال شر الدواب عند الله، على اختلاف أصنافها من الحمير والسباع، والكلاب والحشرات، وسائر الدواب والأنعام.

فالجهال شر منهم، وليس على دين الرسل أضر من الجهال، بل هم أعداؤه على الحقيقة، كما قال سبحانه:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22].

فهؤلاء الجهال صمٌّ عن استماع الحق .. بكْمٌ عن النطق به .. لا يعقلون ما ينفعهم .. ولا يؤثرونه على ما يضرهم .. فهم شر من جميع الدواب .. لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ليستعملوها في طاعة الله، فاستعملوها في

ص: 1138

معاصيه، وحرموا بذلك أنفسهم وغيرهم خيراً كثيراً، فكانوا شر البرية، ولو أطاعوا الله وآمنوا به لكانوا من خير البرية.

وأخبر سبحانه عن عقوبته لأعدائه بأن منعهم علم كتابه ومعرفته وفقهه فقال سبحانه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 45، 46].

وأثنى على عباده المؤمنين بالإعراض عنهم وتركهم فقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55].

ومن أعظم الجهال بالله الذين قالوا اتخذ الله ولداً، قالها اليهود في العزير، وقالها النصارى في عيسى. وقالها المشركون في الملائكة.

وأي حاجة بالغني القوي الذي له ملك السموات والأرض أن يتخذ ولداً؟

أيعينه الولد في تدبير الملك؟ أم يخلفه على خلقه؟

فأيُّ جهل بعظمة الخالق فوق هذا؟

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116].

إن الله أرسل الأنبياء والرسل ليجمعوا الناس على الدين، فجمعوهم عليه فتحابوا، ولو جمعوهم على الدنيا لتقاتلوا عليها.

والجاهلية في أي مكان .. وفي أي زمان .. تجمع الناس وتجعل الرابطة بينهم. أحياناً الدم والنسب .. وأحياناً الأرض والوطن .. وأحياناً القوم والعشيرة .. وأحياناً الحرفة والطبقة .. وأحياناً المصالح المشتركة.

وكل هذه تصورات جاهلية تخالف مخالفة أصيلة دين الله عز وجل، وتطل بوجهها الكالح الخادع، وتفسد حياة الناس، وتغير فطرتهم.

ويعيش الناس في ظلها في عذاب وعناء، وشدة وفساد، وكل ذلك مما يشترك

ص: 1139

فيه الإنسان مع البهائم، بل مع الكلاب والحمير.

لقد كان الكفار في مكة، وما زالوا في كل مكان وزمان يتخذون الأوثان والأصنام لينالوا بها النصر، بينما كانوا هم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة أن يعتدي عليها معتد، أو يصيبها بسوء، فكانوا هم جنودها وحماتها المعدين لنصرتها:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 74، 75].

فأي سخف وأي جهل انحدر إليه البشر فوق هذا؟

وأعظم ما يلهي الناس عن الله والدار الآخرة هو طلب التكاثر في الأموال والأولاد، والتمرغ في الشهوات، والتفاخر بذلك كما قال سبحانه:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 1، 2].

والتكاثر والتفاخر في كل شيء، فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية.

فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال .. ومن الناس من يلهيه التكاثر بالأولاد .. ومنهم من يلهيه التكاثر بالعلم أو بالجاه، فيجمعه تكاثراً وتفاخراً.

ومن جمع العلم تكاثراً وتفاخراً فهو أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه، فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها، وكاثر بأسبابها.

والنعيم التام: هو في الدين الحق علماً وعملاً، فأهله هم أصحاب النعيم الكامل، والشقاء التام: هو في الباطل علماً وعملاً، وأهله هم أصحاب الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].

ولكن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب .. وما ينال كثيراً من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والأموال وغيرها.

ص: 1140

فيعتقد لجهله أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل.

وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، فإذا سمع في القرآن:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8].

وقوله عز وجل: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 173].

ونحو هذه الآيات، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فإننا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، والقرآن لا يرد بخلاف الحس.

ويعتمد على هذا الظن، إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، ويرى صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق.

فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال هذا في الآخرة.

وإذا قيل له كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق؟.

فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

وإن كان ممن يعلل الأفعال قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة، وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.

ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحث وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك.

والقلوب تغلي كالقدور بما فيها من حلو ومر، وطيب وخبيث، وحق وباطل.

وكثير من الناس لجهله يصدر منهم من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.

ص: 1141

وهذه الأقوال والظنون الكاذبة سببها أمران:

أحدهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب لله عليه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأن نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.

الثاني: اعتقاده أن الله سبحانه قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا، بل يعيش عمره مظلوماً مقهوراً، مع قيامه بما أمره الله به ظاهراً وباطناً.

فهو عند نفسه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وهو تحت أهل الظلم والفجور والعدوان.

فلله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل .. ومتدين لا بصيرة له .. ومنتسب إلى العلم لا معرفة له؟.

ومعلوم أن العبد وإن آمن بالآخرة، فإنه طالب في الدنيا لما لا بدَّ له منه، من جلب نفع، ودفع ضر، بهما قوام معيشته.

فإذا اعتقد أن الدين الحق، واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة، ينافي ذلك، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله.

فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين .. بل قد يدخل مع الظالمين .. بل مع المنافقين.

وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لا بدَّ له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.

فسبحان الله كم صدَّت هذه الفتنة الكثير من الخلق عن القيام بحقيقة الدين؟

وأصل ذلك ناشئ من جهله بحقيقة الدين، وجهله بحقيقة النعيم، الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها.

ص: 1142

فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.

وكمال العبد أن يكون عارفاً بالنعيم الذي يطلبه، وبالعمل الذي يوصله إليه، مع إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم.

والعبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق ظاهراً وباطناً، فهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه، وما هو المراد منه.

فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدراً ونوعاً وصفة.

وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين.

فهذا من جهله بوعد الله ووعيده، وما أعده الله لأهل طاعته، وما أعده لأهل معصيته.

فأما المقام الأول، فإن العبد كثيراً ما يترك واجبات لا يعلم بها، فيكون مقصراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلاً وإما تهاوناً، وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك من الأسباب.

فواجبات القلوب أشد وجوباً من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.

فترى بعض الناس يتحرج من ترك فرض أو واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها من التقوى والتوكل، والخشية والإنابة، والخوف والرجاء، ونحو ذلك.

ويتحرج من فعل أدنى المحرمات الظاهرة، وقد ارتكب من محرمات القلوب كالنفاق والرياء، والحسد والكيد، ونحو ذلك مما هو أشد تحريماً، وأعظم إثماً.

بل ما أكثر من يتعبد لله بترك ما أوجب الله عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله بذلك

ص: 1143

مجتمع على ربه.

فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه من خواص أوليائه وأصفيائه.

والله عز وجل إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق.

وكذلك العزة والعلو إنما هو لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال.

فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)} [آل عمران: 129].

وله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)} [المنافقون: 8].

فإذا فات العبد حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علماً وعملاً، ظاهراً وباطناً.

وكذلك الدفع عن العبد بحسب إيمانه، فإذا ضعف الدفع عنه، فهو من نقص إيمانه:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)} [الحج: 38].

وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64].

فكفاية الله لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.

وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51].

فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد.

ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما ذلك

ص: 1144

بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه.

وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} [النساء: 141].

فانتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل .. فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم .. فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى.

فالمؤمن عزيز عالٍ، مؤيد منصور، مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهراً وباطناً:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)} [محمد: 35].

فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله، يحفظهم الله بها، ويعزهم بها، وينصرهم بها.

وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط واللبس، فكثير من الناس لجهله يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائماً، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى، وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده.

وهذا سببه الجهل، وسوء الفهم لكتاب الله، فإنه سبحانه بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51].

وما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدوه عليه، فذلك بسبب ذنوبه كما قال سبحانه:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].

وفوق هذا لا بدَّ أن نعلم أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والأذى والمحن دون ما يصيب الكفار، وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير، والواقع شاهد بذلك.

وما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم

ص: 1145

الرضا، فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته.

فإنهم كلما شاهدوا العوض، هان عليهم تحمل المشاق، بخلاف الكفار فلا رضا عندهم ولا احتساب:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].

والمحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضا محبوبه مستحلى غير مسخوط، فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه، ورفعة له.

وما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العزِّ والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وهوان، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

وابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» أخرجه مسلم (1).

وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.

وما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه في بعض الأحيان، أمر لازم لا بدَّ منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم.

فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.

(1) أخرجه مسلم برقم (2999).

ص: 1146

فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالماً غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه، ولفاتت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر.

وفي ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم حكم عظيمة:

منها استخراج عبوديتهم لله وذلهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مغلوبين مقهورين، لما قامت للدين قائمة، ولا قامت للحق دولة.

فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.

ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ولو كانوا مغلوبين مقهورين لم يدخل معهم أحد.

ولكي يتميز من يريد الله ورسوله، ومن يريد الجاه والدنيا، جعل الله لهم الدولة تارة .. وعليهم تارة:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140، 141].

والله سبحانه حكيم عليم، يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم.

فلكل حالة عبودية خاصة لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والراحة والتعب، والري والعطش، والشبع والجوع.

فامتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم.

والله سبحانه إنما خلق السموات والأرض، وخلق الحياة والموت، وزيَّن الأرض بما عليها، لابتلاء عباده وامتحانهم، ليعلم من يريده ممن يريد الدنيا

ص: 1147

وزينتها، وليعلم الصادق من الكاذب:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3].

فلا بدَّ من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن قد يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة.

والكافر والمنافق والفاجر قد تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم والحسرة، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم البتة.

والإنسان لا بدَّ له أن يعيش مع الناس، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم.

والكافر كالأعمى الذي يتردى في حفرة، لا بدَّ من رحمته والأخذ بيده قبل أن يسقط، ولو تركناه حتى يسقط نكون ظالمين.

فكذلك الكافر لو تركناه على كفره حتى يموت يدخل النار، فلا بدَّ من رحمته ودعوته والأخذ بيده، والإحسان إليه، حتى يدخل نور الإيمان في قلبه.

ولكن أكثر المسلمين اليوم بسبب جهلهم وغفلتهم تركوا العاصي ومعصيته، فكيف بالكافر، وحُرموا الحزن على العاصي، ثم حرموا الحزن على الكفار، فقل نزول الهداية بسبب ترك الدعوة، والفكر في هداية البشرية، وتحول الفكر من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى الفكر في زيادة الأموال وتملك الأشياء.

وهذا كله من جهل الإنسان بربه، وكفره بنعمه، فإن الإنسان كفور للنعم، إلا من هدى الله، فمَنَّ عليه بالعقل السليم، واهتدى إلى الصراط المستقيم، فإنه يعلم أن الخالق البارئ المصور، العزيز الرحيم، الغني الكريم، الذي يكشف الشدائد، وينجي من الأهوال، هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، وتخلص له سائر الأعمال في العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء.

لقد أكرم الله بني آدم بجميع وجوه الإكرام.

ص: 1148

فكرمهم بالعلم والعقل، والسمع والبصر، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب.

وجعل سبحانه منهم الأولياء والأصفياء، والصديقين والشهداء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.

وحملهم سبحانه في البر على الإبل والخيل، والبغال والحمير، والمراكب البرية والجوية.

وحملهم سبحانه في البحر على السفن والمراكب.

ورزقهم سبحانه من الطيبات من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به، ويسره لهم غاية التيسير.

وفضلهم عز وجل على كثير من خلقه، بما خصهم به من المناقب، وفضلهم به من الفضائل التي ليست لغيرهم من أنواع المخلوقات كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].

أفلا يقوم الناس بشكر من أولى النعم، وحباهم بها، ودفع عنهم النقم؟.

ألا ما أجهل البشر حين تحجبهم النعم عن المنعم فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم، بل ربما استعانوا بها على معصيته؟

إن كل من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق فلم يقبله ولم ينقد له، بل اتبع الشر والضلال فهو في الآخرة أعمى عن سلوك طريق الجنة، كما لم يسلكه في الدنيا، وأضل سبيلاً:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].

وضلال البشر ضربان:

الأول: ضلال في العلوم النظرية الاعتقادية كالجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ووحدانيته.

وهذه يعبر عنه بالضلال البعيد كما قال سبحانه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} [الحج: 12].

ص: 1149

الثاني: ضلال في العلوم العملية كالجهل بالأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات كالصلاة والصيام، والبيوع والحدود ونحوها.

يا من أكثر عمره قد مضى في الجهل والغفلة، أما تخاف مصرعاً تحت الثرى، وحساباً بين الورى؟

ألا ما أخطر الجهل والتعصب إذا اجتمعا على العبد؟

نعوذ بالله من جهل بلا علم، ومن سفه بلا حلم، ومن دنيا بلا دين، ومن جزم بلا علم.

ص: 1150