الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
42 - فقه التسليم
قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} [لقمان: 22].
التسليم لله نوعان:
تسليم لحكم الله الديني الشرعي .. وتسليم لحكم الله الكوني القدري.
فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين.
وأما الثاني: فهو التسليم لحكم الله الكوني، وهي مسألة الرضا بالقضاء والقدر.
والتسليم للقضاء يحمد إذا لم يؤمر العبد بمنازعته ودفعه، ولم يقدر على ذلك كالمصائب التي لا قدرة له على دفعها.
وأما الأحكام والأحوال التي أمره الله بدفعها فلا يجوز له التسليم إليها، بل العبودية مدافعتها بأحكام أخر أحب إلى الله منها، كمدافعة قدر المرض بالعلاج، ومدافعة قدر الجوع بالطعام وهكذا.
وليس في التسليم إلا علة واحدة، وهي أن لا يكون تسليمه صادراً عن محض الرضا والاختيار، بل يشوبه كره وانقباض، فيسلم على نوع إغماض.
فهذه علة التسليم المؤثرة فاجتهد في الخلاص منها.
والتسليم: هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض الشرع والقدر.
وصاحب هذا التسليم هو صاحب القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا
من أتى به كما قال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88،89].
والتسليم على ثلاث درجات:
الأولى: تسليم ما يزاحم العقول.
فإن التسليم يقتضي ما ينهى عنه العقل ويزاحمه، فإنه يقتضي التجريد عن الأسباب، والعقل يأمر بها، فصاحب التسليم يسلم إلى الله عز وجل ما هو غيب عن العبد، فإذا سلم لله لم يلتفت إلى السبب في كل ما غاب عنه.
والأوهام يسبق عليها أن ما غاب عنها من الحكم لا يحصل إلا بالأسباب، والتسليم يقتضي التجرد عنها، والعقل ينهى عن ذلك.
والتسليم ضد المنازعة، والمنازعة إما بشبهة فاسدة تعارض الإيمان، وإما بشهوة تعارض أمر الله عز وجل، أو إرادة تعارض مراد الله من عبده، أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره، بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع، وخلاف ما قضى وقدر، فالتسليم التخلص من هذه المنازعات.
الثانية: تسليم العلم إلى الحال، بأن ينتقل من صورة العلم إلى المعاني والحقائق.
فينتقل من العلم إلى اليقين، ومن اليقين إلى عين اليقين، ومن علم الإيمان إلى ذوق طعم الإيمان وحلاوته، ومن علم التوكل إلى حاله وهكذا.
الثالثة: تسليم ما دون الحق إلى الحق، مع السلامة من رؤية التسليم.
فالحق سبحانه هو الذي سلم إلى نفسه ما دونه، فالحق سبحانه هو الذي سلمك إليه، فهو المسلم والمسلم إليه، وأنت آلة التسليم، فمن شهد هذا المشهد العظيم وجد نفسه مسلمة إلى الحق، وما سلمها إلى الحق غير الحق، فقد سلم العبد من دعوى التسليم ورؤية التسليم.
«اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إِلَيْكَ، وَألْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» . فَقُلْتُ أسْتَذْكِرُهُنَّ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أرْسَلْتَ. قَالَ: لا: «وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ» متفق عليه (1).
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6311) واللفظ له، ومسلم برقم (2710).