المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌15 - فقه الذكر

‌15 - فقه الذكر

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42].

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].

ذكر الله عز وجل هو قوت القلوب التي متى ما فارقها صارت الأجساد لها قبوراً.

وفي كل جارحة من جوارح الإنسان عبودية مؤقتة كالصلاة والصيام والحج، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة.

والذكر جلاء القلوب وصقالها ودواؤها، وبه يزول الوقر عن الآذان، والبكم عن الألسن، وتنقشع الظلمة عن الأبصار.

زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.

والذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عباده ما لم يغلقه العبد بغفلته.

وبالذكر يصرع العبد الشيطان، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه.

وقد أمر الله عز وجل بذكره، ونهى عن ضده من الغفلة والنسيان كما قال سبحانه:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205].

وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].

فالذكر هو التخلص من الغفلة والنسيان، والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك بغير اختياره، ولهذا قال سبحانه: {وَلَا تَكُنْ

ص: 1868

مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205].

فلم يقل: ولا تكن من الناسين؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه.

والذكر من حيث ما يذكر ثلاثة أنواع:

ذكر الله وأسمائه وصفاته ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها .. وذكر الأمر والنهي .. والحلال والحرام .. وذكر الآلاء والنعماء والإحسان.

وذكر الله تبارك وتعالى تارة يكون بالقلب واللسان وهو أعلى الدرجات .. وتارة يكون بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية .. وتارة يكون باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة.

وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له: ذكر قبله به صار العبد ذاكراً له، وذكر بعده به صار العبد مذكوراً، كما قال سبحانه:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].

والذكر على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: الذكر الظاهر ثناءً أو دعاءً أو رعاية، والمراد بالظاهر ما تواطأ عليه القلب واللسان.

فذكر الثناء: نحو سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وذكر الدعاء: نحو: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

وذكر الرعاية: ما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، وأنسه بالله، وثقته به كما قال سبحانه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

فيشعر قلب العبد أن الله معنا، وأنه يرانا، وأنه يسمعنا.

فيتولد من ذلك الحياء من الله، والإقبال على طاعته، والبعد عن معصيته، ودوام ذكره وشكره.

الدرجة الثانية: الذكر الخفي، وهو الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من

ص: 1869

الواردات.

ويكون بالتخلص من الغفلة والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب والرب سبحانه، وملازمة الحضور مع المذكور سبحانه، ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه، ولزوم القلب لذكر ربه.

تملقاً تارة. وتضرعاً تارة .. وثناءً تارة .. وتعظيماً تارة .. ومحبة تارة .. وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب .. وهذا شأن كل محب وحبيبه.

الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق سبحانه إياك، فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي، حيث ذكره فيمن اختصه وأهَّله للقرب منه، ولذكره فجعله ذاكراً له.

فهو سبحانه الذي جعل الذاكر ذاكراً، والموحد موحداً، والكافر كافراً، والأبيض أبيض، والقصير قصيراً، فله المنَّة والفضل، والعطاء والمنع، وله كل شيء، وبيده كل شيء، وهو رب كل شيء.

وحقيقة ذكر الله هي تركيز اتجاه القلب إلى الله سبحانه وتعالى في كل وقت من الأوقات بالذكر والدعاء، وعند الأوامر والنواهي، وسائر الأحوال.

فالمسلم يبدأ ذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً .. ثم بقلبه يقيناً واعتقاداً .. ثم بعمله طاعة وامتثالاً لأوامر الله سبحانه.

وذكر الله سبحانه هو ثمرة المعرفة بالله والإيمان به سبحانه، وقد أمرنا الله بذكره دائماً حتى نستحضر عظمته وجلاله، وجماله وكماله، لنطيعه ولا نعصيه، ونشكره ولا نكفره.

والهدف من ذكر الله:

هو إحياء جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله، وتوحيده، وعبادته، والتزام شرعه، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والذكر قسمان: فرض .. ونفل.

ص: 1870

فكما أن الصلاة والصيام قسمان: فرض ونفل، فكذلك الذكر نوعان:

فالذكر الحقيقي: هو الالتزام بأداء جميع الأحكام والعبادات المفروضة في وقتها، والالتزام بجميع الأدعية والأوراد المشروعة طبقاً لما ورد في السنة، وهذا هو الذكر الواجب.

يؤدي المسلم ذلك كله معظماً لربه، حامداً له، محباً له، خاشعاً لربه، معتقداً بفضلها، راجياً من ربه الثواب عليها.

أما الذكر النفلي: فهو عبارة عن الأذكار المسنونة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ترسخ حقائق الأوامر الإلهية في القلب، وتنشط الجوارح لأدائها والإكثار منها، والصبر عليها.

فالذكر الحقيقي: فرض واجب، ولا يمكن تركه، ولا الزيادة فيه، ولا النقصان منه، ولا التصرف في كيفية أدائه، أو تحديد أوقاته.

أما الذكر النفلي: فهو أمر اختياري مسنون، يقوم به العبد المسلم في الأوقات المتبقية من أداء الواجبات والفرائض الشرعية، وذلك حتى يظل المسلم دائم الصلة بربه، وحتى لا يشتغل الإنسان بالأعمال التي لا تعنيه في حياته.

إذ أن الشيطان يسعى لإشغال المسلم القائم بأداء واجباته الدينية في أوقات الفراغ باللهو واللعب، واللغو والفواحش، فللبعد عن حملات الشيطان، وهوى النفس وشهواتها، والمحافظة على الرباط الذي يربط المسلم بربه، لتحصل له البركات، لزم الاهتمام بالذكر النفلي.

وحتى يصل الإنسان إلى حقيقة الذكر لا بدَّ من أمور:

الأول: بذل الجهود الممكنة لفهم القرآن وتدبره، وقراءة ما تيسر منه يومياً إما في آخر الليل، أو قبيل نوافل التهجد.

ومن لا يستطيع أن يقرأ فعليه أن يهتم بسماع القرآن من غيره، وعلى القارئ أن يقرأ بتدبر وتفكر ليتأثر قلبه فينشط للإيمان والخشوع والطاعات، معظماً لربه، وكلام مولاه، منفذاً لأحكامه.

ص: 1871

ويتيقن أن الله يراه، ويسمع تلاوته، وأنه مطالب بالعمل بما جاء فيها من أحكام بقلبه وجوارحه.

الثاني: المحافظة على الأذكار الواردة في السنة يومياً كأذكار الصباح والمساء، وأذكار أدبار الصلوات الخمس، والأذكار المطلقة، مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ونحو ذلك.

الثالث: الاهتمام بأداء الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم حسب الأوقات والأحوال المختلفة كدعاء دخول المسجد والخروج منه، ودعاء لبس الثوب، والدعاء عند دخول الحمام، وعند الفراغ من الوضوء، والدعاء عند النوم، وعند الأكل والشرب، وغير ذلك من الأدعية والأذكار المقيدة بتلك الأحوال مما ورد في السنة النبوية الصحيحة.

الرابع: أن يتعود الإنسان على ذكر الله دائماً، ويلازم ذكراً خاصاً مما ورد في السنة المطهرة، وهذا التعود يجنب الإنسان اللغو، كما يجعله مستحقاً للثواب والأجر، دائم الصلة بمولاه.

ويختار من تلك الأذكار ما يناسب ظروفه وطبيعته، فيكثر مثلاً من (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فله بكل واحدة يقولها شجرة في الجنة.

وكذلك يكثر من (لا حول ولا قوة إلا بالله) فهي كنز من كنوز الجنة، وبذلك يصفو ذهنه، ويخشع قلبه، وينشط بدنه لطاعة ربه، ولسانه لذكره، ويسلم من أعدائه.

وإنما كانت المعاصي سبباً لمحق بركة الرزق والأجل؛ لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها، ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللباس والركوب والجماع؛ لما في مقارنة اسم الله من البركة.

وذكر اسمه سبحانه يطرد الشيطان فتحصل البركة.

وقد لعن الله عدوه إبليس، وجعله أبعد خلقه منه، فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به، ومن هنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق

ص: 1872

بركة العمر والرزق، والعلم والعمل.

والذكر ثلاثة أقسام:

إما أن يكون باللسان .. أو بالقلب .. أو بالجوارح.

فذكر الله باللسان:

أن يحمد العبد ربه، ويسبحه، ويكبره، ويثني عليه، ويقرأ كتابه.

وذكر الله بالقلب ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يتفكر العبد في الدلائل الدالة على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

الثاني: أن يتفكر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، فيفعل ما يقربه إلى الله، ويجتنب ما يبعده عنه.

الثالث: أن يتفكر في أسرار مخلوقات الله، وما له سبحانه فيها من الحكم.

أما ذكر الله بالجوارح:

فيكون بأن يستعمل العبد جوارحه كلها في طاعة الله، لتكون جوارحه مستغرقة في الأعمال التي أمره الله بها، وخالية من الأعمال التي نهى الله عنها.

وذكر الله معناه: استحضاره، واستحضار عظمته، واستحضار عظمة أوامره، واستحضار عظمة وعده ووعيده في كل حين.

فلا يتحرك حركة ولا يعمل عملاً في ليل أو نهار إلا وهو يستحضر ربه ويذكره، وكل عمل خلا عن ذلك فلا روح له، بل هو كالميت.

والذكر أفضل العبادات، بل هو الغرض المقصود من العبادات كلها، فإنها شرعت لتعين العبد على ذكر الله عز وجل كما قال سبحانه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].

والذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسم، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا.

ص: 1873

وألفاظ الذكر ثلاثة أنواع:

فأفضلها ما كان ثناء على الله سبحانه كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4].

وقول المصلي في دعاء الاستفتاح: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرَكَ» أخرجه أبو داود والترمذي (1).

وقوله في الركوع «سبحان ربي العظيم» ، وفي السجود «سبحان ربي الأعلى» ، ثم يليه ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافاً بما يجب لله عليه، كقوله تعالى:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 79].

وقول المصلي في الركوع: «اللَّهُمَّ! لَكَ رَكَعْتُ» ، وفي السجود:«اللَّهُمَّ! لَكَ سَجَدْتُ» أخرجه مسلم (2).

ثم يليه ما كان دعاءً وطلباً من العبد كقوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].

وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» متفق عليه (3).

والإنسان إذا استعاذ بالله من الشيطان حفظه الله، ووقاه كيده، وإذا ذكر الله وبدأ عمله ذاكراً اسم الله فإنه يشعر أن الله معه يعينه ويسدده، ويشعر أنه بدون الله غير قادر، وأن قوته الذاتية لا تنفعه، وأنه بحاجة إلى عون الله في كل لحظة، وفي كل عمل، ويطرد الغرور عن نفسه.

(1) صحيح: أخرجه أبو داود برقم (775)، صحيح سنن أبي داود رقم (701).

وأخرجه الترمذي برقم (243)، صحيح سنن الترمذي رقم (202).

(2)

أخرجه مسلم برقم (771).

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (744)، ومسلم برقم (598).

ص: 1874

ومن لا يذكر الله يعمل والغرور يملأ قلبه؛ لأنه يشعر أنه يستطيع أن يحقق ما يريد بقوته الذاتية.

فكأنه استغنى عن الله وابتعد عنه، وكيف يستغني العاجز الفقير عن الغني الحميد؟.

ومن أعظم المصائب أن يحس الإنسان أنه يستطيع أن يحقق لنفسه ما يريد بذاته ناسياً ربه.

فإذا أصابته نعمة من الله نسبها إلى نفسه، وادعى أنه يستطيع الحصول على الرزق بقدرته هو، مستغنياً عن ربه:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)} [الإسراء: 83].

فإذا أنعم الله عليه بنعمة نسبها إلى نفسه، فأعرض عن الله بدلاً من أن يشكره .. لماذا؟.

لأنه حقق شيئاً بما أعطاه الله من علم في الأرض، فأوهمه هذا العلم أنه استغنى عن الله، وأنه بذاته يحصل على ما يريد.

ولا ريب أن الله بيده كل شيء، والمؤمن دائماً يسأل ربه حاجته، ويستعين به في جميع أموره.

فإن نزل المطر شكر ربه .. وإن تأخر المطر رفع يديه إلى السماء طالباً من الله رحمته، هذا حال الإنسان، حتى أنعم الله عليه بشيء من العلم فاستطاع أن يشق الأنهار، ويبني السدود، ويخزن المياه؛ ليستعين بها في وقت الجفاف على حوائجه، فأحس أنه استغنى عن الله فلا يدعو ربه، فهل نسي أن الله هو الذي أنزل الماء الذي ملأ به السد، وحفظه من التسرب والفساد؟.

وهكذا أنعم الله على الإنسان بالعلم الذي استطاع به أن يقيم سداً، ليحجب ويحفظ مياه المطر حتى الموسم القادم.

وكان الرد أن الإنسان بدلاً من أن يشكر الله على نعمة العلم الذي أتاحه له ليجعل حياته أيسر، فإذا به ينأى عن الله سبحانه وينساه، وينسب العلم إلى نفسه

ص: 1875

وإلى قدراته هو، وكأنه استغنى عن الله الذي خلقه، وساق إليه المطر، وأوصله إليه، وأعطاه العلم ليبني السد ويحفظ الماء فيه.

وماذا يغني السد لو حبس الله المطر؟.

وماذا يغني السد لو ملأه الله بالماء الملح الأجاج الذي لا يقبله نبات، ولا حيوان، ولا إنسان؟.

ألا ما أجهل الإنسان .. وما أشد غروره .. كلما زاده الله نعمة ازداد بها غروراً وطغياناً: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7].

إن الله تبارك وتعالى كلما كشف للبشر من العلم ليعطيهم حياة أيسر وأفضل ابتعد هؤلاء الناس عن الله، وانشغلوا بالمخلوق عن الخالق، وبالنعمة عن المنعم، ونسوا أن الذي أعطاهم السمع والبصر والعقل، هو الذي أعطاهم العلم، وهو الذي أعطاهم النعم.

إن العبد كلما ذكر الله كان الله معه يعينه، ويفتح له الطريق، ويحفظه من الشر، ويذلل له العقبات، ويدله على الخير، كما أمر الله موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام أن يذهبا إلى فرعون ذاكرين لله بقوله {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 42 - 44].

فلما قالا: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [طه: 45].

قال الله لهما: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46].

والإنسان عندما يعتاد دوام ذكر الله في كل أحيانه، ويذكر الله عند كل عمل، فإنه لا يمكن أن يبدأ بمعصية.

فلا يسرف، ولا يزني، ولا يشرب الخمر، ولا يقتل، ولا يسرق.

فما دام ذكر الله على لسانه فإنه يمنعه من المعاصي، وهو سد منيع بينه وبين الآثام، ولذلك أمرنا الله بذكره في جميع الأحوال والأوقات.

وإذا تعودت ذكر الله في كل عمل استحييت أن تبدأ عملاً يغضب الله؛ لأنك لا

ص: 1876

تبدأ باسم الله إلا فيما أجازه الله، أو أباحه الله، أو أوجبه الله.

والله سبحانه يريد بالتسمية قبل كل سورة في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) أن يذكرنا دائماً أن ندخل عليه متوكلين عليه، معتمدين على رحمته لا على عملنا، فالإنسان مهما عمل .. ومهما اجتهد .. ومهما بذل وأعطى .. ومهما نصح .. فلا يخلو عمله من شائبة.

فإن تكلم فقد ينم ويغتاب .. وإن حكم فقد يظلم .. وإن عمل فقد يقصر، والإنسان خلق ظلوماً جهولاً، وخلق خطاءً، ولولا رحمة الله ما بقيت لنا نعمة:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّة» قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» متفق عليه (1).

إن الذين يبذلون أقصى جهدهم في طاعة الله لا يصلون إلى مرتبة الكمال، وحسبهم أن يقاربوا، فالكمال لله وحده، والإنسان ظلوم كفار، وإن عمل فهو خطاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (2).

والشيطان يريد ويحاول أن يقعد بالإنسان عن الصراط المستقيم، وأن يمنعه من طاعة الله، والنفس تأمره بالسوء.

ولذلك كان لا بدَّ من باب الرحمة يدخل منه البشر إلى الله سبحانه، وأن يكون الباب مفتوحاً على مدى الزمن يهرع إليه كل عبد، وكل عاص، وكل تائب.

وكم من الكفار والعصاة الذين فتح الله لهم باب رحمته فتابوا إلى الله، فقبل توبتهم، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أئمة هذا الدين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5673)، ومسلم برقم (2816)، واللفظ له.

(2)

حسن: أخرجه الترمذي برقم (2499)، صحيح سنن الترمذي رقم (2029).

وأخرجه ابن ماجه برقم (4251)، وهذا لفظه، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3428).

ص: 1877

شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} [غافر: 7].

والله تبارك وتعالى خلق الخلق لعبادته وذكره، ومعرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بذلك، فمن أطاع فهو من المفلحين، ومن عصى فهو من الخاسرين.

قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].

وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42].

وذكر الله ليس باللسان فقط، إنما هو شعور بجلال الله ورقابته، والتأثر بهذا الشعور تأثراً ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى، وإلى رؤية الله وحده يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويكرم ويهين، فمن وهبه الله هذا ذاق حلاوة الإيمان، وتلذذ بذكر ربه.

والشكر لله درجات تبدأ بالاعتراف بفضله، والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان، وفي كل خفقة قلب، وفي كل خطرة جفان.

ومن قصر في الذكر والشكر انتهى به ذلك إلى الكفر والعياذ بالله.

ولقد ذكر المسلمون الأوائل ربهم وشكروه فذكرهم ورفع ذكرهم، ومكنهم من القيادة الراشدة، ثم نسوه فإذا هم همل ضائع، وذيل تافه، لا ذكر لهم في الأرض، ولا في الملأ الأعلى، ولا عند المولى، ومن ذكر الله ذكره، والوسيلة قائمة:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].

ولكي يؤثر ذكر الله في القلب لا بدَّ عند الذكر من ثلاثة أشياء:

أحدها: فراغ القلب من كل شيء سوى الله، كما قال سبحانه:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8].

الثاني: التبتل وهو الانقطاع إلى الله، والانفصال بالقلب عن الخلائق كما قال سبحانه:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} [المزمل: 8].

ص: 1878

الثالث: التدبر لما يقول، فإذا قال: سبحان الله، قال: يا الله أنت بريء من كل عيب، وأنا مليء بكل عيب، وإذا قال: الحمد لله، قال أنت العظيم الكريم فلك كل حمد، وأنا لا أستحق الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله، قال: أنت معبودي وإلهي وأنا لا أمشي على هواي، وإذا قال: الله أكبر قال: أنت الكبير الذي له الكبرياء في السموات والأرض، وكل ما سواك مخلوق صغير.

فبالتدبر يدخل كل هذا في القلب، ويؤثر فيه أعظم من تأثير الطعام في البدن، وبذلك يحصل على كمال الإيمان واليقين والتقوى.

فالعبادات والصلوات والأذكار كلها تذكر العبد بربه .. فيزيد إيمانه .. ويحرص على طاعته .. ويجتنب معصيته .. ويرجو رحمته .. ويخاف عذابه .. ويشكره على نعمه .. ويستحي أن يراه على معصيته.

ولذلك أمرنا الله بكثرة ذكره وتسبيحه في كل حين كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42].

ص: 1879