المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌11 - فقه الاستقامة

‌11 - فقه الاستقامة

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

وقال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112].

الاستقامة: أن يعبد المؤمن ربه وحده لا شريك له، ويستقيم على الأمر والنهي، فيعمل بطاعته، ويجتنب معصيته، ويؤدي فرائضه.

والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد في النيات والأقوال والأعمال، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عن ذلك فالتفريط والإضاعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ أدْوَمُهَا إِلَى الله وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (1).

فأمرهم بالاستقامة ثم بين أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة.

فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.

والاستقامة تتعلق بالنيات والأقوال والأعمال والأحوال، والاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.

والاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح مات، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (6464)، واللفظ له، ومسلم برقم (782).

ص: 1817

وتحصل الاستقامة بثلاثة أشياء:

الأول: تحقيق (لا إله إلا الله) في قلب العبد.

فيتيقن أن الخالق الرازق المالك المتصرف في الكون كله هو الله وحده لا شريك له، فيتوجه إليه وحده في جميع أحواله.

الثاني: تحقيق شهادة (أن محمداً رسول الله) بأن يعلم أن الوصول إلى الله عن طريق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيؤثر حياته على حياة الشهوة والهوى واللعب واللهو.

الثالث: أن يعيش حياته بالإيمان والأعمال الصالحة كأنه عابر سبيل ومسافر من هذه الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري (1).

وهذه الأمة لها مقصد وهو العبادة .. ولها وظيفة وهي الدعوة إلى الله، وكلما تجاوز الإنسان مقصده، وترك وظيفته أصيب بآفتين:

الأولى: الإحساس بالتعب كما قال سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62].

الثانية: مرافقة الشيطان له، فإذا غفل عن الرحمن وأعرض عنه، رافقه الشيطان يزين له المعاصي والمنكرات، والقبائح والكبائر ويؤزه إليها كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف: 36، 37].

وهذه الأمة الآن في كثير من البلاد قد تجاوزت مقصد حياتها، وتركت وظيفتها، وظلمت نفسها، وظلمت غيرها، واستقلت المراكب لعمارة الدنيا فماذا حصل؟.

عامة بلاد الإسلام في شقاء وتعب .. وذل وهوان.

(1) أخرجه البخاري برقم (6416).

ص: 1818

ملوكها وأمراؤها .. تجارها وفقراؤها .. رجالها ونساؤها .. أبناؤها وبناتها ..

إن الأمة الأسلامية في أغلب ديار الإسلام قد تجاوزت مقصد حياتها، وسافرت إلى الدنيا، فهي الآن عليلة تشكو من كل شيء في أخلاقها ومعاشراتها، في معاملاتها وكسبها، في بيوتها وأسواقها.

لأنها تجاوزت مقصد حياتها فرافقها الشيطان في جميع أحوالها، لا يبيع الإنسان ويشتري إلا والشيطان معه، ولا يأكل ولا يشرب إلا والشيطان معه، ولا يلبس إلا والشيطان معه، ولا ينفق إلا والشيطان معه، ولا يقوم ولا يقعد ولا يمشي إلا والشيطان معه.

ولا صلاح للبشرية إلا بأن ترجع الأمة الإسلامية إلى مقصدها ووظيفتها، بعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى الله.

فموسى صلى الله عليه وسلم لما جاوز مقصده قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62].

فأحس موسى بالتعب لما جاوز مقصده، ولا يتخلص من هذا التعب، ولا يسلم من الشيطان إلا بالرجوع إلى مقصده {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} [الكهف: 64، 65].

فلما رجعا ظفرا بالخير ونالا مرادهما.

وقد منَّ الله على هذه الأمة، وطلب منها أن تستقيم في جميع أمورها، وأن تعيش كما عاش الأنبياء والمرسلون؛ لأنها قدوة البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

ولكن أكثر الأمة ترك مقصد حياته.

فصار كثير من المسلمين اليوم يعيشون عيشة اليهود والنصارى في أفكارهم وأعمالهم، وفي كسبهم ومعاملاتهم، وفي سائر شعب حياتهم في الدنيا يرافقون ويشاركون اليهود والنصارى والشياطين في طريقة حياتهم، وفي الآخرة يريدون

ص: 1819

مرافقة الأنبياء والمرسلين في الجنة، وهذا ليس من سنة الله، بل سنة الله معلومة لا تتبدل:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء: 69، 70].

فالأمة إذا تركت الحق حركها الشيطان بالباطل .. وإذا لم تقتدِ بالأنبياء والمرسلين ابتليت بالاقتداء بأحفاد القردة والخنازير والشياطين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قال:«فَمَنْ» متفق عليه (1).

وحسب أعمال البشر يرسل الله تبارك وتعالى الأحوال على العباد.

فمن كانت أعماله طيبة نزلت عليه من الله أحوال طيبة، ومن كانت أعماله سيئة نزلت عليه أحوال سيئة كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} [الأعراف: 96].

فإذا كانت الأعمال التي تصدر من الجسد موافقة لأوامر الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أعمال صالحة.

فالعين إذا رأت حسب أمر الله .. والأذن إذا سمعت حسب أمر الله .. واللسان إذا تكلم حسب أمر الله .. والبدن عَبَدَ الله حسب أمر الله، فهذه أعمال صالحة تسعد الإنسان في دنياه وآخرته.

والإنسان آلة الأعمال، فهو إما أن يتحرك بطاعة أو يتحرك بمعصية فهو يومياً ينتج أعمالاً كثيرة.

والملائكة كل يوم يتعاقبون على البشر، ويصعدون بسجلات الأعمال إلى ربهم، ويعرضونها أمام الله، ثم يرسل آخرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3456)، واللفظ له، ومسلم برقم (2669).

ص: 1820

مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه (1).

فسبحان من أحصى كل شيء عدداً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

ثم الله عز وجل ينزل الأحوال حسب الأعمال خيراً كانت أو شراً: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10].

ولله على كل قلب هجرتان:

الأولى: هجرة إلى الله بالتوحيد والإيمان .. والإخلاص والتقوى .. والإنابة والمحبة .. والخوف والرجاء .. والتوكل والاستعانة .. وعدم الالتفات إلى ما سواه.

الثانية: هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له، والتسليم والانقياد لحكمه، وتلقي الأحكام من مشكاته.

فمن قام بهذه الهجرة فهو من أسعد الناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

وأصول الدين الإسلامي ثلاثة:

الإيمان .. والأحكام .. والأخلاق.

فالإيمان: هو اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (555)، ومسلم برقم (632) واللفظ له.

ص: 1821

أما الأحكام: فهي ما شرعه الله لعباده من الأعمال والأوامر التي يسيرون عليها، والمراد بها الأعمال الظاهرة التي تقوم بها الجوارح كالعبادات والمعاملات.

والشريعة لا تنفك عن العقيدة، ولا يتم قبول العمل إلا بهما جميعاً.

والعقيدة لن تثمر والشريعة لن تؤثر في حياة الإنسان إلا حين يتحلى الإنسان بصفة الإحسان في كل شيء.

فالإحسان أعظم الأخلاق وأعلاها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فيجب على العبد أن يحسن المعاملة مع ربه، ومع الناس، وأن يحسن في عبادته كلها، وأن يحسن في جميع أموره كما أمر الله ورسوله.

والاستقامة: ثمرة الإيمان، وبها يحصل كمال التقوى، وكمال العمل.

وكمال العمل يحصل بتطبيق حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والقيام بجهد محمد صلى الله عليه وسلم، -العبادة والدعوة إلى الله-.

والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

وعند الفتن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام اعتزلهم.

لكن ينبغي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله أبداً، ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، والاستغناء عن الناس، وعدم الإصغاء إلى أراجيف البلد، والقناعة باليسير من المعيشة، وتذكر الموت.

والعزلة والخلطة تختلف بحسب الأحوال والأشخاص، لكن في الأصل الخلطة أفضل.

ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله عز وجل ..

ص: 1822

مستغرق اللسان بذكره .. مستغرق الأعضاء والجوارح بعبودية الله.

فإذا كان كذلك أحبه الله ثم أنزل له القبول والمحبة في الأرض، فصارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96].

وكما أن النفس تحب تكميل الشهوات، فكذلك الله عز وجل يحب تكميل الأوامر التي هي الدين، وهي:

الإيمان .. والعبادات .. والمعاملات .. والمعاشرات .. والأخلاق.

فالإيمان: أساس كل شيء.

والعبادات: تنظم علاقة العبد مع ربه سبحانه، وتقوي إيمانه، ليكون ذاكراً لربه حامداً له.

والمعاملات والمعاشرات والأخلاق تنظم علاقة العبد مع العباد، ليكون الجميع كالجسد الواحد.

وعلى من يطلب الاستقامة أن يحفظ نفسه من أربعة أشياء:

اللحظات .. والخطرات .. واللفظات .. والخطوات.

ومن حفظ نفسه من هذه الأربعة فقد أحرز دينه، وحفظ استعمالها كما أمر الله سبحانه.

وإذا أهملها العبد وغفل عنها دخل منها العدو فجاس خلال الديار وأهلك الحرث والنسل، وأفسد الظاهر والباطن.

وكلما كان إيمان العبد أقوى، وعبادته أحسن، كانت معاملاته ومعاشراته وأخلاقه أفضل وأحسن.

وبمقدار ما يكون العبد محبوباً عند الله، يكون محبوباً عند أهل السماء وعند أهل الأرض.

وكل من ضحى بشهواته من أجل الدين أعطاه الله امتثال أوامره في جميع الأحوال على وجه الكمال.

ص: 1823

والله تبارك وتعالى أوجب على كل مسلم من هذه الأمة العبادة والدعوة.

وكما يسأل الإنسان عن حياته، فكذلك سيسأل عن مسئوليته.

وجميع المسلمين يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم يكرهون حياته.

وكل المسلمين يكرهون اليهود والنصارى، وأكثرهم يحبون حياتهم.

وبعض المسلمين يحبون حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يريدون ولا يطيقون ولا يرغبون في جهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وتمام الاستقامة بتطبيق حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والقيام بجهد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21].

وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].

وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم عنده محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عنده إيمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو في النار.

والمنافقون عندهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عندهم دين النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهم في النار، فشرط الصحبة القيام بالدين.

والإنسان يقضي حاجاته الدنيوية بالأسباب، وكذلك الله يدخلنا الجنة بالأسباب والأعمال، وهي الإيمان والعبادات والأخلاق والأعمال الصالحة فهذه أسباب.

فللدنيا أسباب .. وللآخرة أسباب .. وللجنة أسباب .. وللنار أسباب.

والله عز وجل أمر عباده أن يقوموا بجهد أوامر الله في مجال العبادة، وفي مجال الدعوة وفي مجال التعليم .. وهكذا.

كما أمرهم أن يقوموا بجهد الكسب وأسبابه، فكلمة الزراعة لها جهد ولها أوامر .. وكلمة التجارة لها جهد ولها أوامر .. وكلمة الصناعة لها جهد ولها أوامر .. وهكذا، والكل عبادة.

وكذلك كلمة الإيمان لها جهد ولها أوامر .. وكلمة الوضوء لها جهد ولها

ص: 1824

أوامر .. وكلمة الصلاة لها جهد ولها أوامر، وكلمة الرزق لها جهد ولها أوامر .. وهكذا، والكل عبادة.

فحتى يأتي الإيمان لا بدَّ من الجهد، وحتى تأتي الهداية لا بدَّ من الجهد كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].

وحتى يأتي الرزق لا بدَّ من الجهد، والأرزاق بيد الله، ولكن الله جعل لها أسباباً تنال بواسطتها كالتجارة والزراعة ونحوهما، وهذه لعموم البشر، وللمؤمنين باب آخر يحصلون منه على أرزاقهم، وهو باب الإيمان والتقوى كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وعلى قدر الإيمان تكون الطاعة، وعلى قدر الطاعة تكون الهداية.

وإذا قام الجهد للدين انتشرت الرحمة في العالم، وعمت الفضيلة، وإذا فقد الدين جاءت المصائب في العالم، وعمت الرذيلة، كالمطر إذا جاء نفع الجميع، وإذا انقطع صار مشكلة على الجميع.

فالاستقامة: لزوم طاعة الله واجتناب معصيته في جميع الأحوال.

والناس عامة رؤوسهم ثلاثة:

العلماء .. والعبَّاد .. والأغنياء.

وإذا صلحت أحوال هؤلاء صلحت أحوال الناس، وإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34].

ثم قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34].

ص: 1825

والاستقامة على ثلاث درجات:

الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، وذلك ببذل المجهود وأداء العمل بإخلاص وفق السنة.

والاقتصاد في العمل هو السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإفراط جور على النفوس، والتفريط إضاعة الأمور.

فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية إلى البدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام به.

وإن رأى فيه حرصاً على السنة وشدة طلب لها أمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها.

وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة، وكل الخير في اجتهاد في اقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع.

الدرجة الثانية: استقامة الأحوال، بشهود تفرد الرب بالأفعال وتفرده بالوجود، وتفرده بالإيجاد، وما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، ويستيقظ من غفلته، ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه، فليس سبب بقائه في قدر اليقظة بحفظه؛ بل بحفظ الله له.

الثالثة: الاستقامة بترك رؤية الاستقامة، وأنها حصلت بتوفيق الله، فالله هو الذي أقامه ورزقه الاستقامة، لا بنفسه ولا بطلبه، فذكره لهذا يغيب به عن استشعار طلبه لها.

والاستقامة كلمة جامعة، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والطاعة والوفاء بالعهد.

ص: 1826

واستقامة الأمة المسلمة تقوم على أمرين:

الأول: الإيمان والتقوى، التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل، التقوى الدائمة المستمرة حتى يبلغ الكتاب أجله كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].

الثاني: الأخوة في الله على منهج الله، والتعاون لتحقيق منهج الله، بالاعتصام بحبل الله، لا بأي حبل من حبال الجاهلية الكثيرة كما قال سبحانه:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103].

وبهذين الأمرين تحقق الأمة وجودها، وتؤدي دورها وفق مراد ربها، وبدون ذلك يكون تجمعها جاهلياً يمزق الأمة، ويفسد الأخلاق، ويعبث في حياة الأمة بلا منازع.

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد، يملك السلطان على القلوب والأبدان، ويملك السلطان على الظواهر والبواطن، ويملك السلطان على الحركة والسلوك.

ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الآخرة، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.

وإنما تشقى البشرية وتفسد حياتها وتضطرب أحوالها حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي.

حين تكون السلطة لله في القلوب والشعائر، بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع.

حين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة، بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا. وبمثل هذا تفسد الحياة، وتتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، فيحصل التصادم بين أوامر الله، وأهواء البشر.

ص: 1827

ويحصل لمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة كما قال سبحانه:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].

ومن أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، سواء كان هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها. فقد جاء ومعه شريعة معينة تحكم واقع الحياة، إلى جانب عقيدة تنشئ التصور الصحيح بالإيمان بالله، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله، والتي تذكره بربه فيقبل على طاعته ويحذر معصيته.

وهذه الجوانب الثلاثة قوام دين الله حيثما جاء دين من عند الله.

والحياة البشرية لا يمكن أن تصلح وتستقيم، حتى يكون دين الله هو منهج الحياة كلها.

والحكم بما أنزل الله وإقامة الحياة وفق شريعة الله سيواجه في كل زمان ومكان معارضة من بعض الناس، ولن تقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام.

وهذه سنة الله، فالحق له أهل وأنصار، والباطل له أهل وأنصار ستواجه الحق وأهله معارضة الكبراء والطغام والسلاطين.

وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت.

وستقاومه سهام ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال؛ ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها، وسيأخذهم بالعقوبة عليها، وسيجعل الناس أمام دين الله سواء.

وستواجهه أفراد وأمم ومذاهب حسداً من عند أنفسهم.

وستقاومه وتقف له الجموع المضللة أو المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل

ص: 1828

أحكام شريعة الله وتشغب عليها.

فعلى أهله الذين كلفوا بالاستقامة عليه والمحافظة عليه، وكلفوا أن يكونوا شهداء عليه أن يؤدوا الشهادة له في أنفسهم بالاستقامة عليه، والثبات عليه، وبذل النفوس من أجله.

وقد علم سبحانه أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات، فلا بدَّ من مواجهة هذه المقاومة والصمود لها، واحتمال تكاليفها في النفس والمال كما قال سبحانه:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44].

فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله، ولا تقف خشيتهم لهؤلاء وغيرهم دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة.

فالله وحده هو الذي يستحق أن يخشوه ويخافوه.

وقد علم سبحانه أن بعض المستحفظين على كتاب الله قد تراودهم أطماع الدنيا وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله ورسوله، فيتملقون شهوات هؤلاء جميعاً طمعاً في عرض الحياة الدنيا كما يقع من علماء السوء المحترفين في كل زمان ومكان، فالله ينادي هؤلاء بقوله:{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44].

وذلك لقاء السكوت .. أو لقاء التحريف .. أو لقاء الفتاوى المدخولة، وكل ما أخذوه -ولو كان ملك الدنيا- فهو قليل يباع به الدين، وتشترى به جهنم عن يقين.

فما أشنع خيانة المستأمن .. وما أبشع تفريط المستحفظ.

وما أخس تدليس المستشهد .. وما أخطر الحكم بغير ما أنزل الله .. وما أشد تحريف الكلم عن مواضعه؛ لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله

ص: 1829

سبحانه.

فما أخسر هؤلاء؟ .. وما أشد حسابهم؟ .. وما أعظم جرمهم؟.

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44].

إن كيد الأعداء للمسلمين عجيب، وأعجب منه غفلة المسلمين عن هذا الكيد قروناً طويلة، وأعجب من هذا وذاك وجود العلاج بين أيديهم، وهم لا يفقهونه، ولا يعرفونه، ولا يستخدمونه.

ومن هذا الكيد اللئيم:

هذه الدراسات والبحوث الفقهية غير المطبقة في الحياة، إنها دراسة للتلهية، لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في الأرض التي تدرسه في معاهدها ومساجدها وهي لا تطبقه في واقع حياتها، وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ليخدر مشاعر الأمة بهذا الإيهام والتضليل، وإضاعة الأوقات في بحوث باردة لا تحرك ساكناً ولا تقيم معوجاً.

إن هذا الدين جد وحق، جاء ليحكم الحياة في النفس والمجتمع، في المسجد والبيت والسوق، وفي كل مكان وزمان.

جاء ليعبد الناس الله وحده، ويرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه.

جاء هذا الدين العظيم الكامل الشامل ليحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية.

ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار، ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة، ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء.

وبمثل هذا انحدر كثير من المسلمين في القاع، وبدلوا نعمة الله كفراً، وارتدوا على أعقابهم من بعد ما تبين لهم الهدى، وركبوا مركباً آخر، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول، أو مغتر كفور: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ

ص: 1830

أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].

إن هذا الدين الذي أكرم الله به هذه الأمة ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترفه الذهني، والتكاثر بالعلم والمعرفة.

وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، بل إنما هو مع ذلك حركة لتغيير منهج الناس في الحياة ليكون على مراد الله لا على مراد غيره كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)} [الأنفال: 39، 40].

والاستقامة مبنية على شيئين:

أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها، والاسترسال معها.

الثاني: صدق التأهب للقاء الله عز وجل.

فأصل الفساد كله يجيء من قبل الخواطر؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب.

فإذا تمكن بذرها في القلب تعهدها الشيطان بالسقي مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال المهلكة.

ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فالخواطر كالشرارة يسهل إطفاؤها، والإرادات والعزائم كالنار المشتعلة.

ولحفظ الخواطر أسباب عدة:

أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه عليك، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفاصيل خواطرك.

الثاني: حياؤك منه.

الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته

ص: 1831

ومحبته وعبادته.

الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.

الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.

السادس: خشيتك أن يستعير شرر تلك الخواطر فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله.

السابع: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به.

الثامن: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان، ودواعي المحبة في قلب المؤمن؛ لأنها ضدها من كل وجه.

التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته.

العاشر: أن تلك الخواطر الرديئة هي وادي الحمقى، وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، أما الخواطر الإيمانية فهي أصل الخير كله، فإذا بذر في القلب بذر الإيمان، والخشية، والمحبة، والإنابة، أثمرت كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات.

وحفظ الخواطر نافع لصاحبه بشرطين:

أحدها: أن لا يترك به واجباً ولا سنة.

الثاني: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر الرديئة، ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بدَّ من الانتباه لهذا.

أما صدق التأهب للقاء الله فهو من أنفع ما للعبد، وأبلغه في حصول استقامته.

فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها وعن مطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى

ص: 1832

محبته، وعلى إيثار مرضاته.

واستحدث همة أخرى وعلوماً أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه.

فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة.

فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة، كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار.

وأكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة ولا تصوروها، فضلاً عن أن يصدقوا بها، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، وإلا كما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.

وإذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.

وكل إنسان في العالم هالك وخاسر إلا من قضى حياته في أمرين:

إصلاح نفسه .. وإصلاح غيره.

فإصلاح النفس تزكيتها وتربيتها حتى تستقيم على أوامر الله.

وإصلاح الغير دعوة الناس إلى الحق والصبر على ذلك كما قال سبحانه:

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].

والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وهو العدل الذي يجمع الحكمة والعفة والشجاعة، فالله عز وجل لما أسكن الروح في البدن المعرض للمهالك أودع فيه ثلاث قوى:

القوة الشهوانية البهيمية الجالبة للمنافع .. والقوة الغضبية السبعية الدافعة للمضار .. والقوة العقلية الملكية المميزة بين النافع والضار.

والله بحكمته لم يحدد تلك القوى.

فيحصل فيها إما الزيادة، أو النقصان، أو العدل -وهو الوسط-.

فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة .. وإفراطها التدقيق في سفاسف الأمور ..

ص: 1833

ووسطها الحكمة.

وتفريط القوة الشهوانية الخمود وعدم الاشتياق إلى شيء، وإفراطها الفجور، بأن يشتهي ما صادف، حَلّ أو حَرُم، ووسطها العفة، بأن يرغب في الحلال، ويهرب من الحرام.

وتفريط القوة الغضبية الجبن والخوف مما لا يخاف منه، وإفراطها التهور .. ووسطها الشجاعة لإعلاء كلمة الله.

فالأطراف الستة ظلم .. والأوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم.

وقد أرسل الله الأنبياء بالدين الذي جاء بتنظيم وتحسين حياة الناس عامة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق.

فمن استقام على ذلك أسعده الله في الدنيا والآخرة.

ومن انحرف عن ذلك شقي في الدنيا والآخرة.

أما من يصلي على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ويبيع ويشتري على طريقة اليهود .. ويتزوج ويلبس على طريقة النصارى .. ويأكل ويشرب على طريقة المجوس، فهذا الخلط مردود غير مقبول، ولمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].

وقد أمر الله عز وجل بعبادته وطاعته، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة للبشرية إلى يوم القيامة.

فمن آمن به وأطاعه واقتدى به سعد في الدنيا والآخرة.

ومن عصاه واقتدى بمن خالفه شقي في الدنيا والآخرة.

وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أول الناس إيماناً به، وأحسنهم اقتداء به، وأعظمهم نصرة له؛ لأزموه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل إليه.

ص: 1834

فكانت لياليهم كليل النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة وذكر، ودعاء وبكاء لهداية الأمة.

ونهارهم نهار النبي صلى الله عليه وسلم: دعوة الناس إلى الله، وغشيانهم في مجالسهم، وتلاوة القرآن عليهم، وتعليمهم أحكام الدين، ومواساتهم بما يسرهم.

وظاهرهم ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم: مزين بالسنن في جميع الأحوال، وباطنهم باطن النبي صلى الله عليه وسلم: مزين ومعمور بالإيمان والتقوى، واليقين وتعظيم الله، وخشيته ومحبته.

وقلوبهم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم: شفقة ورحمة للناس، وتواضع لهم، ورغبة في هدايتهم وصلاحهم، وصبر على أذاهم.

وأموالهم أنفقوها في سبيل الله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وإكراماً لأضياف الإسلام، ومواساة للفقراء والمساكين وما تحتاجه النفس، وما يلزم للأهل والأولاد.

فهم أول الناس إسلاماً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقربهم اقتداء بسيد المرسلين:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].

والله عز وجل خلقنا .. وهدانا .. واشترانا .. وشرفنا .. وكرمنا .. واجتبانا .. وحملنا ثلاث مسؤوليات كبرى وهي:

تعلم الدين .. والعمل بالدين .. والدعوة إلى الدين.

وهذه واجبة على كل أحد بحسب استطاعته.

وكل فساد في العالم سببه نسيان هذه المسؤوليات الثلاث، أو التقصير فيها، حتى صار الناس كالأنعام؛ بل أضل، يعيشون كيف شاءوا لا كما يشاء الله تعالى ويحب ويريد:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].

ص: 1835

وإذا قام الإنسان بهذه المسؤوليات الثلاث صار أفضل الناس، يتعلم كيف يعبد الله، ويدعو إلى عبادة الله.

وإذا كانت أحوال الأسرة داخل البيت الزوج يعيش كيف شاء، والزوجة تعيش كيف تشاء، والولد يعيش كيف شاء، والبنت تعيش كيف تشاء، فهذا البيت لا يسمى بيت الإنسان، بل بيت الحيوان.

وكم البيوت في العالم الآن تعيش بهذا الترتيب كما تشاء، لا كما يشاء الله تبارك وتعالى ويحب.

وهكذا هذه الدنيا جعلها الله بيتاً للإنسان، فكم يكون الفساد في العالم بسبب خراب هذا البيت الكبير؟.

ولهذا بعث الله الأنبياء والرسل لإصلاح أحوال سكان هذا البيت الكبير بالإيمان بالله، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه.

وحياة الناس في الجاهلية فاسدة ومضطربة بسبب تعطيل هذه المسئوليات الثلاث.

فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالدين من عند الله أفهمهم مسئوليتهم، فعاشوا بترتيب الإنسان، وتركوا حياة الحيوان والشيطان.

ونقلهم بأمر الله وبدين الله من شر القرون إلى خير القرون:

نقلهم من الشرك إلى التوحيد .. ومن الكفر إلى الإيمان .. ومن الجهل إلى العلم .. ومن الظلم إلى العدل .. ومن القسوة إلى الرحمة.

فكانوا أحسن الناس استقامة كما قال الله عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران: 110].

فعلينا القيام بأداء هذه المسؤوليات لتصلح أحوال هذا البيت الكبير ومن فيه، وتنكشف عنه الغموم والهموم، وتزول عنه الأسقام والآلام كما أمر الله سبحانه

ص: 1836

بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} [آل عمران: 104].

والشيطان لما كفر واستكبر وترك مسئوليته صار أكبر مضل ومفسد في العالم، فاستحق الطرد والإبعاد واللعنة والعذاب الأليم.

فكل من ترك مسئوليته من البشر صار من أتباع الشيطان .. يتعلم الضلال .. ويعمل بالضلال .. ويدعو إلى الضلال والنار. كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].

والعقل حين ينعزل عن منهج الله بعيداً عن الوحي فإنه حينئذ يتعرض للضلال والإنحراف وسوء الرؤية وفساد العمل.

فيرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، ويدمر أجهزة إنسانية كريمة.

ولو اتبع الوحي الإلهي لكفى البشر هذا الشر كله، وجعل التجارب والتقلبات في الأشياء والآلات، وهي مجاله الطبيعي، والخسارة في النهاية مواد وأشياء لها أنفس وأرواح.

فالعقل وحده قاصر يتقلب ويضطرب تحت ضغط الشهوات والأهواء، فلا بدَّ له من ضابط آخر يضبطه ويحرسه ويرجع إليه وهو الوحي.

فالعقل يضل .. والفطرة وحدها تنحرف .. ولا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي .. فهو النور الذي يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 153].

والدين يأتي في حياتنا بقدر التضحية من أجله بالأنفس والأموال، والشهوات والأوقات، والأوطان.

فنضحي بالدنيا من أجل الدين .. وبالشهوات من أجل الأعمال .. والله يرضى عنا بقدر قوة الدين في حياتنا.

ص: 1837

وإذا فكرنا في الموت والآخرة، وتذكرنا نعيم الجنة وعذاب الآخرة، سهل علينا التضحية بالدنيا، وامتثال أوامر الله وتقديمها على ما سواها.

وطالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين:

الأول: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه بذكر الله وطاعته، وفعل الواجبات والمندوبات التي يحبها الله.

الثاني: حبس قلبه عن الالتفات إلى غيره، كحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات بترك المحرمات والمكروهات.

وكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وهو المؤمن، أو سائر إلى الحبس وهو الكافر:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].

وقد ربى الله بالقرآن الكريم وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم جيلاً كريماً مستقيماً رضي الله عنه ورضوا عنه، فهم قدوة البشرية إلى يوم القيامة.

إنهم خير القرون، وخير جيل عرفته الأرض، إنه عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.

عالم عالي الصفات .. نقي القلب .. طيب المشاعر .. عف اللسان .. عف السريرة .. له أدب مع الله .. وأدب مع رسول الله .. وأدب مع نفسه .. وأدب مع غيره .. أدب في هواجس قلبه .. وفي حركات جوارحه .. له شرائعه المنظمة لأوضاعه .. وله أحكام تضبط استقراره .. وتكفل صيانته.

إنه عالم كريم له أدب مع الله، ومع رسول الله، يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، وأمام الرسول الذي يبلغ عن الرب، فلا يسبق المؤمن إلهه في أمر ولا نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم، ولا يتجاوز ما يأمر به، وما ينهى عنه، ولا يجعل لنفسه إرادة، أو رأياً مع خالقه تقوى منه وخشية، وحياءً وأدباً.

ص: 1838

فلا يقول في أمر قبل قول الله وقول رسوله فيه.

وذلك أدب نفسي مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع والعمل.

وهو منبثق من تقوى الله، النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم، وكذلك أدب المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم.

فلا يقترح منهم مقترح على الله ورسوله .. ولا يدلي منهم أحد برأي لم يطلب منه أن يدلي به .. ولا يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول رسوله.

حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عما يعلمونه قطعاً في حجة الوداع، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم، خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وهو ما نهى الله عنه بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1].

وعن نفيع بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوم النحر فقال: «أتدرون أيَّ يَوْمٍ هَذَا» . قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، فقَالَ:«ألَيْسَ بِيَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قَال:«فأي شهر هذا؟» قلنا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قال:«أَلَيْسَ بِذي الحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ! قَال: «فَأَيُّ بَلدٍ هذا؟» قُلنا: اللهُ ورَسولُهُ أَعلمُ، قال: حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ، قَال:«أَلَيْسَ بالبلدَةِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قالَ: «فَإنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأمْوَالَكُمْ وَأعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هذا، فَلِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» متفق عليه (1).

ولهذا الجيل الطيب الطاهر السامق أدب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب، وتوقيرهم له في قلوبهم توقير ينعكس على أصواتهم ويميز شخص رسول الله

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (67)، ومسلم برقم (1679)، واللفظ له.

ص: 1839

بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله جل جلاله يدعوهم إلى ذلك الأدب بهذا النداء الحبيب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2].

وكانوا يوقرون النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعاهم إلى الإيمان، وتلا عليهم القرآن، وجمعهم على الهدى، فكانوا معه في غاية الأدب خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون.

وقد نوه الله بتقواهم وغضهم أصواتهم عند رسول الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3].

وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل عالم، لا يزعجونه حتى يخرج إليهم، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم.

فالنداء الأول لتقرير جهة القيادة ومصدر التلقي.

والنداء الثاني لتقرير ما ينبغي من أدب للقيادة وتوقير.

وهذا وذاك هما الأساس لكافة التوجيهات والتشريعات، فلا بدَّ من وضوح المصدر الذي يتلقى عنه المؤمنون، ومن تقرير مكان القيادة وتوقيرها لتصبح للتوجيهات بعد ذلك قيمتها ووزنها وطاعتها. أما النداء الثالث فهو يبين للمؤمنين كيف يتلقون الأنباء؟ وكيف يتصرفون بها؟ ويقرر ضرورة التثبت من مصدرها كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6].

فلا بدَّ من التثبت من خبر الفاسق.

أما المؤمن الصالح فيؤخذ بخبره؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة، أما الشك في جميع المصادر، وفي جميع الأخبار فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة.

ص: 1840

فعلى من أراد الاستقامة:

أن يدخلوا في السلم كافة .. وأن يتركوا أمرهم لله ورسوله .. ويستسلموا لقدر الله وتدبيره .. ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه .. ويشكروا ربهم على نعمة الإيمان الذي هداهم إليه .. وحرك قلوبهم لحبه .. وكشف لهم عن جماله وفضله .. وعلق أرواحهم به .. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان .. وهذا كله من رحمة الله وفيضه.

فهو الذي أراد بهم هذا الخير .. وخلص قلوبهم من ذلك الشر .. وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة.

وليطمئنوا إلى قضاء الله وتدبيره، فالله يختار لهم الخير، ورسول الله يأخذ بأيديهم إلى هذا الخير:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} [الحجرات: 7، 8].

والاستقامة هي الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وذلك في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، ليكون على منهج الله وفق أمر الله، وهذا ما أمر الله به رسوله ومن تاب معه بقوله:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود: 112].

ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن القصور والتقصير، بل بالنهي عن الطغيان والمجاوزة.

وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه من يقظة القلب قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله،

ص: 1841

ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته، والله مطلع على القلوب والأعمال.

ولا يجوز لأهل الإيمان والاستقامة أن يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين، والطغاة المفسدين، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)} [هود: 113].

فركون المؤمنين إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الأكبر، وجزاء هذا الانحراف أن تمسهم النار، وليس لهم من الله والٍ ولا ناصر.

والاستقامة على الطريق في فترات الشدة وتكالب الأعداء أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين.

والله يرشد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين إلى زاد الطريق بقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114].

وهذا الزاد هو الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف.

ذلك أنه يصل القلوب المؤمنة بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية.

والاستقامة في حاجة إلى الصبر، كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر.

فالاستقامة إحسان .. وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان .. والصبر على كيد المكذبين إحسان .. والله لا يضيع أجر المحسنين {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)} [هود: 115].

ص: 1842

وأهل الاستقامة هم الذين استقاموا على أن الله ربهم وحده .. واستقاموا على طاعته وأداء فرائضه .. واستقاموا على إخلاص الدين والعمل إلى الموت .. واستقاموا في أقوالهم وأفعالهم .. واستقاموا في سرهم وجهرهم كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومهابته استقامت الجوارح كلها على طاعته.

ص: 1843