الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - فقه حمل الأمانة
قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].
إن السموات والأرض والجبال، من المخلوقات العظيمة التي يبدو الإنسان أمامها شيئاً صغيراً ضئيلاً، هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى من يحكمها ويدبرها، وتطيع أمر الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة.
وتجري في تنفيذ أوامر خالقها دائبة منقادة.
فهذه الشمس تدور في فلكها، وترسل أشعتها، وتجري لمستقر لها، وتؤدي وظيفتها التي قدر الله لها بلا إرادة منها.
وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها، ولا كد ولا محاولة.
وهذه السماء المرفوعة بما فيها من العجائب والمخلوقات الهائلة.
وهذه الأرض بما فيها من الآيات والعبر، تخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها، وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا الماء الجاري .. وهذه النباتات المختلفة .. وهذه الأشجار المثمرة .. وهذه الجبال العالية .. وهذه البحار الواسعة .. وهذه السهول .. وهذه الوهاد .. وهذه البطاح .. كلها تؤدي دورها .. وتقوم بوظيفتها طائعة منقادة بإذن بارئها .. خاشعة لربها .. تنفذ أمره بلا إرادة منها.
هذه المخلوقات العظيمة في العالم العلوي، وفي العالم السفلي، كلها أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.
وحملها الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى بارئه بتدبره وبصره، ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته كما قال سبحانه:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
حقاً إنها أمانة عظيمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الظلوم الجهول، الكفور العجول، الذي تحيط به المغريات، وتناوشه الشهوات، وتستبد به النزغات والميول والأطماع، وإنها لتبعة ثقيلة جسيمة.
وبسبب ظلمه لنفسه .. وجهله بطاقته .. زج نفسه لحملها.
وإنه لمقام عال كريم حين ينهض الإنسان بالتبعة، ويصل إلى معرفة بارئه، والاهتداء المباشر إلى ربه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، كالمخلوقات الأخرى، التي تعرف ربها مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا يحول بينها وبين بارئها حائل، ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.
إن الإنسان حين يصل إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد، فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد.
إن الإرادة، والإدراك، والمحاولة، وحمل التبعة، هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله في السماء والأرض.
وهي مناط التكريم، الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهوأمر الملائكة بالسجود لآدم، وأكرم بذلك ذريته من بعده.
فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.
واختصاص الإنسان بحمل الأمانة، وأخذه على عاتقه أن يعرف بنفسه، ويهتدي
بنفسه، ويعمل بنفسه، ويصل بنفسه.
هذا كان ليتحمل عاقبة اختياره .. وليكون جزاؤه على عمله .. وليحق العذاب على المنافقين والمنافقات .. والمشركين والمشركات .. وليمد الله يد العون للمؤمنين والمؤمنات .. فيتوب عليهم مما يقعون فيه تحت ضغط ما ركب فيهم من ضعف ونقص .. وما يقف في طريقهم من حواجز وموانع، وما يشدهم ويجذبهم من الشهوات والمغريات .. فذلك فضل الله وعونه.
وقد حمل الإنسان هذه الأمانة: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} [الأحزاب: 73].
والأمانات في الدين كثيرة، وقد أمرنا الله عز وجل بأداء جميع الأمانات كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى، الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان، والتي أبت السموات والأرض أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهي أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه.
فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة.
فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته، وألزمه طاعة أمره بغير جهد منه.
والإنسان وحده هو الذي وكله الله إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
وقد حمل الإنسان هذه الأمانة العظيمة، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات، ومن هذه الأمانة تنبثق سائر الأمانات التي أمر الله أن تؤدى.
ومن هذه الأمانات أمانة الشهادة لهذا الدين.
الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له، ترجمة حية في شعورها وسلوكها، حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس، فيقولون: ما أحسن هذا الإيمان وأطيبه وأزكاه، وهو يصوغ أصحابه على الجمال والكمال، وحسن الأخلاق والآداب.
فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون فيدخلون فيه.
والشهادة له كذلك بدعوة الناس إليه، وبيان فضله وجماله، فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان، وهي إحدى الأمانات الكبرى:{هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)} [إبراهيم: 52].
ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجاً للبشرية كلها، بكل ما يملكه الفرد .. وتملكه الأمة من وسائل، فإقرار منهج الله في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان بالله، ولا يعفى من هذه الأمانة فرد ولا جماعة.
ومن الأمانات التي يجب أداؤها، أمانة التعامل مع الناس، ورد أماناتهم إليهم، وأمانة المعاملات والودائع، وأمانة النصيحة للراعي والرعية، وأمانة القيام على الأهل والأولاد، وأمانة المحافظة على العبادات وأدائها في وقتها بصفتها خالصة لله، وسائر ما ورد في الدين من أحكام وواجبات، وسنن وآداب.
فهذه من الأمانات التي يجب أن تؤدى كما أمر الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
ومن أعظم الأمانات وأهمها الحكم بما أنزل الله في أي جيل، وفي أي قبيل، ومن لم يحكم بما أنزل الله، فإنما يرفض ألوهية الله ويرد أمره، وذلك كفر.
وقد وصف الله عز وجل من لم يحكم بما أنزل الله بثلاث صفات هي:
الكفر .. الظلم .. الفسق
فقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة:
44].
وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45].
وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47].
فالظلم صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله، فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله سبحانه، واختصاصه بالتشريع لعباده وحده.
وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة الله الصالحة المصلحة لأحوالهم، وهو ظالم لنفسه بإيرادها موارد الهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر، وتعريض حياة الناس وهو معهم للفساد.
وصفة الفسق صفة ثالثة، تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل، فهو فاسق بخروجه عن منهج الله، واتباع غير طريقه.
فالكفر برفض ألوهية الله ممثلاً في رفض شريعته .. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله .. والفسق بالخروج عن منهج الله وتجاوزه إلى غيره.
لقد ربى الله تبارك وتعالى هذه الأمة بمنهج القرآن، وقوامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله، في نفوسها وحياتها وقوامتها على البشرية.
لقد رباها الله عز وجل بشتى التوجيهات، وشتى المؤثرات، وشتى التشريعات، وشتى الابتلاءات.
وأعدها سبحانه بعقيدتها، وسلوكها، وأخلاقها، وشريعتها، ونظامها، لأن تقوم على دين الله في الأرض، ولأن تتولى القوامة على البشر.
وقد حقق الله ما يريده بهذه الأمة، فقامت في واقع الحياة الأرضية في عهده صلى الله عليه وسلم تلك الصورة الوضيئة من دين الله، حين كان دين أولئك سمعنا وأطعنا.
وتملك البشرية ذلك اليوم حين تعود إلى ربها، وتجاهد لبلوغ رضاه، فيعينها
الله، والله غالب على أمره، وبيده مقاليد الأمور.
والناس في الدنيا قسمان:
1 -
قسم خلقه الله لجهنم، وهؤلاء هم الذين ينكرون الحق ويكذبون به فلهم جهنم كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].
2 -
وقسم متمسكون بالحق، ويدعون الناس إليه، ويحكمون به، ويدافعون عنه، ولا ينحرفون عنه كما قال سبحانه:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181].
فهذه الأمة الثابتة على الحق، العاملة به في كل حين، هي الحارسة لأمانة الله في الأرض، فهم يهدون بالحق، ويدعون إلى الحق، فهم لا يقتصرون على معرفة الحق والعمل به، إنما يتجاوزونه إلى الهداية به والدعوة إليه، ويتجاوزون معرفة الحق والهداية به، إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس، والحكم به بينهم، تحقيقاً للعدل الذي لا يقوم إلا بالحكم بهذا الحق.
فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس .. ولا مجرد وعظ يهدى به ويعرف .. إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله بلا استثناء.
يحكم اعتقادهم .. ويحكم شعائرهم التعبدية .. ويحكم حياتهم الواقعية .. ويحكم أخلاقهم وسلوكهم .. ويحكم أفكارهم وعلومهم .. يصبغها بلونه .. ويضبطها بموازينه: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170].
وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق وحده.
والأموال والأولاد فتنة قد تقعد الناس عن الاستجابة لله والرسول خوفاً وبخلاً.
والحياة التي يدعو إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة كريمة .. لا بدَّ لها من تكاليف ..
ولا بدَّ لها من تضحيات.
ولقلع هذا الحرص ينبه الله عباده إلى فتنة الأموال والأولاد، فهي موضع فتنة وابتلاء، ويحذرهم من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد، وعن النكوص عن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة.
واعتبار هذا كله خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض.
وهي إعلاء كلمة الله في الأرض .. وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل، وتنفيذ أوامر الله في عباده على مدار الزمان.
ومع هذا التحذير، التذكير بما عند الله من أجر عظيم، يرجح بالأموال والأولاد التي تقعد الناس عن التضحية والجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 27، 28].
فعلى الأمة المسلمة التي آمنت بالله أن تجاهد لتقرير عقيدة الإيمان في القلوب، وإقامة منهج الله في خلقه، وبذلك تكون قد أدت الأمانة التي حملتها.
فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان فقط .. وليس مجرد عبادات وأدعية وأذكار فقط .. إنما هو مع ذلك منهج حياة كاملة شاملة لبناء واقع الحياة الإنسانية على قاعدة (أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق، ورد المجتمع كله إلى حكمه وشرعه، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء، وتأمين الحق والعدل ومكارم الأخلاق للناس جميعاً.
وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، وتعمير الأرض، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله، بمنهج الله، وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكل هذه أمانات عظيمة من لم ينهض بها فقد خانها، وخاس بعهد الله الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.
وأداء ذلك كله يحتاج إلى الصبر والتضحية، وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، والى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم لمن أدى الأمانة:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: 28].
فقد وهب الله عباده الأموال والأولاد ليبلوهم بها، ويفتنهم بها، فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله فيها صنع العبد وتصرفه.
أيشكر الله عليها، ويؤدي حق النعمة فيها؟.
أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة، لئلا يخفق في الامتحان، ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.
فقد يضعف لثقل الأمر، خاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد، فيلوح الله له بما هو خير من ذلك وأبقى، ليستعين به على مقاومة الفتنة، ويتقوى ويثبت.
وبعض الناس يظن أن الاعتراف بألوهية الله في ذاته هو الإيمان .. وأن الناس متى اعترفوا بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية .. دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو العبودية .. فيطيعونه ويخضعون له في كل شيء .. فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له .. ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.
وبعضهم يظن أن العبودية تتحقق بمجرد تقديم الشعائر لله .. ويحسبون أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده .. فقد عبدوا الله وحده، بينما كلمة (العبادة) مشتقة من عبد، وعبد تفيد ابتداء: دان وخضع.
وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع، لا يستغرق كل حقيقة الدينونة، ولا كل مظاهرها.
يا حسرة على العباد من سوء الفهم .. وسوء الظن .. وسوء الجهل.
إن الجاهلية ليست فترة من الزمان مضت فقط، إنما هي انحسار معنى الألوهية والعبادة على هذا النحو، هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك، وهم يحسبون أنهم على دين الله كما قال سبحانه:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
فهل يليق بالمسلمين أن يؤدوا الشعائر لله، بينما أربابهم في الحياة غير الله، يشرعون لهم بما لم يأذن به الله فيطيعونهم، وتلك عبادتهم إياهم.
والله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون، وله الأمر والحكم فيه، فهو الذي يحكم العباد بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له وحده، ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما شرعه لهم في جميع أحوالهم، فلا يجوز لهم أن يشركوا معه أحداً سواه.
إن على المصلحين والدعاة إلى الله أن يعملوا لإعادة هذا الدين في حياة الأمة إلى الوجود الفعلي في مختلف شعب الحياة، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في أغلب بقاع الأرض، وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام، وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر' تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين، وتوهمهم أنه لا يزال بخير، وهو يمحى من الوجود محواً، وتطرد شرائعه وأحكامه من واقع الحياة طرداً، وتهدم أركانه وواجباته وسننه كل حين.
إن مجتمع التوحيد والإيمان قد وجد في مكة، قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد، وجد من يوم قيل للناس:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85].
فعبدوه، ولم تكن عبادتهم حينئذ ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة لله وحده في كل شيء قبل نزول الشرائع.
وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع والشعائر، ودان الناس لربهم بهذا وهذا على حد سواء.
إن الناس لا تتحول أبداً من الجاهلية وعبادة لطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده، إلا عن طريق ذلك الطريق الطويل البطيء، الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة من أول يوم فأفلحت.
ذلك الطريق الذي بدأه فرد، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تتبعه طليعة مؤمنة، ثم تتحرك هذه العصبة في وجه الجاهلية، وتعاني ما تعاني، حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق، ويمكن لها في الأرض فتقيم الشعائر والشرائع في جميع أحوالها، ثم يدخل الناس في دين الله أفواجاً:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41].
وهذه الأمة التي اختارها الله لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، لها صفات، وعليها واجبات، ولها مكانة عند الله، ومكانة عند الناس.
وقد جمع الله المنهاج الذي رسمه لهذه الأمة، ولخص التكاليف التي ناطها به، وقرر مكانها الذي قدره لها بقوله:
إن الله عز وجل يناديهم بالصفة التي ميزهم بها عن غيرهم وهي الإيمان، ثم يأمرهم بالركوع والسجود، وهما ركنا الصلاة البارزان، ثم يأمرهم ثالثاً بالأمر العام بالعبادة، وهي أشمل من الصلاة.
فعبادة الله تشمل الفرائض كلها، وتزيد عليها كذلك كل عمل، وكل حركة، وكل
نية، يتوجه بها العبد إلى ربه، ثم يختم بفعل الخير عامة في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة.
يأمر الله عز وجل الأمة المسلمة بذلك رجاء أن تفلح، فهذه هي أسباب الفلاح:
العبادة تصلها بالله خالقها .. وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة على قاعدة الإيمان بالله.
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة، من الصلة بالله، واستقامة الحياة، نهضت بالتبعة الشاقة:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
والجهاد في سبيل الله يشمل:
جهاد النفس .. وجهاد العدو .. وجهاد الشر والفساد .. كلها سواء.
وجاهدوا في الله حق جهاده فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة، واختاركم لها من بين عباده، وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة، ينبغي أن يقابل منها بالشكر، وحسن الأداء لهذه الأمانة.
وهو تكليف محفوف برحمة الله، فلا حرج فيه ولا مشقة.
وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه، ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته، فلا تبقى طاقته حبيسة مكتومة، ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم الذي يتلف كل شيء بلا حساب.
إنه منهج الله الذي أكرم به البشرية، ملة أبيكم إبراهيم، منبع التوحيد الذي بقي في ذريته، لم ينقطع من الأرض، كما انقطع من قبل إبراهيم، وقد سماكم الله بالمسلمين من قبل، وبعد نزول القرآن.
والإسلام هو إسلام الوجه والقلب لله وحده لا شريك له، فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الرسل والرسالات والأجيال، حتى انتهى بها
المطاف إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى سلمت إليها الأمانة، وعهد الله إليها بالوصاية على البشرية إلى يوم القيامة.
فهذه الأمة هي القوامة على البشرية بعد نبيها، وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وهي أمينة على ذلك، ومسئولة عنه.
فعليها أداء الشهادة لهذا الدين من خلال واقعها، ومنهج حياتها، كما أراد الله، ليدخل الناس في دين الله أفواجاً، وهي مسؤولة عنهم، وشاهدة عليهم.
فما أعظم الكرامة .. وما أكبر المهمة .. وما أثقل الأمانة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، وهذه الأمة تشهد على الناس:{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
وقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي، وطبقته في حياتها الواقعية، ومشت به في الناس.
حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله من مكان القيادة والعزة، إلى مكان التابع في ذيل القافلة، حتى تحكم فيها أحفاد القردة والخنازير من اليهود والنصارى.
وما تزال ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اصطفاها الله له.
وهذا الأمر العظيم يقتضي الاحتشاد له، والاستعداد له:{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها الله لها، وشرفها بها.
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، ولا بدَّ من الابتلاء، ليعلم الله الصادق من الكاذب كما قال سبحانه:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2، 3].
ومن الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي
يسانده ويدافع عنه، ولا يملك النصر لنفسه ولا المنعة، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان.
وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة، فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت هي أمر وأدهى.
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً.
وقد يهتفون به ليسالم أويستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين ومرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصاغ لهم الأمجاد، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا تقضي له حاجة، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه، إلا القليلون من أمثاله، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.
وهناك كذلك فتنة الغربة في البيئة، حين يرى المؤمن كل من حوله غارقاً في تيار الضلالة، سابحاً في بحر الشهوات، وهو وحده موحش غريب طريد.
وهناك كذلك فتنة من نوع آخر، فتنة أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنية قوية، وهي مشاقة لله ورسوله.
وهناك فتنة أكبر من هذا كله، إنها فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الأرض، والرغبة في المتاع والسلطان، وفي الدعة والراحة، وصعوبة الاستقامة على صراط الله، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة.
فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاء أشد وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله.
وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك
الأمانة الكبرى.
أمانة السماء في الأرض .. وأمانة الله في قلب الإنسان.
وما بالله حاشا لله أن يعذب المؤمنين بالابتلاء .. وأن يؤذيهم بالفتنة .. ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة .. فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية الشاقة .. وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات .. وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام .. وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه .. على الرغم من طول الفتنة .. وشدة الابتلاء .. واقتحام الأهوال.
والنفس تطهرها الشدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها.
وكذلك تفعل الشدائد بالمؤمنين، فلا يبقى صامداً إلا أصلبهم عوداً، وأشدهم اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده.
وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها، بعد الاستعداد والاختبار.
وإن هؤلاء الأخيار ليتسلمون الأمانة، وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما بذلوا لها من الصبر على المحن، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات.
فهؤلاء هم الذين يشعرون بقيمة الأمانة، فلا يهون عليهم أن يسلموها رخيصة، بعد كل هذه التضحيات والآلام.
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية، فأمر تكفل به الله، وما يشك مؤمن في وعد الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله.
وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة .. ويقع عليهم البلاء .. أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله ودينه، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة .. فهو يختارهم للابتلاء حسب إيمانهم.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد الناس بلاء؟ فقال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والذين يفتنون المؤمنين ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} [العنكبوت: 4].
فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)} [النساء: 123].
فإن الله عز وجل الذي جعل الابتلاء سنة، ليمتحن إيمان المؤمن، ويميز بين الصادقين والكاذبين، هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.
وإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب، وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين، وأخذ المفسدين، سنة جارية لا بدَّ أن تجيء.
وهذه النفوس التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، إنما تجاهد لنفسها ولخيرها، واستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها، وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
فلا يقفن أحد في وسط الطريق يطلب من الله ثمن جهاده .. ويمن عليه وعلى دعوته .. ويستبطئ المكافأة على ما ناله .. فإن الله لا يناله من جهاد العبد شيء ..
(1) حسن: أخرجه الترمذي برقم (2398)، وهذا لفظه، صحيح سنن الترمذي رقم (1956).
وأخرجه ابن ماجه برقم (4023)، صحيح سنن ابن ماجه رقم (3249).
انظر السلسلة الصحيحة رقم (143).
وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل.
وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده .. وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} [العنكبوت: 7].
فليطمئن المؤمن على ماله عند الله، وليصبر على تكاليف الجهاد، وليثبت على مرارة الفتنة والابتلاء:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)} [الشورى: 36].
ومن أدى الأمانة فاز بالجنة والرضوان، ومن ضيع الأمانة باء بالنار والخسران:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} [السجدة: 18 - 20].
هذا مبدأ الجزاء العادل الذي يفرق بين المحسنين والمسيئين في الدنيا والآخرة، والذي يعلق الجزاء بالعمل على أساس العدل والإحسان.
فما يستوي المؤمنون والفاسقون، في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا والآخرة سواء.
المؤمنون متجهون إلى الله مؤمنون به عاملون بمنهجه.
والفاسقون منحرفون شاردون، مفسدون في الأرض، لا يلتقون مع المؤمنين على منهج الله في الحياة.
فلا عجب أن يختلف طريق المؤمنين وطريق الفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده، وما قدمت يداه.
وميثاق الله تبارك وتعالى مع النبيين عامة، ومع أولي العزم خاصة، هو حمل أمانة هذا المنهج، والاستقامة عليه، وتبليغه للناس، والقيام عليه في الأمم التي أرسلوا إليها.
وهو ميثاق واحد مطرد من لدن نوح صلى الله عليه وسلم إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو منهج واحد، وأمانة واحدة، يتسلمها كل منهم، ويقوم بحقها، حتى يسلمها إلى من بعده، حتى انتهت إلى سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7].
والله عز وجل يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه على صراط مستقيم، ويوصيه بالتمسك بما أوحي إليه من ربه، والثبات عليه، مهما لاقى من عنت الشاردين عن الطريق بقوله سبحانه:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} [الزخرف: 43].
إن هذا القرآن العظيم يرفع ذكرك وذكر قومك، بما فيه من الهدى والرشاد الذي سعدت به البشرية، وما زالت تسعد، والذي تحقق بفضل الله على يد الرسول ومن آمن معه:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 44].
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ملايين الشفاه تصلي وتسلم عليه في كل لحظة، في كل زمان ومكان، ومئات الملايين من القلوب، تخفق بذكره وحبه، من بعثته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة، وهو الذي جعل لهم الدور الأكبر في حياة البشرية.
وهو الذي واجهوا به الدنيا، فعرفتهم بالصدق والأمانة والعدالة، ودانت لهم طول الفترة التي تمسكوا فيها به.
فلما تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا، وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين.
وإنها لتبعة ضخمة ستسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة إذا هي تخلت عن الأمانة.
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار على التضحية بكل شيء
من أجل إعلاء كلمة الله.
والتضحية تكون ببذل المحبوب للوصول إلى ما هو أحب منه، وترك المحبوب لما هو أحب منه، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، وذلك لا يكون إلا مع كمال الإيمان.
فالمهاجرون أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق، أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد من قرابتهم وعشيرتهم، لا لذنب إلا أن يقولوا ربنا الله.
وقد خرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً كما قال سبحانه:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8].
خرجوا بدينهم معتمدين على الله، لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون، ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك هم الصادقون الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه، تمشي به في الناس.
وهؤلاء السابقون من المهاجرين بذلوا كل شيء من أجل إعلاء كلمة الله، وضحوا بكل شيء من أجل نصرة دين الله.
فهم أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا غرابة فقد ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل إعلاء كلمة الله:
فضحوا بستة أشياء من أجل لا إله إلا الله، ضحوا بالأوقات .. والأنفس .. والأموال .. والبلدان .. والشهوات .. والجاه ولهذا سماهم الله بالصادقين، لأنهم أتبعوا القول بالعمل، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه ..
ثم يليهم في الفضل الأنصار الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر: 9].
هذه المجموعة العجيبة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاماً طائرة.
هؤلاء الذين تبوءوا المدينة دار الهجرة قبل المهاجرين، كما تبوؤوا فيها الإيمان، وكأنه منزل لهم ودار.
وهذا موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان دارهم ونزلهم، ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء إلى داره.
ولم تعرف البشرية كلها حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين، لقد استقبلوهم بالحب الكريم، والبذل السخي، والمشاركة الطيبة في الأموال، وشاركوهم في الشعور والمشاعر، والإيمان والأعمال.
وتسابق الأنصار إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين.
فلله در هذه الأنفس ما أعزها وما أكرمها وما أشرفها.
وهؤلاء الأنصار نفوسهم عزيزة كريمة، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون من مقام مفصل، ومن مال يختصون به، كهذا الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، وخصهم به دون الأنصار.
بل يؤثرون المهاجرين على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد له البشرية نظيراً، وكانوا كذلك في كل مرة، وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم قسمة ما أفاء الله عليه من أموال بني النضير قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة» ؟.
وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم من الغنيمة شيء؟
فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها.
فلله در هذه النفوس الأبية، وتلك القلوب الزاكية النقية.
وشح النفوس هو المعوق عن كل خير، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، وقد حمى الله الأنصار منه.
ولا يمكن أن يفعل الخير شحيح يهم أن يأخذ دائماً، ولا يهم مرة أن يعطى. على يد هؤلاء المهاجرين. وهؤلاء الأنصار .. قام شكل الدين .. وقامت روح الدين .. وقامت أخلاق الدين .. وكمل بناء الدين على أجمل صورة.
وانتقلت أعمال الدين من جسد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء، وكانوا نواة الإسلام الأولى، فحملوا الأمانة، وقاموا بها خير قيام، فرضي الله عنهم ورضوا عنه:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
فأيُّ رجال أولئك؟ .. ماذا تركوا من الفضائل والأخلاق ما تجملوا به؟ .. وماذا تركوا من البلاد والأمصار ما فتحوها بلا إله إلا الله؟
أما الصورة الثالثة الجميلة الرضية الواعية فهي تمثل أول مجموعة انتقلت إليهم صفاتهم، وهم التابعون:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
فهذه الآية تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أهم خصائص الأمة الإسلامية على الإطلاق، في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى الله في طلب المغفرة لنفسها، ولسلفها الذين سبقوها بالإيمان، وفي طلب براءة
القلب من الغل على المؤمنين على وجه الإطلاق، مع الشعور واليقين برأفة الله ورحمته.
هذه قافلة الإيمان تحمل جمال الظاهر .. وجمال الباطن .. وإنها لقافلة كريمة على الله وعلى الناس.
إنها تقف صفاً واحداً، وكتيبة واحدة، على مدار الزمان والمكان، واختلاف الأوطان والأنساب واللغات، تحت راية الله ورسوله.
تقف بإيمانها مترابطة، متكافلة، متوادة، متعاونة صاعدة في طريقها إلى الله.
فهل عرفتَ بشراً أفضل من هذا الطراز؟
وهل رأيت صدقاً وجمالاً وحسناً بلغ كماله في أحسن من هؤلاء؟
فأي جزاء وثواب، وأي مغفرة وأجر، ينتظر هؤلاء عند ربهم؟
ومن كان مستناً فليستن بمن قد مات من المؤمنين، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة:
أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، وأدوا حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
انتقلت إليهم صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا القرن الأول الذين تلقوا أحكام الدين وسننه وآدابه وأخلاقه من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة.
وبذلوا من أجل ذلك كل شيء، فكانت أوقاتهم للدين .. وأفكارهم للدين، وأنفسهم للدين .. وأموالهم للدين .. وأعمالهم كلها قائمة على الدين.
أئمة في العبادة .. وأئمة في الدعوة .. وأئمة في التعليم .. وأئمة في التعاون على البر والتقوى .. والتواصي بالحق .. والتواصي بالصبر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، لا تَسُبُّوا أصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا، مَا أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، وَلا نَصِيفَه» متفق عليه (1).
إن حرية الاختيار التي أعطاها الله سبحانه للإنسان عبر عنها في القرآن الكريم بكلمة الأمانة فقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
والأمانة معناها العام: أن يعطيك أحد شيئاً تحفظه عندك كأمانة بلا شهادة أحد، فإن كان هناك شهود، أو كُتب على ورقة، فهو دَيْن لا أمانة.
والأمانة التي حملها الإنسان، عرضها الله قبل ذلك على عدد من مخلوقاته العظام، السموات والأرض والجبال، لكن هذه المخلوقات جميعاً رفضت أن تحمل الأمانة، لأنها أحست أنها لن تستطيع أن تفي بها.
فالنِّعم التي أعطاها الله سبحانه لنا، لها حق أداء الشكر، وهذه المخلوقات كلها أحست بعجزها عن أداء حق الشكر لله عليها، ولذلك رفضت تحملها.
وجاء الإنسان وقَبِل حمل الأمانة، قَبِل أن يأخذ النِّعم، ويؤدي عنها حق الشكر، وحق العبادة لله، وأن يكون في ذلك مختاراً يفعل أو لا يفعل، وفرح الإنسان بأن لديه رصيداً من النعم التي سخرها الله له، يستطيع أن يسحب منها كما يشاء، دون أن يؤدي حق الله فيها، حق الشكر، وحق العبادة، وحق الطاعة.
ولقد كان الإنسان حين فرح بذلك ظلوماً لماذا؟
لأنه ظلم نفسه، فتحمل ما لا تقدر عليه هذه النفس الضعيفة، أمام مغريات الكون وشهواته.
ولأنه ظلم غيره، لأن البعد عن منهج الله سبحانه لا يتم إلا بظلم، فلو اتبعنا
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3673)، ومسلم برقم (2540) واللفظ له.
جميعاً الحق ما بعدنا عن منهج الله، ولا فسدت الأرض، فالحق هو ما يطالبنا الله به.
فإن اتبعناه فنحن لم نخن الأمانة، لأننا اتبعنا منهج الله في الأرض.
ولكن متى نخون الأمانة؟.
عندما نظلم، عندما نأخذ حق الغير، عندما نعتدي على حرمة غيرنا وماله وعرضه.
حينئذ نكون قد ظلمنا أنفسنا، وظلمنا الناس، وخنَّا الأمانة.
والإنسان عندما فعل ذلك كان جهولاً لماذا؟
لأنه ظن أنه سيكسب شيئاً، فقاد نفسه إلى الهلاك دون أن يكسب أي شيء.
فالإنسان حمل الأمانة .. أمانة الشكر على عطاء الله .. الشكر على نعمة الحياة .. الشكر على رزق الله .. الشكر على أن الله سبحانه يبارك له ويعطيه ويرزقه .. وينجيه من كل سوء .. ويدفع عنه كل شر ..
حمل الأمانة التي تلزمه بالحق بين الناس .. وبالعدل في حكمه .. وباحترام حقوق الآخرين مهما كانوا ضعفاء.
لقد حمل الإنسان الأمانة، ونزل إلى الأرض، فماذا فعل؟
لقد استطاع الشيطان أن يصل إلى قلبه، وصوَّر له أنه يستطيع أن يملك، وأن يملك بلا حساب، ليشغله بذلك عن وظيفته، ويفسد عليه دينه.
بينما في الحقيقة أن ملك الإنسان ينحصر فيما ينفقه لحاجاته.
فأحياناً نجد إنساناً غنياً تقدم به العمر، ومع ذلك فهو يحاسب على كل قرش أنفقه، ويحاول أن يوفر بقدر ما يستطيع، وقد تعجب من ذلك، كيف تكون هذه الأموال كلها عند هذا الرجل، ثم يقتر على نفسه؟
إنها مسألة لا تتمشى مع حكم العقل، ولا مع منطق التفكير، ولكنها تتمشى مع قدر الله العليم الخبير.
فالمال رغم أن الرجل قد كسبه، ليس من رزقه، ولو كان رزقه لتمتع به، ولكنه
مجرد حارس عليه، ليسلمه إلى صاحبه، وهو في دوره هذا بالحراسة على هذا المال. إنما يأخذ منه رزقه فقط، ويبقى أميناً حافظاً على الجزء الباقي، حتى يوصله إلى أصحابه فيأخذوه، وربما أنفقوه فيما ينفع، أو فيما لا ينفع.
وقد حمل الله الإنسان أمانة الطاعة لله، والشكر لله، وجعل هذه الأمانة بينه وبين الله سبحانه، لا يطلع عليها أحد.
فالأمانة تكون بين العبد وربه، ولا يعرف ثالث عنها شيئاً، كذلك العبادة، وكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، يكون بين الله والعبد.
وأفعال الإنسان الاختيارية قسمان:
قسم لا ثواب ولا عقاب عليه، كأن تحب أن تأكل صنفاً معيناً من الطعام أحله الله لك، أو تختار نوعاً من الفاكهة، أو تختار لون ثوبك، فهذه أنت حر فيها، وليس عليها ثواب ولا عقاب.
والقسم الآخر: الأعمال الاختيارية التي أنزل الله فيها أحكاماً بالفعل أو الترك، وهذا هو الاختبار الإيماني في الحياة، اختبار لحرية الإنسان في الفعل.
وقد يريد الإنسان أن يعمل عملاً، ولكنه لا يملك القدرة لإتمامه، فقد لا يتم العمل، لأن الله وحده هو الذي يريد، ويفعل ما يريد، ويقول للشيء كن فيكون.
وقد وضع الله عز وجل الإرادة الحرة للإنسان، في مكان لا يستطيع أحد في العالم أن يسيطر عليها.
إنها في القلب، وما هو داخل القلب لا يستطيع أحد، ولا تستطيع الدنيا كلها أن تصل إليه.
فأنت قد تكره إنساناً، ولكن ربما تحت التعذيب أو التهديد أو الخوف تتظاهر بالحب له، ولكن الحقيقة أنك تكرهه من داخل قلبك.
فالحساب هنا على الإرادة الحرة، التي لا يستطيع بشر ولا قوة في الأرض أن تجبرك على شيء فيها، ولكنها متروكة لك وحدك.
وهي لا تتغير ولا تتبدل، سواء كنت غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، هذه المنطقة
بالذات هي التي يتم على أساسها الحساب، تركها الله سبحانه وتعالى حرة لك، وجعلها مركز الأسرار والنيات والأمانات الخاصة بك.
هذه هي منطقة الأمانة التي حملتها.
ولكن لماذا هي أمانة؟
لأن ما فيها بينك وبين الله وحده؟.
فلا يستطيع أحد أن يعرف عنه شيئاً، فما في القلب سر بين العبد وربه، وهو الأمانة التي حملها الإنسان في الأرض، فإن فعل إثماً بإرادته الحرة بلا إكراه استحق العقاب.
وإن فعل خيراً، وقلبه مصدق لعمله، بلا محاولة للتظاهر أو التفاخر أثيب.
فالله سبحانه حينما أعطانا الاختيار .. حدد منطقة الاختيار في أعمالنا، وأخرج منها عدداًَ من الأعمال التي ليس فيها تشريع، وترك لنا حرية الاختيار بلا ثواب ولا عقاب، ثم جاء لمنطقة الأمانة، وجعل الثواب والعقاب فيها.
ولكن لماذا جعل الله منطقة الثواب والعقاب هي القلب؟.
والجواب: لأنه الجزء الوحيد الذي لا يسيطر على مشاعره أحد إلا أنت، فما في قلبك ملكك وحدك، بإرادتك وحدك، وليس لأحد سيطرة عليه.
وبذلك يكون الحساب عدلاً، لا يدخل فيه ظلم أبداً.
إن الكون كله قد أسلم لله، ورفض أن يكون مختاراً في أن يؤمن أو لا يؤمن، أسلم طوعاً، واختار الإيمان بالله دون أن تكون له إرادة في المعصية.
أما الإنسان فقد قبل حمل الأمانة، وأن يؤمن بالله باختياره عن حب، فأعطاه الله حرية الاختيار أن يؤمن أو لا يؤمن.
والله عز وجل حين أعطانا حرية الاختيار، وأعطانا وسخَّر لنا كلَّ ما في الكون، كان هذا من أجل الإنسان، ثم أعطانا الأمانة، وهي العقل وحرية الاختيار، وأشهدنا على نفسه بأنه الرب الخالق المالك لكل شيء، وبيده كل شيء، وله كل شيء.
خلق الدنيا من أجلنا، وجعلها مكان مؤقتاً للعمل.
وخلق الآخرة من أجلنا، وجعلها مكاناً دائماً للثواب والعقاب.
وأنزل إلينا المنهج الذي يسعدنا في الدنيا والآخرة.
وحملنا هذه الأمانة، فمن أدى الأمانة أسعده الله في الدنيا والآخرة.
وبعض الناس حمل الأمانة وراح يضيعها فيما لا ينفع، وفيما نهى الله عنه، معتقداً أن الدنيا دائمة، وأن الحياة بلا نهاية، كافراً بلقاء الله.
إن كل الذين أسلموا في عهد النبوة وبعده، أتوا باختيارهم طائعين، ولا يقبل قول من قال إن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه، ذلك لأن السيف في الإسلام وضع لحماية حرية الإنسان في أن يؤمن أو لا يؤمن، ولمنع الإكراه. فقد كانت هناك قوى متسلطة على الناس بالسيف تكرههم على عبادة غير الله، وتمنعهم من عبادة الله، وترغمهم على عقائد زائفة، بل منهم من أكره الناس على عبادته.
فكان الحاكم ينصب نفسه إلهاً، فمن عبده فله الأمان، ومن لم يعبده فدمه مباح.
وهنا قال الإسلام: دعوا الناس أحراراً في اختيار ما يعتقدون، نعرض عليهم الإسلام، واعرضوا أنتم عليهم ما أردتم، وبعد ذلك:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
إن سماحة الإسلام، وعظمة الإسلام، وجمال الإسلام، ورحمة الإسلام، وعدل الإسلام، هي الدافع لأن يعتنقه ملايين البشر، لأنهم رأوا فيه دين الحق والعدل والإحسان.
وكل من علم به، وأعرض عنه فهو مطرود محروم، ليس أهلاً لهذه النعمة التي أكرم الله بها عباده، فهو شاذ عن سائر المخلوقات بمعصيته للواحد القهار:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران: 83].
إن الإسلام هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة من حياة البشرية.
وسبقته تجارب في حياة الرسل والأمم السابقة، تمهد كلها لهذه الصورة الكاملة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات، وأن يظهره على الدين كله في الأرض.
فقوم موسى الذين أرسله الله إليهم آذوه، وانحرفوا عن رسالته، فضلُّوا، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5].
وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله، فلم يعودوا أمناء عليه، فقد زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغاً، وأزاغ قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى .. وكيف يهدون وهم غير مهتدين؟.
وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبداً، والله لا يهدي القوم الفاسقين.
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لحمل أمانة الدين والدعوة إليه، وهم على هذا الزيغ والضلال.
ثم تتابعت الرسل من بني إسرائيل، ثم أرسل الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم ليقول لبني إسرائيل إنه جاء امتداداً لرسالة موسى صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة، ومبشراً برسولها كما قال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف: 6].
فلم يقل لهم نبي الله عيسى أنه الله، ولا أنه ابن الله، ولا أنه ثالث ثلاثة، بل قال إنه رسول الله، إنه عبد الله، جاء بدين الله الذي هو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره وفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها.
فلما اختلف بنو إسرائيل في عيسى صلى الله عليه وسلم وآذوه، وانحرفوا عن عقيدة التوحيد، وضلوا عن شريعتهم، وأضلوا غيرهم، لم يعودوا صالحين لحمل الرسالة الإلهية للناس.
فلما ضلَّ الناس، وانتشر الظلم والفساد في الأرض، ونحيت شريعة الله من حياة الناس، فلم يعمل بها، وكان مقرراً في علم الله، أن يستقر دين الله في الأرض كاملاً شاملاً في صورته الأخيرة على يد رسوله الأخير.
فأرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى البشرية كافة إلى يوم القيامة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9].
وقد وقفت بنو إسرائيل في وجه الدين الجديد، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتى الطرق والوسائل، وأعلنوها حرباً شعواء، لم تضع أوزارها حتى اليوم:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8].
ولقد ظهرت إرادة الله، فظهر هذا الدين على الدين كله.
ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وصفائه، وشعائره وشرائعه، وأخلاقه وآدابه.
فأما الديانات الوثنية فهي هزيلة ليست بشيء؛ لأنها من أوهام البشر.
وأما الديانات الكتابية كاليهودية والنصرانية ونحوها، فهذا الدين الإسلامي خاتمها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها.
ولقد حرفت تلك الديانات .. وبدلت .. وشوهت .. ومزقت .. وزيد فيها ما ليس منها .. ونقصت من أطرافها .. وكتم بعضها .. وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة .. لا في العقيدة .. ولا في الشعائر .. ولا في الشرائع.
وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود، ولجيل محدود.
أما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق الله وعده، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله.
فقد دانت له معظم الرقعة المعمورة من الأرض في مدى قرن من الزمان .. ثم
زحف سلمياً إلى قلب آسيا وأفريقيا.
وما يزال يمتد بنفسه في كل بيت، وفي كل قرية، وفي كل مدينة، وفي كل دولة، على الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، تحقيقاً لوعد الله، بأن يظهر دينه على الدين كله.
فهل نؤدي الأمانة التي اختارنا الله لها، بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى، في العمل بالدين، وإبلاغه للبشرية كافة؟
إن هذا ليسكب في قلوب المؤمنين الطمأنينة، وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة.
وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد الله، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر، حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله.
إن الله تبارك وتعالى ينادي المؤمنين، ويهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة، تجارة الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 10، 11].
وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة، ثم يكسب مغفرة ذنوبه كلها، وإسقاط ديونه كلها، والفوز بالجنات والمساكن والقصور، ورضوان من الله أكبر:{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف: 12].
فهل انتهى حساب هذه التجارة الرابحة عند هذا؟
إنه لربح ضخم هائل أن يعطى المؤمن الدنيا، ويأخذ الآخرة.
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة من أول يوم حين بايع الأنصار رسول الله
- صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في مكة.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال:«تُبَايِعُونِي عَلَى أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَأمْرُهُ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» متفق عليه (1).
ولكن فضل الله عظيم، وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض، فيبشرها بما قدره في علمه المكنون، من إظهار هذا الدين في الأرض كما قال سبحانه:{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف: 13].
وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح في الدنيا والآخرة، والذي لا يملكه إلا الله، ولا يعطيه إلا الله.
الله الغني الذي لا تنفد خزائنه، والذي لا ممسك لرحمته.
فمن الذي يدله الله على هذه التجارة، ثم يتقاعس عنها أو يحيد؟.
أما له في جنة الخلد من رغبة؟ .. أما له في العزِّ من نصيب؟.
ألا من مشمر إلى الجنة؟ .. ألا من مسارع إلى الخيرات؟.
وهل هناك أرفع من هذا المكان؟.
وهل هناك أشرف من هذا العمل؟.
لقد قام الحواريون مع عيسى صلى الله عليه وسلم بنصرة دين الله، فآمنت طائفة من بني اسرائيل
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (7199)، ومسلم برقم (1709) واللفظ له.
وكفرت طائفة، ثم أيد الله المؤمنين بالله، ونصرهم على أعدائهم، وأظهرهم عليهم.
لقد انتدبوا لهذا الأمر، ونالوا هذا التكريم من ربهم، لقيامهم بنصرة دين الله مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فما أجدر أتباع سيد الرسل أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت.
إن أتباع سيد الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم هم الأمناء على منهج الله في الأرض، وهم ورثة العقيدة والرسالة الإلهية بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهم المختارون من بين الأمم لهذه المهمة الكبرى، والأمانة العظمى.
وقد منَّ الله على العرب الأميين، فاختارهم ليجعلهم أهل الكتاب المبين، ويرسل فيهم رسولاً منهم، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم، ويخرجهم من أميتهم وجاهليتهم إلى نور العلم والإيمان، ويميزهم على العالمين كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} [الجمعة: 2، 3].
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من جهل وضلال، فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة، الأمناء عليها، بما علم سبحانه في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح، ومن طاقة تنهض بهذه العقيدة الجديدة، ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة، ونشرها صافية في العالم، وإقامة حياة الناس في الأرض على أساسها.
فاستلمته أول طليعة من هذه الأمة .. وتلقته بالقبول والسمع والطاعة أول مجموعة من هذه الأمة، هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. وقد فرغت منه ونبذته نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر .. فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات .. ومن ثم لم تستقم أبداً بعد ذلك، لا في حياة موسى ولا من بعده.
ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وحرفوا في دينهم، وبدلوا وغيروا، وظلموا وكذبوا، وصدوا عن سبيل الله، وقتلوا الأنبياء:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} [البقرة: 79].
وقد منَّ الله على بني إسرائيل، فأرسل إليهم كليمه موسى صلى الله عليه وسلم، وآتاه التوراة، ثم تابع من بعده الرسل الذين يحكمون بالتوراة من بني إسرائيل، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر.
ثم مع هذه النعم التي لا يعرف قدرها إلا الله، كلما جاءهم رسول بما لا تهواه أنفسهم استكبروا عن الإيمان به، ففريقاً من الأنبياء كذبوهم، وفريقاً قتلوهم:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87].
وقد خان اليهود الأمانة ونقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فطبع الله على قلوبهم:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} [النساء: 155].
فلما فعلوا هذه الكبائر والجرائم والقبائح والفواحش، كتب الله عليهم لعنته وغضبه، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة، فلم يعودوا صالحين للاقتداء، ولا مؤهلين لحمل الأمانة، فلا يستحقون إلا الذلة واللعنة والغضب:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة: 61].
فلما صار اليهود أشر خلق الله كفراً وظلماً وفساداً وعناداً أذلهم الله ولعنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60].
وقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم، فيجمعهم بعد فرقة، ويعزهم بعد ذلهم، وكانوا يستفتحون بذلك على العرب.
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب الأميين غير اليهود، فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الكاملة للبشرية، بعدما ضلت وزاغت وكفرت بآيات الله:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
وإن اختيار الله لفرد أو جماعة أو أمة، لحمل هذه الأمانة الكبرى، وليكون مستودع نور الله، وموضع تلقي فيضه، إن ذلك لفضل عظيم لا يعدله فضل.
فضل عظيم يربي على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته.
والله عز وجل يذكر المؤمنين باختيارهم لحمل هذه الأمانة: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
فاليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله، فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل، فهم كما وصفهم الله بقوله:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].
فبنو إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة على أيدي الرسل، ثم لم يحملوها ولم يعملوا بها، ولم يعلِّموها.
فهم لم يقدروا هذه الأمانة، ولم يفقهوا حقيقتها، ولم يعملوا بها، ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها.
والذين حملوا أمانة العقيدة من هذه الأمة ثم لم يحملوها، فهؤلاء كأولئك اليهود، وأولئك كلهم كالحمار يحمل أسفاراً.
إن هذا الدين العظيم الذي أنزله الله أمانة، وأمر الدين والعقيدة جد خالص، حازم جازم، جد كله لا هزل فيه، ولا مجال فيه للهزل واللعب.
جد في الدنيا .. وجد في الآخرة .. وجد في ميزان الله وحسابه .. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك، قليلاً ولا كثيراً.
وأي تلفت عنه من أي أحد، أو إدخال فيه ما ليس منه، يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم، ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول، فالأمر عظيم أكبر من الرسول، وأكبر من البشر، إنه الحق الذي لا تستقيم الحياة إلا به، الحق من رب العالمين:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47].
فمتى يشعر الإنسان بعظمة القاهر الجبار؟.
ومتى يحس بضآلة نفسه أمام قدرة الله التي لا يقف لها شيء؟.
ومتى يقدر عظمة الأمانة التي تحملها؟.
إن الله قادر على أخذه أخذاً شديداً في الدنيا والآخرة، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا المنهج الذي يريده الله للبشرية، ممثلاً فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة.
فهذا المنهج وهذا الحق لا يجيء ليهمل ولا ليبدل، إنما يجيء ليطاع ويحترم، ويقابل بالاستجابة والتقوى، وإلا فهو الأخذ والقصم، وهناك الهول والروع فقد:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)} [الحاقة: 4 - 10].
فثمود كذبوا رسولهم، فأخذهم الله بالصيحة الطاغية.
وعاد كذبوا رسولهم، فأخذهم بريح صرصر عاتية.
وفرعون ومن قبله من المكذبين أخذهم الله بالنقمة الرابية الغامرة الطامرة.
إنها تذكرة تلمس القلوب الخامدة، والآذان البليدة، التي تكذب بعد كل ما سبق من النذر، وكل ما سبق من المصائر، وكل ما سبق من الآيات، وكل ما سبق من العظات، وكل ما سبق من آلاء الله ونعمه على هؤلاء الغافلين.
وكل هذه المشاهد المروعة، الهائلة القاصمة الحاسمة، تبدو صغيرة ضئيلة إلى جانب الهول والموقف الأكبر، هول الحاقة والقارعة والصاخة والواقعة التي يكذب بها المجرمون، والتي ستقع بلا شك:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)} [الحاقة: 13 - 15].
فإذا نفخ إسرافيل في الصور، قامت الخلائق لربها، ويتبع ذلك حركة هائلة للأرض والجبال، فترفع وتدك دكة واحدة، لتصبح أرضا مستوية.
إنه مشهد عظيم مروع، يشعر معه الإنسان بضآلته، وضآلة عالمه، إلى جانب هذه القدرة العظيمة، ولا يقتصر الهول على حمل الأرض والجبال ودكها دكة واحدة، فالسماء في هذا اليوم الهائل ليست بناجية:{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)} [الحاقة: 16].
ويحشر الناس إلى ربهم، فيحاسب من قام بأداء الأمانة، ومن خان الأمانة فرداً فرداً، ونية وقولاً وعملاً، ويجازي كل إنسان بما عمل من خير وشر:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)} [الكهف: 47].
إن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة كان يَعِدُ المؤمنين به، المبايعين له، وهم يبذلون الأموال والأنفس، ويضحون بالأوقات والشهوات، يعدهم بالجنة على الإيمان والعمل الصالح.
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، واستقبال المكاره، هذه القلوب يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد، بحيث لا تتطلع وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء، إلى أي شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا
الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، والفوز بالجنة.
قلوب مؤمنة مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء، وحرمان وعذاب، وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب، ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة، وغلبة الإسلام، وظهور المسلمين.
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي ذاقت حلاوة الإيمان .. وعرفت ما يجب عليها .. وعلمت أنه ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل .. وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء .. وموعداً كذلك للفصل بين أهل الحق والباطل .. وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت .. أتاها النصر في الأرض .. وائتمنها على الحق لا لنفسها فقط .. ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي .. وهي أهل لأداء الأمانة .. تعمل بالدين .. وتحكم بالدين في حياتها .. وتدعو البشرية إلى الدين.
فقد كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه.
وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاءً إلا رضاه، والفوز بالجنة في الآخرة:
وبعد أن استقرت هذه الحقيقة في نفوس المؤمنين، جاء نصر الله في المدينة بعد أن أصبح المؤمن لا يتطلع إليه، وإنما يتطلع إلى رضوان الله والجنة.
وجاء نصر الله ذاته، لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج ولهذا الدين واقعية في الحياة الإنسانية، تقرره في صورة عملية محددة، وتبرزه في منتهى الجمال والكمال، ويكون قدوة للبشرية كلها إلى يوم القيامة:
في الإيمان .. وفي العبادات .. وفي المعاملات .. وفي المعاشرات .. وفي
الأخلاق.
تراها الأجيال، وتقتدي بها الأمم في كل زمان ومكان.
فلم يكن النصر للمؤمنين جزاء على التعب والنصب والتضحية، وإنما كان قدراً من قدر الله له حكمته ومنافعه، به مكن الله المؤمنين أن يقيموا حياتهم وفق مراد الله، كما يحب الله، أما جزاؤهم فهو ينتظرهم في الآخرة:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
إن الله عز وجل يريد من المؤمنين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها في جميع الأحوال:
أمانة العبادات .. أمانة المعاملات .. أمانة الأخلاق .. أمانة العلم .. أمانة الاستقامة .. أمانة الدعوة .. أمانة الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام.
فيقفون في وجه الشر والفساد والطغيان، ولا يخافون لومة لائم:
سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين كفرعون .. أو الأغنياء المتسلطين بالمال .. أو الأشرار المتسلطين بالأذى .. أو العامة المتسلطين بالهوى ..
وكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فتعم جميع وظائف الدين.
والأمانة تشتمل على ثلاثة أمور:
الأول: اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه، وعدم التفريط به أو التهاون بشأنه.
الثاني: عفة الأمين عما ليس له به حق.
الثالث: تأدية الأمين ما يجب عليه من حق لغيره.
وأداء الأمانة من صفات المؤمنين كما وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 8].
وقد أمرنا الله عز وجل بأداء الأمانات إلى أهلها كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
والأمانة لفظ عام يشمل كل ما استودعك الله أمره، وأمرك بحفظه.
فيدخل فيها حفظ القلوب والجوارح عن كل ما لا يرضي الله .. وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق العباد.
وتعم الأمانات كذلك جميع الواجبات على الإنسان.
سواء كانت واجبة لحق الله كالعبادات من صلاة وصيام ونحوهما، أو كانت واجبة لسبب من الأسباب كالكفارات والنذور ونحوهما من الحقوق الواجبة لله.
أو كانت واجبة لحقوق العباد بعضهم على بعض، بسبب من الأسباب كالودائع والديون ونحوهما.
ويدخل في ذلك الولايات كالإمامة والإمارة والوزارة والرئاسة والوظائف، وغير ذلك مما يؤتمن عليه الإنسان.
فكل ذلك داخل في الأمانة التي أمرنا الله بأدائها.
ويدخل في الأمانة التي يجب حفظها حفظ الجوارح عن المحرمات:
فاللسان أمانة .. والأذن أمانة .. والعين أمانة .. والقلب أمانة .. والبطن أمانة .. والفرج أمانة .. واليد أمانة .. والوقت أمانة .. والمال أمانة .. والأهل أمانة.
فاللسان أمانة يجب على المسلم استعماله في تلاوة القرآن، وقراءة الكتب النافعة، وتعليم أحكام الدين، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، والإصلاح بين الناس، وما أوجبه الله من الأذكار.
يباح استعماله في حاجات المسلم كالبيع والشراء، والحديث النافع من الأهل والضيف.
ويحرم استعماله في الغيبة والنميمة، والسب والشتم، والسخرية والاستهزاء، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك ونحوه فقد خان الأمانة، وقد حذر الله من ذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].
والأذن أمانة يجب على المسلم أن يسمع بها ما ينفعه، وما أمره الله به، كالقرآن والحديث، وما فيه صلاح دينه ودنياه.
ولا يجوز أن يسمع بها ما حرمه الله من السوء والفحشاء، واللغو والسب، والغيبة والنميمة، وإفساد ذات البين، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والعين أمانة يجب على المسلم أن يبصر بها ما أباحه الله له، وما فيه نفعه في العاجل والآجل، كالنظر في ملكوت السموات والأرض، ومصالح معاشه.
ولا يجوز أن ينظر بها إلى ما حرم الله من العورات والنساء الأجنبيات، ومن فعل ذلك فقد خان الأمانة.
والقلب أمانة، يجب عليه أن يملأه بالتوحيد والإيمان، والخوف والخشية من الله، والمحبة له، وتعظيمه، والذل له، والصدق والإخلاص، والخشوع والتقوى.
ولا يجوز أن يملأه الإنسان بالشرك والنفاق، والكبر والحسد، ونحو ذلك، فإن فعل فقد خان الأمانة.
والبطن أمانة، فيجب أن لا يدخل فيه إلا ما أحله الله من الطيبات بلا إسراف.
ومن أدخل بطنه شيئاً من المحرمات من مأكول ومشروب فقد خان الأمانة.
والفرج أمانة فيجب حفظه فيما أحل الله من الزواج والتسري، ومن تجاوز ذلك إلى الزنا والفواحش فقد خان الأمانة.
واليد أمانة فيجب استعمالها في طاعة الله، وكفها عما حرم الله، فمن استعمل يده في السرقة أو الغش أو تناول بها المحرمات أو قتل بها النفوس المعصومة فقد خان الأمانة.
والرجل أمانة، فيجب استعمالها في طاعة الله، كالمشي إلى الصلوات والجهاد، ومجالس العلم والذكر، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام ونحو ذلك.
ومن استعمل قدميه فيما حرم الله كالمشي للإفساد في الأرض، ومواطن الريب، وأماكن اللهو واللعب والخنا، فقد خان الأمانة.
والعقل أمانة، وأداء الأمانة فيه استعماله في طاعة الله ورسوله، بالتفكير في العلوم النافعة، وما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ونحو ذلك.
ومن استعمل عقله في المكر والكيد، والخديعة والظلم، والكذب والتزوير، والحيلة الباطلة، والإضرار بالمسلمين فقد خان أمانة العقل.
والعلم أمانة، وأداء الأمانة فيه العمل به، ودعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه، والصبر على الأذى الذي يحصل بسببه.
ومن لم يعمل بعلمه، ولم يدع الناس إليه، ولم يصبر على ذلك، فقد خان الأمانة.
والنفس أمانة، فيجب حملها على طاعة الله ورسوله، والعمل بالدين، والدعوة إليه، ومن أطلق لنفسه العنان، وتركها ترتع في اللهو والشهوات فقد خان الأمانة.
والوقت أمانة، فيجب حفظه بالعبادة والتعليم والدعوة والأعمال الصالحة، وطلب اللازم من المعاش.
ومن أضاع أوقاته في الشهوات والقيل والقال، والأعمال السيئة فقد خان الأمانة.
والمال أمانة فيجب كسبه من الحلال، وإنفاقه فيما يرضي الله، ونفع النفس والأهل والمسلمين به، ومواساة المحتاجين منه.
ومن اكتسبه من المحرمات، وأنفقه في المحرمات فقد خان الأمانة.
والأهل والأولاد أمانة، فيجب على المسلم رعاية هذه الأمانة، بشكر المنعم بها، وتربية الأهل والأولاد على الحق والدين، والسنن وحسن الأخلاق، بتعليمهم القرآن والسنة، والفقه الشرعي، وترغيبهم في معالي الأمور، وحفظهم من كل ما يضرهم، وأداء حقوقهم.
ومن أرخى لزوجته وأولاده العنان، وترك لهم الحبل على الغارب، يفعلون ما يشاؤون، ويأكلون ما يشاؤون، ويسمعون ما يشاؤون، وينظرون إلى ما يشاؤون، فقد خان الأمانة، وأضاع من تحت يده، وغدر بأقرب الناس إليه.
ومن أعظم الأمانات التي يجب رعايتها، ما ائتمن الله عليه بعض عباده، من ولاية عامة أو خاصة.
فولي أمر المسلمين يجب عليه أداء الأمانة .. بالنصح لرعيته .. وإيصال حقوقهم إليهم .. والحكم بينهم بما أنزل الله .. ونشر العدل والأمن .. والضرب على أيدي العابثين .. والمفسدين في الأرض .. ونصر المظلوم .. وقمع الظالم .. والإحسان إلى الناس .. وتعليمهم الدين .. ونشر الدين .. والجهاد في سبيل الله.
ومن تولى أمور المسلمين فغشهم .. ومنع حقوقهم .. وحكم بينهم بالظلم والجور .. ونشر الفساد .. وقمع الدعاة .. وأسكت العلماء .. وقعد عن نصر الدين ونشره، فقد خان الأمانة.
ويجب على الرعية طاعة إمام المسلمين، وأداء الأمانة له بالسمع والطاعة .. وعدم شق عصا الطاعة .. وعدم الخروج عليه .. ولزوم النصح له .. والتعاون معه على البر والتقوى .. والدعاء له بالهداية والصلاح والنصر.
وتجب طاعة الإمام ما لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
ومن غش الإمام، وشق عصا الطاعة، وخرج عليه ظلماً وعدواناً، فقد خان الأمانة.
والقاضي والأمير والوزير والموظف يجب عليه أن يؤدي الأمانة بالعدل بين الناس والإحسان إلى الخلق، والنصح لهم، وقضاء حوائجهم.
ومن تعمد ظلم الناس وغشهم وأكل أموالهم فقد خان الأمانة.
ألا ما أعظم الأمانة .. وما أشد حملها .. وما أثقل أداءها .. وإنه ليسير على من عرف ربه .. وعرف جزيل إنعامه .. وعرف ثوابها .. وعرف عقوبة الخيانة.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» أخرجه مسلم (1).
والأمانة من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنوح وهود وصالح وغيرهم، كل رسول من هؤلاء قال لقومه:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)} [الشعراء: 107، 108].
وجبريل صلى الله عليه وسلم أمين الوحي كما وصفه الله بذلك بقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} [الشعراء: 192 - 194].
(1) أخرجه مسلم برقم (2582).