الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - فقه الإنابة
وقال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)} [الزمر: 54].
وقال الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود: 88].
الإنابة: هي الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه. وهي تتضمن المحبة والخشية، فإن المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشع ذليل بين يديه.
ومعنى الإنابة: هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه.
وحقيقة الإنابة: عكوف القلب على محبة الله، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن لم يعتكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: 52].
فالإنابة هي الرجوع إلى الحق، وهي نوعان:
أحدها: إنابة لربوبيته سبحانه، وهي إنابة البشر كلهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر كما قال سبحانه:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)} [الروم: 33].
الثاني: إنابة لألوهيته، وهي إنابة أوليائه إليه إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور:
محبة الله .. والخضوع له .. والإقبال عليه .. والإعراض عما سواه، كما قال سبحانه:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 31 - 35].
والصحابة رضي الله عنهم لما آمنوا وأنابوا إلى الله تغير فكرهم .. وتغير عملهم .. وتغيرت عواطفهم .. وتغير جهدهم.
فاجتهدوا للدين حتى صارت الطاعات عندهم شهوات، وصارت المعاصي بمنزلة السموم المهلكة .. واجتهدوا على تحصيل الإيمان والأعمال الصالحة بدل الاستكثار من الأموال والأشياء.
وأكثر المسلمين اليوم اجتهدوا للدنيا حتى صارت الأشياء المادية عندهم شهوات .. وثقلت عليهم الطاعات .. وصارت المعاصي لهم محبوبات .. فالإيمان واحد، والوحي واحد، والقلوب واحدة، ولكن اليقين اختلف.
فالمؤمن يقينه على الإيمان والأعمال الصالحة، وغير المؤمن يقينه على الأموال والأشياء.
والصحابة رضي الله عنهم لكمال إنابتهم ومحبتهم للدين يستأذنون الدين ليعملوا قليلاً للدنيا، ونحن نستأذن الدنيا لنعمل للدين.
والصحابة رضي الله عنهم يحبون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة الله، والدار الآخرة، وكثير من المسلمين يملون مجالس الذكر؛ لأن في قلوبهم عظمة المخلوق، وحب الشهوات.
والصحابة رضي الله عنهم استخدموا أنفسهم وأموالهم وأفكارهم وأوقاتهم للدين، وأكثر المسلمين اليوم استخدموها للدنيا والشهوات.
والناس في إنابتهم إلى ربهم على درجات متفاوتة:
فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة
مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية، والخوف والحذر من سخط الرب وعقوبته.
ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده، وقد حبب إليه فعل الطاعات وأنواع القربات، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء، ومطالعة الوعد والثواب والكرامة من الله عز وجل لعباده المؤمنين.
وهؤلاء أبسط نفوساً، وأشرح صدوراً من أهل القسم الأول، وجانب الرجاء ومطالعة المنة والرحمة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات.
ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء والافتقار إلى الله، وسؤال الحاجات كلها منه، ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة، والغنى والكرم والقدرة.
فأنزلوا به حوائجهم، وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكن إنابتهم الخاصة إنما هي من هذه الجهة.
وأعلى أنواع الإنابة إنابة الروح بجملتها إليه؛ لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم.
وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منها شيء عن الإنابة، فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح.
فلما أنابت الروح بذاتها إليه إنابة محق صادق المحبة، ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه، أنابت جميع القوى والجوارح، فأناب القلب بالمحبة والتضرع .. والذل والانكسار.
وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه شبهة.
وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسية، والأخلاق الذميمة،
والإرادات الفاسدة، وانقادت لأوامره، خاضعة له، وفوضت أمرها إلى مولاها، راضية بقضائه، مسلِّمة لحكمه.
وأناب الجسد بالقيام بالأعمال فرضها وسننها على أكمل الوجوه.
وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة، فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة في مباديها، فإنها عذاب في عواقبها.
فإنابة العبد -ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة- أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره.
فأين إنابة هذا من إنابة من قبله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بل هذه روح منيبة أبداً، وأما أصحاب الإنابات السابقة، فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر، فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ساعة، ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعي نفسه وطبعه.
والله عز وجل يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته كما اجتبى هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وخيرها، وأعظم الكتب وأحسنها.
وهو سبحانه يهدي إليه من ينيب إليه كما قال سبحانه: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} [الشورى: 13].
والله سبحانه هو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، ووصل جوده إلى جميع الموجودات، بحيث لا تستغني عن إحسانه طرفة عين.
وإذا عرف العبد بالدليل القاطع أن الله هو العظيم الذي يملك كل شيء، المنفرد بالنعم كلها، وكشف النقم كلها، وإعطاء الحسنات، وكشف السيئات والكربات وإن أحداً من الخلق ليس بيده من هذا شيء إلا ما أجراه الله على يده، جزم بأن الله هو الملك الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فأقبل عليه، وأناب إليه،
وأعرض عما سواه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107].
ومن اطلع الله على قلبه، وعلم أنه ليس فيه إلا الإنابة إليه، ومحبته، ومحبة ما يقرب إليه، فإنه وإن جرى منه في بعض الأوقات ما هو مقتضى الطبيعة البشرية، فإن الله يعفو عنه، ويغفر له الأمور العارضة غير المستقرة كما قال سبحانه:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)} [الإسراء: 25].