الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - منزلة القلب
قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
الله تبارك وتعالى فضَّل الإنسان، وشرفه على كثير من خلقه، باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله، وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عدته وذخره.
وإنما استعد للمعرفة بقلبه، لا بجارحة من جوارحه، فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات.
يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، واستخدام الإنسان للآلة.
فالقلب هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله، إذا صار مستغرقاً بغير الله.
وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه.
وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره.
وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء بما فيه ينضح، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).
وصلاح العالم وفساده يكون بحسب حركة الإنسان في الحياة، إذ هو قلب العالم ولبه، وصلاح بدن الإنسان وفساده قائم على صلاح القلب وفساده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمَى اللهِ فِي أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ» متفق عليه (1).
والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربَّه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربَّه، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء.
ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الأنفال: 24].
وحيلولته: بأن يمنعه سبحانه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة أسمائه وصفاته.
وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، أنه كيف يهوي مرة إلى أسفل سافلين، وينخفض إلى رتبة الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين.
وحاجة القلب إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله أعظم من حاجة البدن إلى الطعام والشراب.
بل نسبة حاجات القلب إلى الإيمان، ومعرفة الله عز وجل، وحاجات البدن للطعام والشراب كالذرة بالنسبة للجبل، والقطرة بالنسبة للبحر.
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).
وقد خلق الله عز وجل في كل إنسان ثلاث أوانٍ أساسية وهي:
الدماغ
…
والقلب .. والمعدة.
فالدماغ آنية العقل والعلم .. والقلب آنية الإيمان والتوحيد .. والمعدة آنية الطعام والشراب .. فلكل آنية غذاء .. ولك غذاء ثمرة.
فالقلب محل الإيمان والتصديق، واليقين والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، ومعرفته، والانقياد له، والتسليم له سبحانه.
ولذا صار القلب محل نظر الله من العبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم (1).
وأصل العلم الذي يورث العمل .. ويوجب خشوع القلب .. وخشيته لربه .. ومحبته له .. والقرب منه .. والأنس به .. والإقبال عليه .. ولزوم طاعته .. هو العلم بالله .. وهو معرفة أسمائه وصفاته .. وآلائه ونعمه .. وصفات جلاله وجماله .. ثم معرفة وعده ووعيده .. وماذا أعد الله من النعيم للمتقين .. وماذا أعد من العذاب للمجرمين.
ثم يتلوه العلم بأحكام الله .. وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد .. ويستقيم على ذلك إلى أن يموت.
ومن فاته هذا العلم النافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا» أخرجه مسلم (2).
والله تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم .. خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء .. وخلق العين يرى بها الأشياء .. وخلق الأذن يسمع بها الأصوات .. وخلق العقل يعقل به الأشياء ..
(1) أخرجه مسلم برقم (2564).
(2)
أخرجه مسلم برقم (2722).
كما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور وعمل من الأعمال فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للأكل، والأنف للشم، وكذلك سائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، لكل وظيفة وحكمة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له، وأعد لأجله فذلك هو الحق، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه، وللشيء الذي استعمل فيه.
وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالاً، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
وسيد الأعضاء، ورأسها وملكها هو القلب، والفكر للقلب كالإصغاء للأذن.
وصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء:
فيعرف ربه ومعبوده وفاطره .. وما ينفعه وما يضره .. وما يصلحه وما يفسده .. ويعرف أسباب النجاة وأسباب الهلاك .. ويميز بين هذا وهذا .. ويختار ما ينفعه وما يصلحه .. ويعتصم بالله .. ولا يلتفت إلى ما سواه.
والناس متفاوتون في الخلق .. ومتفاوتون في عقلهم الأشياء .. من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير .. وجيد ورديء.
وإذا آمن العبد بالله أكرم الله قلبه بعشر كرامات:
الأولى: الحياة: كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122].
ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وكذلك الله عز وجل خلق القلب، وجعل فيه نور الإيمان، فلا يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب.
الثانية: الشفاء: كما قال سبحانه: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: 14].
فالعسل شفاء الأبدان .. والإيمان شفاء القلوب .. والعلم شفاء من الجهل.
الثالثة: الطهارة: فالصائغ إذا امتحن الذهب مرة لا يدخله النار، وكذلك الله إذا امتحن قلوب المؤمنين لا يدخلهم النار:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3].
الرابعة: الهداية: كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11].
الخامسة: ثبوت الإيمان: فكما أن الورقة إذا كتب فيها قرآن لم يجز إحراقها، فكذلك قلب المؤمن إذا كتب فيه الإيمان لم يجز إحراقه:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} [المجادلة: 22].
السادسة: السكينة: كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)} [الفتح: 4].
السابعة: الإلفة: كما قال سبحانه: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)} [الأنفال: 63].
الثامنة: الطمأنينة: كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} [الرعد: 28].
التاسعة: المحبة: كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].
العاشرة: الزينة والحفاظة من السوء: كما قال سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7].