المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته - موسوعة فقه القلوب - جـ ٢

[محمد بن إبراهيم التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)} [محمد: 19].

وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98].

العلم بالله ما قام عليه الدليل، وهو تركة الأنبياء التي يرثها العلماء عنهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين.

وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال.

وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد.

وبه يُعرف الله ويُعبد، ويُذكر ويحمد، وبه تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام.

وهو حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى ربهم وإلى جنته، ولا دليل إلى الله والجنة إلا الكتاب والسنة.

وأفضل ما اكتسبته النفوس، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان كما قال سبحانه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} [المجادلة: 11].

وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية في الدنيا والآخرة.

وأكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان، اللَّذَين بهما السعادة والرفعة، وأكثرهم ليس معهم إيمان ينجي، ولا علم يرفع، بل قد سدوا على أنفسهم طرق العلم والإيمان اللَّذين جاء بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليهما الأمة.

وكل طائفة اعتقدت أن العلم معها وفرحت به: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ

ص: 1506

حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون: 53].

وأعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل.

وأخس الهمم في طلب العلم من قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، وشغل الأوقات والناس بذلك، وكانت همته معرفة الاختلاف، وتتبع أقوال الناس، وضرب بعضها ببعض، وشحن أذهان الناس بذلك:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101].

وأعلى الهمم في باب الإرادة والعمل، أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله، والوقوف مع مراده الديني الأمري.

وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله لا غير، فهو إنما يعبد الله لمراده منه، لا لمراد الله منه.

فالأول: يريد الله، ويريد مراده من الله، والثاني يريد من الله وهو فارغ عن إرادته.

ولذة العلم أعظم اللذات، واللذة التي يجد الإنسان طعمها في الحياة، والتي تبقى بعد الموت، وتنفع في الآخرة، هي لذة العلم بالله وأسمائه وصفاته، ولذة مناجاته وعبادته، وهي لذة الإيمان والأعمال الصالحة.

فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه.

وفضيلة الشيء وشرفه يظهر تارة من عموم منفعته .. وتارة من شدة الحاجة إليه .. وتارة من ظهور النقص والشر بفقده .. وتارة من حصول اللذة والسرور والبهجة بوجوده .. وتارة من كمال الثمرة المترتبة عليه وإفضائه إلى أجلّ المطالب.

وهذه الجهات بأسرها حاصلة للعلم، فإنه أعم شيء نفعاً، وأكثره وأدومه، والحاجة إليه فوق الحاجة إلى الغذاء، بل فوق الحاجة إلى التنفس.

والعلم ملائم للنفوس غاية الملاءمة، والجهل مرض ونقص، وهو في غاية

ص: 1507

الإيذاء والإيلام للنفس.

والعلوم غذاء للقلوب .. والأطعمة غذاء للأبدان .. والعلوم متفاوتة أعظم التفاوت وأبينه كالأطعمة.

فليس علم النفوس بفاطرها وبارئها ومبدعها، ومحبته والتقرب إليه، كعلمها بالطبيعة وأحوالها.

وشرف العلم تابع لشرف المعلوم، ولا ريب أن أجلّ معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السموات والأرضين، الملك الحق المبين.

فأجل العلوم وأفضلها وأشرفها هو العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، بل هو أصلها كلها.

فإن العلم الإنساني لا يساوي ذرة بالنسبة للعلم الإلهي، وما يعلمه الإنسان من العلوم لا يساوي ذرة بالنسبة لما لا يعلمه، والعلم بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه.

فهو في ذاته سبحانه رب كل شيء ومليكه، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه، فمن عرف ربه عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، والأنعام السائمة خير منه.

ولا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم للقلب من معرفة ربه، ومحبة فاطره وباريه، ودوام ذكره، والسعي في مرضاته، وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه.

وله خلق الخلق .. ولأجله نزل الوحي .. وأرسلت الرسل .. وقامت السموات والأرض .. وخلقت الجنة والنار.

ولأجله شرعت الشرائع، وقام سوق الجهاد، وضربت أعناق من أباه، وآثر غيره عليه.

ولا سبيل إلى الدخول إلى ذلك والمنافسة فيه إلا من باب العلم، فإن محبة

ص: 1508

الشيء فرع عن الشعور به.

وأعرف الخلق بالله أشدهم حباً له وخضوعاً له وتعظيماً له، والعلم يفتح الباب العظيم الذي هو سر الخلق والأمر.

ومن أحب شيئاً كانت لذته عند حصوله على قدر حبه إياه، والحب تابع للعلم بالمحبوب، ومعرفة جماله الظاهر والباطن.

فلذة النظر إلى الله بعد لقائه بحسب قوة حبه وإرادته، وذلك بحسب العلم به وبصفات كماله.

فالعلم أقرب الطرق إلى أعظم اللذات، وكل ما سوى الله مفتقر إلى العلم، فالخلق والأمر مصدرهما علم الرب وحكمته، وما قامت السموات والأرض إلا بالعلم، وما بعثت الرسل إلا بالعلم، وما أنزلت الكتب إلا بالعلم، ولا عُبد الله وحده وحُمد وأُثني عليه ومُجد إلا بالعلم، ولا عُرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عُرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم.

ومعرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومحبته وطاعته، والتقرب إليه، وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته، والله يستحقه لذاته.

وهو سبحانه المحبوب لذاته، الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له، فهو يستحق ذلك؛ لأنه أهل أن يُعبد، ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، ولو لم يضع ثواباً ولا عقاباً.

فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته، ولما له من أوصاف الكمال والجلال والجمال.

وحبه عز وجل والرضا به وعنه، والذلة والخضوع له والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك، كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه.

والطريق إلى العلم بأن الله لا إله إلا هو أمور:

أحدها: بل أعظمها تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته، وجلاله وجماله، فإن معرفة ذلك يوجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب

ص: 1509

الكامل الذي له كل حمد ومجد، وجلال وجمال.

الثاني: العلم بأن الله وحده المتفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المتفرد بالألوهية والعبودية.

الثالث: العلم بأن الله وحده هو المتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به، ومحبته وعبادته وحده لا شريك له.

الرابع: العلم بنصره لأوليائه، وخذلان أعدائه، فإن ذلك يوجب التعلق به وطاعته، والحذر من معصيته، وإخلاص العبادة له.

الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك ولا يملك عابدوها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة، ولا تجلب خيراً، ولا تدفع شراً.

فالعلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله، وتعلق القلب به، وبطلان ألوهية ما سواه.

وتدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته هو الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد، ومعرفة الله بآياته ومخلوقاته، ومعرفة جلاله وجماله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].

وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الإقبال على الطاعات، والانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه:{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر: 28].

والعلم بعظمة الله وكبريائه داع إلى خشيته، وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال سبحانه:{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} [البينة: 8].

فأشرف العلوم وأزكاها، وأعلاها وأعظمها، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.

ص: 1510

فلا بدَّ للعبد الضعيف العاجز .. الفقير المحتاج .. الظلوم الجهول .. الذي لا يستغني عن ربه طرفة عين أن يعرف ربه الذي يربيه بنعمه الظاهرة والباطنة، وأن يعرف إلهه ومعبوده الذي تكفل بكل ما يحتاجه العباد:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُنِي فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي، فَأغْفِرَ لَهُ» متفق عليه (1).

لا بدَّ لهذا العبد أن يعرف أن ربه هو القوي وحده؛ ليستعين به وحده.

ويعرف أن ربه هو الغني وحده؛ ليطلب منه وحده كل ما يحتاجه.

ويعرف أن ربه هو العفو وحده؛ فيطلب منه مسامحته.

ويعرف أن ربه هو الغفور وحده؛ ليطلب منه مغفرة ذنوبه.

ويعرف أن ربه هو الملك وحده؛ فيتوجه إليه بالطاعة والعبودية وحده.

ويعرف أن ربه هو الرحمن؛ ليطلب منه الرحمة.

ويعرف أن ربه هو اللطيف؛ ليسأله اللطف به.

ويعرف أن ربه هو الكريم؛ ليشكره على إحسانه وإنعامه.

ويعرف أن ربه هو العزيز؛ فيطلب منه أن يعزه في الدنيا والآخرة.

ويعرف أن ربه الكبير؛ ليكبره، وأنه العظيم؛ ليعظمه، وأنه الخالق؛ فيخصه بالعبادة وحده دون سواه.

ويعرف أن ربه العليم بكل شيء؛ فيسأله أن يعلمه، ويحذر من معصيته.

ويعرف أن ربه الحي القيوم؛ ليسأله أن يكلأه ويحفظه.

ويعرف أن ربه الرزاق؛ ليسأله أن يرزقه.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1145)، واللفظ له، ومسلم برقم (758).

ص: 1511

وهكذا في بقية الأسماء يتعلمها، ويحفظها، ويعبد الله بمقتضاها:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].

وقد ذكرنا تفصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله في الباب الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه.

إن معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله هي الفقه الأكبر، وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وهي أساس دعوة الرسل، إذ لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها وفاطرها ومعبودها، وأن يكون أحب إليها مما سواه، وأن تسعى فيما يقربها إليه دون سائر خلقه.

والعقول محال أن تستقل بمعرفة ذلك فاقتضت رحمة الله أن بعث الرسل إلى خلقه مبشرين ومنذرين، وبه معرفين، وإليه داعين.

وجعل لب دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة الرب المعبود بألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:

الأول: تعريف الناس بالطريق الموصل إليه، وهو شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.

الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه في الآخرة، من النعيم المقيم لمن أطاعه وآمن به، والعذاب الأليم لمن كفر به وعصاه.

والله عز وجل رؤوف بالعباد، جواد كريم، عفو غفور، وليس العجب من مملوك فقير عاجز يتذلل لله ويتعبد له، ولا يمل من خدمته مع حاجته وفقره إليه.

إنما العجب الذي يأخذ الألباب والعقول من مالك غني قادر يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.

والله عز وجل محسن، والعبد مسيء أو مفرط أو مقصر، فطوبى لعبد إن آخذه ربه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله.

وإن عمل حسنة رآها من منَّته، وإن عمل سيئة رآها من تخلِّيه عنه وخذلانه له.

ص: 1512

فإن عذبه عليها فبعدله، وإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده.

ومن أعجب الأشياء:

أن تعرف الله بجلاله وجماله ثم لا تحبه ولا تطيع أمره.

وأن تسمع داعيه يدعوك إليه ثم لا تجيبه.

وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره وتعرض عنه.

وأن تعرف قدر حلمه وعفوه ومغفرته ثم لا تقف ببابه.

وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له بالمنكرات والمعاصي: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].

فسبحان الله ما أضعف بصائر العباد؟.

كيف يُخاف ويُرجى من لا حول له ولا قوة، ولا يملك مثقال ذرة؟.

بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان، ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه.

فإنه على قدر خوفك من غير الله، يسلطه الله عليك، وعلى قدر رجائك لغير الله يكون الحرمان.

وأساس كل خير أن يعلم العبد أن الله يراه ويسمعه، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن مقاليد الأمور كلها بيد الله وحده.

وحينئذ يتيقن العبد أن الحسنات من نعم الله فيشكره عليها.

ويتضرع إليه أن لا يقطعها عنه.

وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فيبتهل إليه أن يحول بينه وبينها، وأن لا يكله في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه.

والعارف: هو من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في نيته ومقصوده وعمله.

ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة، وآفاته المشينة.

ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه

ص: 1513

وبلياته.

ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله.

ومن علامات المعرفة بالله حصول الهيبة منه، وحصول السكينة، فمن ازدادت معرفته بربه، ازدادت هيبته وسكينته، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

ومن عرف الله تعالى بكماله وجلاله وجماله ضاقت عليه الدنيا بسعتها شوقاً إلى ربه، فالدنيا سجن المؤمن، واتسع عليه كل ضيق؛ لأطمئنانه بربه وثقته به.

ومن عرف الله عز وجل قرت عينه بالله، وقرت عينه بالموت، وقرت به كل عين، وصفا له العيش، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق.

ومن عرف الله تبارك وتعالى لم يبق له رغبة فيما سواه، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وتلذذ بذكره وعبادته، وخافه ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجله وعظمه على قدر معرفته به.

والعارف لا يطالب ولا يخاصم ولا يعاتب، ولا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقاً، ولا يأسف على فائت، ولا يفرح بآت.

ولا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض صبوراً يطؤها البر والفاجر، ونافعاً كالسحاب نافعاً يظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب، وكالشمس ينور كل ما مر به.

والعارف ملازم لشيئين:

بكاء على نفسه .. وثناء على ربه.

وذلك لعلمه ومعرفته بنفسه وآفاتها وعيوبها، ومعرفته بربه وكماله وجلاله.

والعارف أنسه بربه، ووحشته ممن يقطعه عنه، أنس بالله فأوحشه من الخلق، وافتقر إلى الله فأغناه عنهم، وذلَّ لله فأعزه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأحوجهم إليه.

ص: 1514

والمعرفة حياة القلب مع الله والأنس به، وعبادته بما يرضيه.

والمعرفة على ثلاث درجات:

الدرجة الأولى: معرفة أسماء الله وصفاته، فلا يستقر للعبد قدم في المعرفة ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه.

فالإيمان بالأسماء والصفات هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان.

ولما كان أحب الأشياء إلى الله مدحه وحمده والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر بالله، وهو شر من الشرك وأقبح.

فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه، والتشريك بينه وبين غيره في الملك.

فالمعطلون أعداء الرسل بالذات، بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه وظن السوء به لما أشرك به.

كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86، 87].

أي ما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟.

أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟.

أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرِّفه كالملوك؟.

أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟.

أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟.

أم هو ذليل محتاج إلى أولياء يتكثر بهم من قلة، ويتعزز بهم من ذلة؟.

أم يحتاج إلى ولد يساعده ويرث عنه ملكه، فيتخذ صاحبة يكون له الولد منها ومنه؟.

ص: 1515

تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 116، 117].

فسبحان الله أين العقول والبصائر؟ وأين القلوب والألباب؟.

أيليق بالعاقل أن ينكر مدبر هذا الكون؟.

أم يليق به أن يجعل معه شريكاً في التصريف والتدبير؟.

فيسأله ويدعوه، ويرجوه ويخافه.

ألا ما أعظم تلاعب الشيطان بالعباد، حتى حطهم إلى هذه الدرجة السافلة في الاعتقاد والعمل.

فلا يليق بهم يوم القيامة إلا الحرمان من الجنة، ودخولهم النار:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].

فالتعطيل من الشرك وأساسه، فلا تجد معطلاً إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر.

والرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم أُرسلوا بالدعوة إلى الله، وبيان الطريق الموصِّل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه.

فعرَّفوا المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفاً مفصلاً حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه: يكلم ملائكته .. ويدبر أمر مملكته .. ويسمع أصوات خلقه .. ويرى أفعالهم وحركاتهم .. ويبصر ظواهرهم وبواطنهم.

ويشاهدونه كل يوم:

يأمر وينهى .. ويرضى ويغضب .. ويحب ويسخط .. ويغيث الملهوف .. ويكرم أهل طاعته .. ويهين أهل معصيته .. ويحيي ويميت .. ويعطي ويمنع .. ويجبر الكسير .. ويجيب المضطر .. ويؤتي الملك من يشاء .. وينزع الملك ممن يشاء ..

ص: 1516

ويعز من يشاء .. ويذل من يشاء.

كل يوم هو في شأن:

يغفر ذنباً .. ويفرج كرباً .. وينصر مظلوماً .. ويقصم ظالماً .. ويهدي ضالاً .. ويرحم مسكيناً .. ويشفي مريضاً .. ويقضي ديناً .. ويسهل عسيراً.

يُقدم ما يشاء تقديمه .. ويؤخر ما يشاء تأخيره .. وأزمة الأمور كلها بيده وحده لا شريك له.

فطوبى لعبد رزقه الله هذه المعرفة فعبد الله كأنه يراه.

وكذلك عرَّف الرسل العباد بالطريق الموصِّل إلى الله، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم، وهو امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإيمان بوعده ووعيده.

وكذلك تعريف العباد ما لهم بعد الوصول إليه، وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار، وما قبل ذلك من الحساب والميزان، والصراط والحوض.

وقد جاء الوحي بإثبات صفات الرب، وظهرت شواهدها في المخلوقات، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، والصور تدل على وجود المصور سبحانه، والنعم تدل على وجود المنعم.

ويظهر شاهد اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحمن من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة.

ويظهر اسم الحليم من حلمه على الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم.

ويظهر اسم الغفور والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة.

وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله.

فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسماء الله وصفاته وأفعاله.

الدرجة الثانية: معرفة الذات.

ص: 1517

فإذا استمر عكوف القلب على الله عز وجل، ونظر قلبه إليه كأنه يراه سبحانه، ويرى تفرده بالخلق والأمر، والنفع والضر، والعطاء والمنع فقد كملت وتمت معرفة العبد لربه.

وكلما تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد من ذاته، ولا بغير تعريف الحق له.

وعرف أن الله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، وقادر على كل شيء، وعالم بكل شيء، ومحيط بكل شيء.

وهذا يوصله إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال والجلال والجمال.

الدرجة الثالثة: معرفة مستغرقة في محض التعريف.

فالمعرفة: صفة العبد وفعله، والتعريف: فعل الرب وتوفيقه.

فالله عز وجل هو الذي عرَّف العبد فعرف، ولولا فضل الله ما وجد، ولا علم، ولا آمن، ولا اهتدى.

وهذه مرتبة شريفة وفضل من الله، فهو الذي خلق الإنسان وعلمه ما لم يعلم، وصاحب هذه المعرفة كلما كانت معرفته أتم كان قربه من ربه أتم.

ويجب على كل عبد أعطاه الله عقلاً يدرك به حقائق الأشياء أن يعرف ربه .. ونفسه .. ودنياه .. وآخرته.

فإذا عرف ربه .. نشأ من ذلك محبة الله وتعظيمه، وطاعته وعبادته.

وإذا عرف نفسه .. نشأ من ذلك الحياء والخوف من ربه.

وإذا عرف دنياه .. نشأ من ذلك شدة الرغبة عنها.

وإذا عرف آخرته .. نشأ من ذلك شدة الرغبة فيها.

والناس في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله متفاوتون، حسب كمال المعرفة ونقصها.

فمنهم من يعرف ربه بالجود والإفضال والإحسان.

ومنهم من يعرفه بالعفو والحلم، والتجاوز والصفح.

ص: 1518

ومنهم من يعرفه بالبطش والانتقام.

ومنهم من يعرفه بالعلم والحكمة .. ومنهم من يعرفه بالقوة والقدرة .. ومنهم من يعرفه بالعزة والكبرياء .. ومنهم من يعرفه بالرحمة واللطف .. ومنهم من يعرفه بالقهر والملك .. ومنهم من يعرفه بالرقابة والحفظ .. ومنهم من يعرفه بإجابة دعوته، وإغاثة لهفته، وقضاء حاجته.

وأكمل هؤلاء من عرفه بجميع أسمائه وصفاته، ونعوت جلاله.

فرأى ربه فعالاً لما يريد، فوق كل شيء، قادراً على كل شيء، خالقاً لكل شيء، أكبر من كل شيء، وبيده كل شيء، وخزائنه مملوءة بكل شيء:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} [يونس: 68].

وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه العارفون بما يستحقه مولاهم من أوصاف الجلال ونعوت الكمال، وبما أسداه إلى عباده من الإنعام والإفضال، وبما يستحيل عليه سبحانه من العيوب والنقائص، والتحول والزوال، وما يجوز له فعله من الأمر والنهي، والوعظ والزجر، والبعث والإرسال، والتبشير والإنذار، والحشر والنشر، والثواب والعقاب، والإهانة والإجلال.

فهم لا يعبدون سواه، ولا يبغون إلا رضاه.

قد أحضرهم لديه، فلا يشكون إلا إليه، ولا يتوكلون إلا عليه، فهم في رياض معرفته حاضرون، وإلى كمال صفاته ناظرون:

إن نظروا إلى جلاله هابوه .. وإن نظروا إلى جماله أحبوه.

وإن نظروا إلى إحسانه شكروه .. وإن نظروا إلى شدة نقمته خافوه.

وإن نظروا إلى سعة رحمته رجوه .. وإن نظروا إلى آلائه وإنعامه حمدوه.

وإن نظروا إلى أمره ونهيه أطاعوه .. وإن نظروا إلى ندائه أجابوه.

وإن نظروا إلى توحده بالأفعال لم يتكلوا إلا عليه.

وإن نظروا إلى اطلاعه عليهم استحوا أن يخالفوه.

ص: 1519

فهم في هذه الرتب مختلفون، وأفضلهم في هذه الدار أعلاهم غداً في دار القرار:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].

وأهم المعارف محصور في أمرين:

معرفة الربوبية .. ومعرفة العبودية.

وكمال معرفة الربوبية بينه الله بقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4].

أما معرفة العبودية فلها مبدأ وكمال .. وأول وآخر.

أما أولها ومبدؤها فهو الاشتغال بالعبودية، وهو المراد بقوله سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

وأما كمالها وآخرها فهو أن يعرف العبد أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله.

فعند ذلك يستعين بالله في تحصيل المطالب كلها، وهو المراد بقوله سبحانه:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

فعلينا إذا عرفنا الله أن نطيعه .. وإذا قرأنا القرآن فيجب أن نعمل به .. وإذا كنا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن نعمل بسنته .. وإذا عرفنا الشيطان فيجب أن نحذره ولا نوافقه.

وإذا كنا نحب الجنة فيجب أن نعمل لها .. وإذا كنا نخاف الله فيجب أن نقلع عن الذنوب .. وإذا عرفنا أن الموت حق فيجب أن نستعد له .. وإذا عرفنا أننا نأكل من رزق الله فيجب أن نشكره .. ونستحي منه، فلا نأكل من رزقه ونعصيه.

وعلينا أن نعمل للدنيا بقدر بقائنا فيها .. ونعمل للآخرة بمقدار بقائنا فيها.

ونعمل لله بمقدار حاجتنا إليه .. ونعمل من المعصية بقدر ما نطيق من حرارة النار، وهيهات ما لأحد بنار جهنم من طاقة.

والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه.

واليقين: هو أن نعلم أن الفوز والفلاح، والسعادة والنجاة، وجميع المخلوقات

ص: 1520

كلها بيد الله وحده لا شريك له.

والإنسان إذا جاء في قلبه نور الإيمان رأى كل شيء على حقيقته.

الدنيا والآخرة .. الأموال والأشياء .. الأعمال والأخلاق .. وكما أنه إذا طلعت الشمس ميز الإنسان الحجر من الذهب، فأخذ الذهب وترك الحجر، فكذلك بنور الإيمان يقدم المسلم الآخرة على الدنيا، ويؤثر الأعمال الصالحة على جمع حطام الدنيا، ويعمل لآخرته بقدر طاقته، ويأخذ من الدنيا بقدر حاجته.

والعلم من أحسن الصفات التي تحصل بها اللذة، وهو درجات.

فأعلاها: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ودينه وشرعه.

فالعلم بالله وأسمائه وصفاته ألذ العلوم وأشرفها وأعظمها.

ولذة القلب بمعرفة الله تعالى أعظم من لذة البدن بالأكل والشرب، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته في لقاء الله تعالى ورؤيته ورضوانه وسماع كلامه.

ولذة النظر إلى الله يوم القيامة تزيد على لذة المعرفة به في الدنيا، وما فوقها لذة.

نسأل الله أن يبلغنا وسائر المسلمين إياها.

فالعارف حقاً من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف دينه وشرعه، ثم صدق الله في معاملته، وأخلص له العمل.

يعتزل الخلق فيما بينه وبين الله، حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضراً ولا نفعاً.

ويتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية أخرى، ويتقلب في محاب الله ومراضيه، جاهداً في إصلاح نفسه وفي إصلاح غيره.

فتراه مصلياً .. ذاكراً .. تالياً لكتاب ربه .. داعياً إلى الله .. معلماً للكتاب والسنة .. متعلماً .. متفقهاً .. منفقاً .. متصدقاً .. حاجاً .. صائماً .. مجاهداً .. ناصحاً .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. واصلاً لرحمه .. محسناً إلى الخلق .. مواسياً للفقراء .. وهكذا قلبه متعلق بالآخرة .. متأهب للقدوم على ربه .. معرض عن الدنيا.

ص: 1521

قلبه وجوارحه متحركة فيما يرضي ربه .. مجتنبة لما يسخطه .. وألذ شيء لديه خلوته بربه والقيام بين يديه.

مسبحاً له تارة .. ومكبراً له تارة .. وحامداً له تارة .. ومستغفراً له تارة .. وسائلاً له تارة

ومعظماً له تارة.

فإذا حصل له ذلك فتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لا يكاد يشبع منها، إذ يجد فيها اللذة والراحة.

فإذا دخل في الصلاة ودّ أن لا يخرج منها؛ لأنه يناجي مولاه، ويعبد الله كأنه يراه.

ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله وتلاوته فلا يشبع منه.

ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به، وعظمة أسمائه وصفاته، وجلاله وجماله.

ثم يُفتح له باب الحياء من الله فيستحي منه، ويُرزق دوام المراقبة للرقيب.

ثم يفتح له باب الشعور بالقيومية، فيرى تقلبات الكون وتصاريف الوجود بيده سبحانه فيتخذه وكيلاً، ويرضى به مدبراً وكافياً.

وهكذا يترقى من معرفة إلى معرفة، ومن عمل إلى آخر، ومن منزلة إلى منزلة، حتى يلقى ربه مجاهداً صابراً محتسباً.

ومعرفة الله عز وجل تقوم على ثلاثة أركان:

الهيبة .. والحياء .. والأنس.

فإذا عرف قدرة الله وقوته وعظمته وجلاله جاءت عنده صفة الهيبة.

وإذا عرف نعم الله عليه وعلى غيره مع قلة الشكر، وكثرة المعاصي، جاء عنده الحياء.

وإذا عرف لطف الله ورحمته، وكرمه وجوده، وإنعامه وإحسانه، جاء عنده الأنس بالله، والوحشة من الخلق.

وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان بالله، والمعرفة به،

ص: 1522

وإخلاص العبادة له، فليهنأ بذلك من رزق ذلك:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].

فيا منفقاً بضاعة العمر في مخالفة حبيبه، والبعد عنه.

أما لك في رضا الرحمن من نصيب؟ .. أما لك في الجنة من شوق؟.

ونور العلم لم يحجب عن القلوب لبخلٍ ومنعٍ من جهة المنعم سبحانه، ولكنه حُجب لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب.

فالقلوب كالأواني ما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء، فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله، ولولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.

وليس المقصود من العلم العمل فقط، بل المقصود الإيمان والعمل، ولو كان المقصود من العلم العمل فقط لكان المنافقون في الجنة، لكنهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم يعملون بلا إيمان.

وعلم الرب شيء، ومعرفة الرب شيء آخر، وطريق معرفة الرب هو الميدان، والله سبحانه علمنا كيف تعرف موسى على ربه في الميدان في الوادي المقدس طوى، عند الشجرة حين ناداه الله فعلمه التوحيد نظرياً بقوله:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14].

ثم عرَّفه الإيمان عملياً بتقليب حال العصا أمامه في الحال، فقال له:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)} [طه: 17 - 21].

ثم أمره الله بعد ذلك أن يذهب إلى فرعون، فلما ذهب موسى إلى فرعون ما خاف منه؛ لأنه عرف أن ربه معه، وقبل ذلك كان موسى في قصر فرعون عنده علم الرب، ولما خرج إلى مدين جاء عنده معرفة الرب، معرفة الإيمان بالله الذي بيده كل شيء.

ص: 1523

والتربية الإيمانية لها شروط:

أهمها عدم الالتفات إلى الأسباب؛ لأن قدرة الله تظهر إذا انقطعت الأسباب وتوجه المؤمن إلى ربه، فقدرة الله مخفية وراء الأسباب، مع الأسباب لا تظهر.

فترك موسى صلى الله عليه وسلم زوجته وماله .. ولما اقترب قيل له: اخلع نعليك .. ولما اقترب أكثر قيل له: ألق عصاك وهي نافعة .. ثم قيل له خذها وهي ضارة؛ ليعلم أن كل شيء بيد الله، والله يفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وموسى تعلم التربية بأقسامها الثلاثة في الميدان:

التربية البدنية .. ثم التربية الأخلاقية .. ثم التربية الإيمانية.

تعلم التربية البدنية في قصر فرعون، فلقوته قتل القبطي، ورفع الحجر وحده عن بئر مدين، ولطم ملك الموت .. ثم أخرجه الله إلى مدين ليتعلم التربية الأخلاقية؛ لأن الدعوة لا بدَّ أن يكون معها أخلاق من الرفق والرحمة، والحلم والصبر، فرعى الغنم في مدين عشر سنين، وكل نبي رعى الغنم؛ لأن رعي الغنم شبيه برعاية البشر .. ثم نقله الله إلى ميدان آخر، وهو التربية الإيمانية، في البقعة المباركة من الشجرة، كما قص الله ذلك في القرآن في سورة طه والقصص وغيرهما.

والصحابة رضي الله عنهم لما هاجروا إلى المدينة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد رباهم عملياً على معرفة الرب، ومعرفة قدرته، فجاءت عليهم في المدينة أحوال شديدة، أصابتهم الحمى، ولا يولد لهم مولود لمدة سنتين، وصاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء، وهزلت أجسامهم.

ولكن لما كانت تربيتهم قوية لم يتأثروا بذلك، فهي إعداد لهم، وترقية لإيمانهم، فقد واجهوا الكفار بعد ذلك في بدر بلا عدد ولا عدة فهزموهم بإذن الله.

ففي مكة كان مصنع الرجال، وتربية الرجال، وفي المدينة كان استخدام الرجال في الميدان.

ص: 1524

لذلك في مكة لما أوذي المسلمون لم يدعُ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأنهم في ميدان التربية، لكن في بدر دعا لهم بقدر حاجتهم كما قال سبحانه:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9، 10].

فأظهر الله لهم قدرته، ونصرهم وأعزهم.

ففي غزوة بدر أظهر الله قدرته، فأمد المؤمنين بألف من الملائكة، ثم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف يقاتلون مع المؤمنين، وكان يكفي ملك واحد لتدمير هؤلاء وديارهم كما فعل جبريل بقوم لوط، ولكن الله فرح بخروج هؤلاء المؤمنين لنصرة دين الله، وإعلاء كلمته، ثم قال الله للملائكة إني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا، ثم بين لهم أن النصر من عند الله، ينصر من ينصره لنفي اليقين عن الملائكة، حتى لا يكون التوجه إلا إلى الخالق سبحانه، ثم نصرهم الله مع أن أحوالهم ليس فيها من مقومات النصر شيء كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران: 123].

لذلك ربى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على الدين وعلى الجهد للدين، وبسبب جهدهم للدين صارت أوامر الله غالية عندهم، لا يفرطون بها، يبذلون أموالهم وأنفسهم من أجلها، ويتركون ديارهم وشهواتهم من أجلها.

فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس قدوة للأمة في الصلاة فقط، بل هو إمام وقدوة في كل شيء، في العبادات، والمعاملات، والدعوة، والجهاد.

ص: 1525