الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - أهل التكليف
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
وقال الله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام: 130].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف: 29].
الجن والإنس هم الثقلان، وهم مكلفون مأمورون منهيون، داخلون تحت شرائع الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس.
والجن والإنس كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاص بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم.
ومن قبله من الأنبياء كان يبعث إلى طائفة مخصوصة من الجن والإنس.
والجن والإنس كما هم مأمورون منهيون، فهم كذلك مثابون معاقبون، محسنهم في الجنة، ومسيئهم في النار.
فالجن منهم المسلم والكافر .. والبر والفاجر .. والمطيع والعاصي كالإنس كما قال الله عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 14، 15].
وقال سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن: 11].
فالجن ثلاث طبقات:
الصالحون .. ودون الصالحين .. والكفار.
والإنس ثلاث طبقات:
أبرار .. ومقتصدون .. وكفار.
ولما كان الإنس أكمل من الجن، وأتم عقولاً منهم زادوا عليهم بثلاثة أصناف أخرين، ليس منها شيء في الجن وهم:
الرسل .. والأنبياء .. والمقربون.
فليس في الجن صنف من هؤلاء بل جبلتهم الصلاح.
فكفار الجن ككفار الإنس في النار كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].
وقال الله سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13].
والمؤمنون من الجن كالمؤمنين من الإنس في الجنة، كما قال سبحانه للجن والإنس:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
وقال الله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن: 46، 47].
والنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، إلى جميع الثقلين الجن والإنس.
والجن مكلفون كتكليف الإنس:
المؤمنون منهم في الجنة .. والكفار منهم في النار.
ففي الجن المؤمنون، والكفار، والمشركون، والفساق، والعصاة.
وفيهم من يعبد الله بعلم، وفيهم من يعبد الله مع الجهل كالإنس.
وكل نوع من الجن يميل إلى نظيره من الإنس:
فاليهود مع اليهود .. والنصارى مع النصارى .. والمشركون مع المشركين .. والمسلمون مع المسلمين .. والمنافقون مع المنافقين .. والفساق مع الفساق .. وأهل البدع مع أهل البدع.
واستخدام الإنس للجن، مثل استخدام الإنس للإنس في شيء.
فمن الإنس من يستخدم الجن في المحرمات من الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم، وهذا محرمن وهو من أفعال الشياطين.
ومنهم من يستخدمهم في أمور مباحة لجلب ما ينفعه أو لدفع ما يضره، أو إحضار ماله، أو دلالة على مال ليس له مالك معصوم، ونحو ذلك، فهذا مباح كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك.
ومنهم من يستعملهم في طاعة الله ورسوله، كما يستعمل الإنس في ذلك، فيأمرهم بما أمره الله ورسوله به، وينهاهم عما نهاهم لله ورسوله عنه، كما يأمر الإنس وينهاهم.
وهذه حال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال من اتبعه واقتدى به من أمته، وهم أفضل الخلق لقيامهم بالدعوة إلى الله لعموم الثقلين.
والذين يستخدمون الجن في المباحات، يشيه استخدام سليمان صلى الله عليه وسلم لهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستخدم الجن أصلاً، لكن دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وهذا أفضل شيء، وأعظم شيء.
وسليمان صلى الله عليه وسلم أعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وسخرت له الإنس والجن، والريح والطير، وهذا لم يحصل لغيره.
والإنسان من حيث هو إنسان عار عن كل خير من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح:
فهو ضعيف كما قال الله عنه: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28].
وهو ظلوم كفار كما قال الله عنه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34].
وهو ظلوم جهول كما قال الله عنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72].
وهو عجول في أموره كما قال الله عنه: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ
الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11].
وهو قتور عند الإنفاق كما قال الله عنه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} [الإسراء: 100].
وهو مجادل معاند مع ظهور الحق له كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} [الكهف: 54].
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بالإيمان والعلم، والتقوى والعدل، ولا خروج له عن الأخلاق الرديئة إلا بتزكية الله له كما قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)} [النساء: 49].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ! آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» أخرجه مسلم (1).
والله جل جلاله هو الخلاق العليم، وهو على كل شيء قدير، خلق الدنيا والآخرة، وخلق الجنة لأهل طاعته، وخلق النار لأهل معصيته.
وخلق سبحانه المخلوقات الظاهرة والباطنة على أربع مراتب:
الأولى: مخلوقات عاقلة، ظاهرة وباطنة، يصدر منها الخير والشر، وهم المكلفون من الإنس والجن.
الثانية: مخلوقات ظاهرة، خلقها الله وخلق آثارها كالشمس التي خلقها الله، وخلق فيها الأثر وهو النور، وخلق النبات والأشجار، وخلق فيها الأثر وهو الثمار، وخلق اللسان، وخلق فيه الأثر وهو الكلام.
الثالثة: مخلوقات عاقلة باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل خير، وهم الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم الذين يدبرون هذا الكون بأمر الله سبحانه.
الرابعة: مخلوقات باطنة، ترى آثارها وهي لا ترى، ويصدر منهم كل شر، وهم
(1) أخرجه مسلم برقم (2722).
إبليس وذريته من الشياطين.
وخالق هذا الكون، وخالق هذه الأرض، وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض، وهو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات، التي تسمح بحياة هذا الجنس البشري على ظهر هذه الأرض من ماء ونبات، ونور وهواء، وتقوته وتعوله، وتكنه بما جعل الله فيها من أسباب الرزق والمعايش كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)} [الأعراف: 10].
فالله تبارك وتعالى هو الحكيم العليم، الذي جعل هذه الأرض مقرًا صالحًا لنشأة الإنسان، بجوها وتركيبها وحجمها، وبما أودع فيها من الأرزاق والأقوات، ومن القوى والطاقات، ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته.
وهو سبحانه الذي جعل هذا الجنس البشري سيد مخلوقات هذه الأرض، وجعله قادرًا بما أودعه الله من معرفة وطاقات، على تطويعها واستخدامها وتسخيرها في حاجته، وأكرمه الله بما لم يكرم أحدًا سواه كما قال سبحانه:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
والإنسان ابن هذه الأرض، فقد أنشأه الله من تراب هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعله سيد أهلها، وجعل له فيها أرزاقًا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها، ليستعين بذلك على عبادة ربه الذي خلقه واستخلفه، ويشكره على نعمه.
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون .. لأنهم لا يعلمون قدر المنعم وعظمته وإحسانه .. ولا يعلمون قدر نعمه وكثرتها .. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله حقها من الشكر .. وأنى لهم الوفاء لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون .. ويعفو عن كثير، ويضاعف الحسنات ويغفر السيئات:{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)} [الشورى: 23].
وقد خلق الله عز وجل آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وصوره في أحسن تقويم، وأعطاه خصائصه الإنسانية عند خلقه، وذلك كله تشريفًا له على غيره من المخلوقات.
وأعلن الله بذاته العلية الجليلة العظيمة، ميلاد هذا الكائن الإنساني، في مجمع حافل بالملأ الأعلى من الملائكة، ومعهم إبليس، كما قال سبحانه:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74].
وإبليس من الجن لا من الملائكة كما قال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50].
والجن خلق غير الملائكة .. فالملائكة خلقهم الله من نور .. والجن خلقهم الله من نار .. والبشر خلقهم الله من تراب.
فأما الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله، هذه طبيعتهم، وهذه وظيفتهم.
وبهذا السجود من الملائكة ظهرت كرامة آدم على الله، كما ظهرت الطاعة المطلقة من الملائكة، فسجدوا لآدم إكرامًا واحترامًا، وإظهارًا لفضل آدم.
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله سبحانه، وهو يعلم أن الله ربه وخالقه، ومالك أمره، وأمر الكون كله.
فهذه ثلاثة نماذج من خلق الله.
أهل الطاعة المطلقة والتسليم التام لله، وهم الملائكة.
وأهل العصيان المطلق والاستكبار المقيت، وهم إبليس وذريته.
وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية، وهم آدم وذريته.
فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله بالتسليم المطلق: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6].
وأما الطبيعتان الأخريان، الإنسان والشيطان، فلهما شأن آخر.
فأما إبليس فجعل له رأيًا مع النص، وجعل لنفسه حقًا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى، مع وجود الأمر من ربه.
وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر، وتتعين الطاعة التامة للآمر سبحانه، ولكن إبليس أبى أن يسجد لربه حين أمره بالسجود:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12].
وإبليس لعنه الله لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق، الذي يدبر الكون ويصرفه، ولا يقع شيء في الوجود إلا بإذنه وقدره، ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه، بمنطق من عند نفسه، فكان جزاؤه العاجل الذي تلقاه لتوه:{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} [الأعراف: 13].
إن علم إبليس بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده لم ينفعه، وكذلك كل من يتلقى أمر الله، ثم يجعل لنفسه نظرًا في قبوله أو رده.
فإبليس خالف الأمر، وعصى الآمر سبحانه، فكفر وأبى واستكبر، من أجل ذلك طرد الله إبليس من الجنة، وطرده من رحمة الله، وحقت عليه اللعنة، وكتب عليه الصغار:{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 77، 78].
ولكن إبليس الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب واللعنة له، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم منه، ثم ليؤدي وظيفة الشر الذي تمحضت في آدم وذريته.
فماذا قال إبليس لربه؟: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف: 14، 15].
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث، وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا
يقع إلا بإرادة الله وقدره.
وقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار لحكم عظيمة، ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وحكمة الله تقتضي ابتلاء العباد ليتبين الصادق من الكاذب، ومن يطيعه ممن يطيع عدوه، فلما حصل إبليس على قضاء الله له بالبقاء الطويل، أعلن في تبجح خبيث، ينبئ عن شر كامن فيه فماذا قال؟:
إنه سيرد على تقدير الله له الغواية، وإنزالها به بسبب معصيته وتبجحه، بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده.
لقد أعلن إبليس أنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه، وذلك الطريق هو طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضا الله، وأنه سيأتي البشر من كل جهة، من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، وذلك للحيلولة بينهم وبين الإيمان بالله وطاعته.
وقعد إبليس لآدم وذريته على الطريق لإغوائهم، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه، اللهم إلا القليل الذي يفلت، ويستجيب لربه.
فالسبب الحقيقي لقلة شكر البشر لربهم، حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليهن وصد الناس عنه.
وقد نبهنا الله على ما قال إبليس، وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا، ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا بالطرق التي يأتي إلينا منها.
فليستيقظ العبد للعدو الكامن فيه، والذي يدفعه عن الهدى، وليأخذ حذره منه:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} [فاطر: 6].
لقد أجيب إبليس إلى طلبه، لأن مشيئة الله اقتضت أن يترك الإنسان يشق طريقه
بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر، وبما وهبه من عقل راجح، وبما أمده من التذكير والتحذير، والتبشير والإنذار على أيدي الرسل، فيختار الهداية أو الضلال، وتحق عليه سنة الله، وتحقق مشيئة الله بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضلَّ.
وحين أسكن الله آدم وزوجه الجنة حذرهما من الشيطان بقوله: {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117].
وبعد أن كشف إبليس عن عداوته لآدم وذريته، وما أبطنه من الكيد لهم، أعلن الله عن طرد إبليس طردًا لا معقب له، وأوعده ومن تبعه من البشر بملء جهنم منهم:{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} [الأعراف: 18].
فأخرج الله الشيطان من الجنة، لأنها دار الطيبين الطاهرين، فلا تليق بأخبث خلق الله وأشرهم وأنجسهم.
فخرج منها صاغرًا ذليلاً مذمومًا مدحورًا، جزاءً على كفره وكبره وعجبه، ويوم القيامة يملأ الله النار بإبليس وأتباعه من الجن والإنس.
ومن يتبع الشيطان من البشر، قد يتبعه في معرفته بالله، واعتقاده بألوهيته، ثم في رفض حكم الله وقضائه في منهج الحياة، وادعاء أن له الحق في رفض حكم الله، وقبوله أو عدم قبوله وفق هواه، كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً.
لقد جعل الله بحكمته لإبليس وقبيله فرصة الإغواء، وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار للهدى أو الضلال، تحقيقًا للابتلاء الذي قضت مشيئة الله أن تأخذ به هذا الكائن الإنساني، وتجعله به خلقًا منفردًا في خصائصه، لا هو ملك، ولا هو شيطان، لأن له دورًا آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك، ولا هو دور الشيطان.
وبعد طرد الشيطان من الجنة، أمر الله آدم وزوجه أن يسكن الجنة، لتتم بذلك
تربية الله لهما، وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن، وهو دور الخلافة في الأرض فقال سبحانه:{وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} [الأعراف: 19].
لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور، ليتدرب الإنسان على ضبط رغباته وشهواته، ويستعلي بإرادته على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكمًا لها، لا محكومًا بها كالحيوان، وهذه خاصية الإنسان التي يفترق بها عن الحيوان.
ولما سكن آدم وزوجه الجنة، بدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له، فهذا الإنسان كرمه الله فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وهو الذي أخرج إبليس بسببه من الجنة، وطرد من الملأ الأعلى.
هذا الكائن الإنساني مزدوج الطبيعة، مستعد للخير والشر على السواء، وفيه أماكن ضعف معينة يقاد منها، ما لم يلتزم بأمر الله فيها، ومن هذه الثغرات تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه، ويمكن جره وإغواؤه.
إن لهذا الإنسان شهوات معينة يمكن إثارتها، ومن شهواته يمكن أن يقاد، وراح إبليس يداعب هذه الشهوات فماذا فعل؟:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)} [الأعراف: 20].
فجاء إبليس إليهما، ووسوس لهما من ناحية رغائبهما العميقة، ليوقعهما في الشر والغواية، وارتكاب المحظور، مستغلاً أماكن الضعف الفطرية في الإنسان، وهذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر، حتى لا يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر، ولا يكون لكيده الضعيف من تأثير.
ولكن الشيطان داعب رغائب الإنسان الكامنة فيه، إنه يحب أن يكون خالدًا لا يموت، ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير.
فأغراهما بالملك الخالد .. والعمر الخالد .. وهما أقوى شهوتين في الإنسان.
وعلى قراءة (ملَكين) بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.
ولما كان الشيطان الرجيم يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة، وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته، فقد استعان على زعزعته، إلى جانب مداعبة شهواتهما، بتأمينهما من هذه الناحية، فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 21].
ونسي آدم وزوجه تحت تأثير الشهوة الدافعة، والقسم المخدر، أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير، وأن الله أمرهما أمرًا عليهما طاعته، سواء عرفا علته أم لم يعرفاها، وأنه لايكون شيء إلا بقدر من الله.
فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه، نسيا هذا كله، فماذا فعل الشيطان بهما؟.
لقد تمت الخدعة، وآتت ثمرتها المرة، لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما من رتبتهما العالية التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى مرتبة دنيا، حيث دلاهما بغرور إلى المعصية.
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وشعرا الآن أن لهما سوآت مواراة عنهما، سوأة المعاصي، وسوأة العورات.
فرآهما الرب يجمعان من ورق الجنة ليسترا به عوراتهما، التي يخجل الإنسان فطرةً من تعريها:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22].
وسمع آدم وزوجه هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية، وعلى إغفال النصيحة، وعلى طاعة العدو.
وبعد هذا العتاب تكشف الجانب الآخر من طبيعة هذا الإنسان، وهو أنه ينسى ويخطئ، إن فيه ضعفًا يدخل منه الشيطان، إنه لا يلتزم دائمًا، ولا يستقيم دائمًا، ولكنه يدرك خطأه، ويعرف زلته، ويندم على معصيته.
ويطلب العون من ربه والمغفرة، إنه يتوب ولا يلج في المعصية كالشيطان، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية، إنه يعلم أنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته، وإلا كان من الخاسرين.
فماذا قال آدم وزوجه: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].
قالا: فعلنا الذنب الذي نهيتنا عنه، وظلمنا أنفسنا باقتراف الذنب، وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا بمحو أثر الذنب وعقوبته، وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا، فغفر الله لهما ذلك، وتاب عليهما:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122].
وهنا تكون التجربة الأولى .. والامتحان الأول .. والتربية الكبرى .. قد تمت .. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى .. وعرفها آدم وذاقها .. وذاق ألم عقوبتها.
واستعد بهذا التنبيه، وهذا الامتحان، لمزاولة اختصاصه في الخلافة في الأرض، وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدًا مع عدوه الشيطان، الذي كشر عن عداوته من قبل، وهو مستمر على طغيانه، غير مقلع عن عداوته وعصيانه.
وبعد ذلك جاء أمر الله لآدم وإبليس.
لقد أهبطوا جميعًا إلى الأرض، آدم وزوجته، وإبليس وقبيله، هبطوا ليصارع بعضهم بعضًا، ويعادي بعضهم بعضًا، ويجاهد بعضهم بعضًا، ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين مختلفتين:
إحداهما ممحضة للشر.
والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر.
وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء، وكتب على آدم وذريته:
أن يستقروا في الأرض، ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين.
وكتب عليهم أن يحيوا فيها، ثم يموتوا فيها، ثم يخرجوا منها، فيبعثوا ليعودوا إلى ربهم، فيدخلهم جنته أو يدخلهم ناره، كل حسب عمله.
لقد أعلن الله ميلاد هذا الكائن الإنساني في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى من الملائكة: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)} [ص: 71 - 74].
وأعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه فقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30].
فما أعظم الكرامة التي خص الله بها هذا الإنسان؟.
وما أعظم الدور الذي أعطاه بارئه له؟.
فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه، لأمر عظيم لا يصلح له إلا مخلوق عظيم.
إن هذا الإنسان يتعامل مع ربه تعاملاً مباشرًا:
فهو الذي خلقه الله بيده .. وهو الذي أعلن الله ميلاده في الملأ الأعلى، وفي الكون كله .. وأسكنه الجنة يأكل منها حيث يشاء ليربيه .. ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره .. وعلمه أساس المعرفة بتعليمه الأسماء كلها .. وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها .. وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تميزه عن غيره .. وأرسل له الرسل منه بهداه .. وكتب على نفسه الرحمة أن يقبل عثرته ويقبل توبته.
فما أعظم نعم الله على بني آدم، وما أجل احتفاء الله بهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].
ثم هذا الإنسان يتعامل مع الملأ الأعلى:
أسجد الله له الملائكة .. وجعل منهم حفظة عليه .. كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه .. وأنزلهم على أهل الاستقامة يبشرونهم ويثبتونهم .. وأنزلهم على المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك .. وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم في تأنيب وتعذيب .. ويسلمون على المؤمنين في الجنة .. ويقومون على عذاب الكفار في النار.
وما أكثر ما بين الملائكة والبشر من تعامل في الدنيا والآخرة.
ويتعامل الإنسان كذلك مع الجن صالحيهم وشياطينهم، فله مع الشيطان أحوال وجولات، كما له مع صالحي الجن معاملات .. فهم يسمعون منه .. ويؤمنون بما يدعوهم إليه .. ويطيعونه فيما يأمرهم به، كما ذكر الله عن تسخير الجن لسليمان صلى الله عليه وسلم:{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)} [سبأ: 12].
كذلك هو يتعامل ويستفيد من هذا الكون، فهو الخليفة في هذه الأرض عن الله، الذي سخر له قواها وطاقاتها وأرزاقها، وأعطاه الاستعداد لفتح ما شاء الله من مغاليق أسرارها، وهو يتعامل مع جميع الأحياء فيها.
والإنسان بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك إلى العلو والمعالي.
إنه يعرج إلى السموات العلى، ويتجاوز مراتب الملائكة، حين يخلص عبوديته لله وحده، ويترقى فيها إلى منتهاها وأعلاها.
كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة، حين يتخذ إلهه هواه، ويتمرغ في الوحل الحيواني، أو الكيد الشيطاني، وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السموات والأرض في عالم الحس، وأبعد مدىً.
والإنسان مع تفرده في هذه الخصائص ضعيف في جوانب تكوينه، حتى ليمكن
قيادته إلى الشر، والارتكاس إلى الدرك الأسفل من خطام شهواته.
وهو ينحط إلى أسفل سافلين، حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد، الذي أخذ على عاتقه إغواءه في جميع الأوقات من جميع الجهات.
وقد اقتضت رحمة الله به، أن لا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده، بل أرسل إليه الرسل للإنذار والتبشير والتذكير، لينجو من شهواته بالتخلص من هواه، والفرار إلى الله، والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه، وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته.
وقد كان أول تدريب له في الجنة بابتلائه بما يحل وما يحرم، لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف.
ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحًا له في كل لحظة، فإذا نسي ثم تذكر .. وإذا عثر ثم نهض .. وإذا غوي ثم تاب .. وجد الباب مفتوحًا له .. وقبل الله توبته .. وأقال عثرته .. وغفر ذنوبه .. ودخله جنته.
فإذا استقام على الصراط المستقيم، بدل الله سيئاته حسنات، وضاعف له ما شاء.
لقد نسي آدم وأخطأ، ثم تاب واستغفر، وقد قبل الله توبته وغفر له، وهذه سنة الله لآدم وذريته:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].
وقد خلق الله في الإنسان ثلاث قوى:
قوة العقل .. وقوة الغضب .. وقوة الشهوة.
وأعلى هذه القوى القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشاركه فيه الملائكة.
فالملائكة عقول بلا شهوات .. والبهائم شهوات بلا عقول .. والبشر ركب الله
فيهم عقولاً .. وجعل لهم شهوات.
فالمؤمن الذي يغلب عقله شهوته خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه.
ثم خلق الله في الإنسان القوة الغضبية لدفع المضرة، ثم القوة الشهوية لجلب المنفعة.
وبحسب هذه القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني، وهم العرب والفرس والروم، وكل ما ساواهم تبع لهم.
فهذه الأمم الثلاث هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، فهم عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار.
وغلب على الفرس القوة الغضبية، من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة.
واشتق اسمها من وصفها، فقيل فرس، يقال فرسه إذا قهره وغلبه.
وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والشراب والنكاح ونحو ذلك.
واشتق اسمها من وصفها، فالروم هو الطلب والشهوة.
وهذه الصفات الثلاث غالبة على هذه الأمم الثلاث.
فالعرب أفضل الأمم .. ثم تليها الفرس، لأن القوة الدفعية أرفع .. ثم تليها الروم.
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً:
فضيلة العلم والإيمان التي هي كمال القوة العقلية.
وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة لغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم.
وفضيلة السخاء والجود، الذي هو كمال القوة الطلبية، فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة.
وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث، المسلمون .. واليهود .. والنصارى.
فالمسلمون فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور، فإن معجزة نبيهم هي علم الله وكلامه، وهم الأمة الوسط.
واليهود فيهم القسوة، ولهذا أضعفت فيهم القوة الشهوية، حتى حرم الله عليهم
من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، وغالب معاصيهم من باب القسوة والشدة والظلم لا من باب الشهوة.
والنصارى فيهم الرحمة واللين، ولهذا أضعفت فيهم القوة الغضبية، فنهوا عن الانتقام والانتصار، ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم، بل أحل لهم بعض الذي حرم على من قبلهم.
وظهر في النصارى من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر في اليهود، وفيهم من الرأفة والرحمة والرقة ما ليس في اليهود.
وغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب.
والطبيعة البشرية كلما التوت وانحرفت عن التوحيد والطاعات، إلى الشرك والمعاصي، تحتاج إلى رادع وزاجر يزجرها عما يهلكها، ويردها إلى بارئها.
فطبيعة بني إسرائيل بعدما أفسدها طول الذل والعبودية لفرعون، أرسل الله موسى صلى الله عليه وسلم لإنقاذها من عبودية فرعون، الذي كان من المفسدين، إلى عبودية رب العالمين.
فجاءت كل الأوامر من الله لبني إسرائيل مصحوبة بالتشديد والتوكيد تربيةً لهذه الطبيعة التي ارتخت والتوت، وانحرفت عن الاستقامة والجد كما قال سبحانه عن موسى صلى الله عليه وسلم:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145].
ومثل طبيعة بني إسرائيل، كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل لغير الله من الطغاة، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبًا للمشقة، كما هو ملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة، لتهرب من تكاليفها، وتسير سائمة هائمة مع القطعان الضالة، لأن السير معها لا يكلفها شيئًا.
إن هذا الإنسان عجيب في خلقه .. عجيب في فكره .. عجيب في أعماله.
إنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة.
فإذا أمن هذا الإنسان فإما النسيان .. وإما الطغيان .. أو كلاهما.
إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة بجلاء الإيمان:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت: 65].
والبغي من المحرمات المهلكات، سواء كان بغيًا على النفس، خاصة بإيرادها موارد الهلكة، أو كان بغيًا على الناس بظلمهم.
وأعظم البغي وأشده، وأبشعه وأشنعه، البغي على ألوهية الله سبحانه، واغتصاب الربوبية ومزاولتها في عباده ظلمًا وعدوانًا.
والناس حين يبغون هذا البغي، يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا، قبل أن يذوقوا جزاءه في الآخرة:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} [يونس: 23].
يذوقون هذه العاقبة فسادًا في الحياة كلها .. فلا يبقى أحد لا يشقى به .. ولا تبقى إنسانية ولا كرامة ولا فضيلة لا تضار به.
فالناس إما أن يخلصوا دينهم لله .. وإما أن يتعبدهم ويذلهم الطغاة.
فما أحسن أن يطيع العبد ربه الذي خلقه .. ولا يتعرض لسخطه بمعصيته: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66 - 68].
وإذا كان الذين لا يؤمنون بهذا الحق عميًا، فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بأن هذا القرآن وحي من عند الله، أن يتلقى في أي شأن من شئون الحياة عن أعمى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد: 19].
إنه لا يجوز لمسلم قط يعرف هدى الله، ويعرف هذا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد مقعد التلميذ، الذي يتلقى من أي إنسان لم يستجب لهذا الهدى، ولم يعلم أنه الحق، فهو أعمى بشهادة الله سبحانه، فكيف يطلب هداية الطريق من أعمى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].
وأعجب العجب أن بعض الناس يزعمون أنهم مسلمون، ثم يأخذون منهج الحياة البشرية عن اليهود والنصارى، أو عن فلان أو فلان، من الذين يقول الله عنهم أنهم عمي.
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون للحق، المهتدون به، أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، والذين يسيرون على هدى الله وحده، والذي يصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه.
إنها قطعًا لا تصلح بالقيادات الجاهلية الفاجرة، الضالة العمياء، التي تخالف منهج الله الذي ارتضاه للبشرية قاطبة.
إن جميع تلك المذاهب والنظم من صنع العمي، الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده، وما سواه باطل، ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.
وآية هذا وبرهانه القاطع الساطع هو هذا الفساد الطامي، الذي يغشى ويعم وجه الأرض اليوم، لا في بلاد الكفار فحسب، بل في ديار المسلمين كذلك.
ومتى تبصر البشرية طريقها؟ .. ومتى تسعد في حياتها؟ .. ومتى ترضي ربها؟
والخلافة في هذه الأرض للعمي: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد: 25].
واأسفاه .. لقد شقيت البشرية وقتًا طويلاً وهي تتخبط بين شتى المناهج .. وشتى الأوضاع .. وشتى الشرائع .. بقيادة أولئك العمي .. الذين يفسدون في الأرض
ولا يصلحون .. ويحسبون أنهم على شيء .. وهم ليسوا على شيء.
إن الإنسان لا يكون سويًا ولا مأمونًا ولا صالحًا، حتى يسير على منهج الله الذي خلقه من تراب، ونفخ فيه من روحه.
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية في الإنسان، والعناصر العلوية، هو الأفق الأعلى، الذي يطلب إليه أن يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له.
فليس مطلوبًا من الإنسان أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون ملكًا، أو ليكون حيوانًا، وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان، ولا الحكمة التي خلق الله من أجلها الإنسان.
فإن الله عز وجل جعل المخلوقات ثلاثة أقسام:
أحدها: ظلوم جهول وهو الآدمي.
الثاني: عالم عادل لا يتطرق إليه الجهل والظلم وهم الملائكة.
الثالث: من ليس بعالم ولا عادل، ولا من شأنه أن يكسب ذلك كالبهائم.
فالبهائم فانية بمراد نفسها عن مراد غيرها .. والملائكة فانية عن مراد نفسها باقية بمراد ربها منقادة مطيعة له.
والآدمي أودع الله فيه قوتين:
قوة ملكية .. وقوة بهيمية.
فتارة يفنى بمراد نفسه، وتارة يفنى بمراد ربه، وبين القوتين تجاذبًا وتزاحمًا، فالملكية تجذب إلى العلو، والبهيمية تجذب إلى السفل، وإذا برزت إحداهما كمنت الأخرى، وهذا سر التكليف.
والله عز وجل يمد هذه .. ويمد هذه .. حسب الطلب: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء: 20].
والإنسان مركب من جسد وروح، ولكل واحد منهما غذاء خاص، والذي يحاول أن يعطل طاقات الإنسان الجسدية الحيوانية، هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية، كلاهما يخرج على سواء فطرته، ويريد من نفسه ما لم
يرده الخالق له.
وكلاهما يدمر نفسه بتدمير جزء من كيانها الأصيل، وهو محاسب على سوء تصرفه، واختياره ما لم يأذن به الله.
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يخرج عن سواء فطرته.
عن أنس رضي الله عنه أن نفرًا من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَألُوا أزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا أنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ:«مَا بَالُ أقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأنَامُ، وَأصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» متفق عليه (1).
وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يخلق البشر باستعداد للهدى والضلال .. وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين .. ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين .. بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن .. والحس والقلب والعقل، حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار.
ثم شاء الرؤوف الرحيم بعد هذا كله .. أن لا يدعهم لهذا العقل وحده .. فوضع لهذا العقل ميزانًا ثابتًا في شرائعه التي جاءت بها رسله .. يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر.
وهو ميزان ثابت لا تعصف به الأهواء .. ولم يجعل سبحانه الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان .. ولكن جعلهم مبلغين مبشرين ومنذرين، ليس عليهم إلا البلاغ .. يأمرون بعبادة الله وحده .. وينهون عن عبادة ما سواه .. من وثنية وهوى، وشهوة وسلطان:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401) واللفظ له.
ففريق أطاع الرسل، واستجاب للإيمان والهدى، وفريق عصى الرسل، وشرد في طريق الضلال:{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].
وهذا الفريق .. وذلك الفريق .. كلاهما لم يخرج عن مشيئة الله .. وكلاهما لم يقسره الله قسرًا على هدى أو ضلال .. وإنما سلك طريقه بما وهبه الله من حرية في الاختيار .. بعدما زوده الله بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق .. وبعدما أرسل إليه رسله .. وأنزل عليه كتبه.
والمؤمن يرى رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض، وفي ابتلائه في أثناء الخلافة، وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف.
ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله، فلا يتبرم بتكاليفه ولا يضيق بها صدرًا، لأنه يؤمن أن الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه.
وذلك يسكب في قلبه الطمأنينة والراحة والأنس، ويستنهض همة المؤمن وعزيمته للنهوض بتكاليفه، وهو يحس أنها داخلة في طوقه كما أخبر بذلك ربه بقوله سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].
وكل إنسان سيرجع إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه، فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.
ورجعة الناس كلهم إلى ربهم فرادى تجعل كل إنسان يقف مدافعًا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد.
فهو مسؤول عن نفسه، وعن حق الله فيها، وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، وعبوديته له وحده شعورًا وسلوكًا.
فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فما أحد من العبيد بدافع عنه
يوم القيامة، ولا شافع له، وما أحد من العبيد بحامل عنه وزره، ولا ناصر له من الله في اليوم الآخر.
ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه، والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردًا وحيدًا.
والمسلم يقوم بالعمل، ودائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرفه، حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة فيه، وحينذاك يتوجه إلى ربه بطلب العفو والسماح:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
ويسأل ربه جل وعلا أن يثبته على الدين، ويصرف عنه الشرك الذي يوقعه في الأصر، وذلك بعبادة الله وحده، وطاعته وحده، وتلقى الشريعة منه وحده.
فالشرك بالله هو الأصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده لا شريك له:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
وكذلك يسأل المؤمنون ربهم أن يرحم ضعفهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون، كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه، وإلا فهي الطاعة المطلقة، والتسليم التام.
إنه طمع الصغير في رحمة الكبير، وطمع الفقير العاجز في رحمة الغني القادر، والاعتراف بالضعف والتقصير لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور.
فالعبد مقصر مهما حاول الوفاء والكمال، ومن رحمة الله أن يعامله بالعفو والمغفرة والرحمة.
فهلاّ يتوجه المسلم إلى مولاه، ويتوكل عليه، وهو يعمل لإحقاق الحق الذي أمره الله به، والله مولاه ومعزه وناصره كما قال سبحانه:{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} [البقرة: 286].
وما الأقوام .. وما العمران .. إن هي إلا حقول من الأناسي كحقول النبات، هذا يسقى بالماء، وذاك يسقى بالوحي، غرس منها يزكو، وغرس منها خبيث، غرس
منها ينمو ويثمر، وغرس منها يجف ويموت غرس منها يقبل فيحيا، وغرس منها يرفض فيموت:{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4].
وحياة الإنسان كتاب ذو ست صفحات:
الأولى: صفحة الحياة كما قال سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28].
الثانية: صفحة العمل كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46].
الثالثة: صفحة الاحتضار كما قال سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} [ق: 19].
الرابعة: صفحة البعث والحشر كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق: 20، 21].
الخامسة: صفحة الحساب كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25، 26].
السادسة: صفحة القرار في الجنة أو النار كما قال سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)} [الشعراء: 90، 91].
والواجب على الإنسان أن يمسح جميع العواطف لغير الدين، عواطف حب الدنيا، وحب المال، وحب الرئاسة، وحب الجاه، حتى لا تبقى إلا عاطفة الدين عملاً به، ودعوةً إليه.
وقيمة الإنسان عند الله بما يحمل من الإيمان والأعمال الصالحة، لا بما يملك من الأموال والأشياء، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجه الناس إلى غير الله، وهذا بلاء عظيم.
وهذا الكون كله مملوك لربه، خاضع له، عابد له، مطيع له، من الذرة حتى الجبل، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
ومن يؤمن من البشر، فأكثرهم إيمانه ممزوج بالشرك:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106].
فالمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله .. والمشركون من اليهود قالوا عزير ابن الله .. والمشركون من النصارى قالوا المسيح ابن الله.
فأي مقولة أعظم من هذه ممن وهبهم العقول؟.
وأي افتراء وبهتان وجهل بالله فوق هذا؟.
إن الكون كله ينتفض لهذه المقولة المنكرة في حق الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 88 - 92].
إن الكون كله يغضب لبارئه، سماواته وأرضه، وجباله وبحاره، ويهتز كل ساكن فيه، ويرتج كل مستقر، وهو يحس بتلك الكلمة العظيمة النابية من جهلة البشر في حق الله، تصدم كيانه وفطرته، وتجافي ما وقر في ضميره، وما استقر في كيانه.
وفي وسط الغضبة الكونية على هذه الكلمة النابية في حق الله، يصدر من الرب البيان الرهيب:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 92، 93].
والمشركون لا يرجون لقاء الله، ولا يحسبون حسابه، ولا يقيمون حياتهم على أساسه، ومن ثم لا تستشعر قلوبهم وقار الله وهيبته وجلاله، فتنطلق ألسنتهم بكلمات لا تصدر عن قلب يرجو لقاء الله:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21].
إنه تطاول على مقام الله سبحانه، تطاول الجاهل المستهتر، الذي لا يحس جلال
الله في نفسه، ولا يقدر الله حق قدره.
فمن هم حتى يتطاولوا هذا التطاول؟.
ومن هم إلى جوار الله العظيم الجبار المتكبر؟.
ومن هم وهم في ملك الله وخلقه كالذرة التائهة الصغيرة؟.
إنه لا قيمة لهم عند الله حتى يربطوا أنفسهم بالله، عن طريق الإيمان بالله، فيستمدوا منه قيمتهم.
لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم، فاستكبروا وطغوا طغيانًا كبيرًا.
وفي مقابل هؤلاء الكفار عباد الله الذين آمنوا بالله ورسوله، عباد الرحمن الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده.
هاهم أولاء بصفاتهم المميزة، مثالاً حيًا واقعًا للجماعة المسلمة التي يريدها الله ويحبها.
وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ الله بهم في الأرض، ويوجه إليهم عنايته، فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم لولا أن هؤلاء فيهم، وعباد الرحمن لهم سمات وصفات:
فالسمة الأولى لعباد الرحمن، أنهم يمشون على الأرض هونًا، يمشون مشية سهلة هينة .. مشية سوية مطمئنة .. جادة قاصدة .. فيها وقار وسكينة .. وفيها جد وقوة .. وليس فيها تكلف ولا تصنع .. وليس فيها خيلاء ولا تنفج .. ولا تصعير خد .. ولا تخلع ولا ترهل .. وهم في جدهم ووقارهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى .. وسفه السفهاء .. ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى .. وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، لا عن ضعف ولكن عن ترفع .. ولا عن عجز ولكن عن استعلاء:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63].
هذا نهارهم وسلوكهم مع الناس، فأما ليلهم فهو مع ربهم، واقفون بين يديه ركعًا سجدًا، يتقون الله، ويشعرون بجلاله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا
وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64].
وهم في قيامهم وركوعهم وسجودهم، يتوجهون إلى الله في ضراعة وخشوع أن يصرف عنهم عذاب جهنم:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65].
وهم في حياتهم وأموالهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67].
فالإسراف والتقتير كلاهما مذموم.
فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله.
فحبس المال يحدث أزمات واختناق، ومثله إطلاقها بغير حساب، والاعتدال سمة من سمات الإيمان.
وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس إلا بحق، ومن الزنا:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} [الفرقان: 68].
وهذه الصفات الثلاث مفرق الطريق بين الحياة العالية الغالية والحياة السافلة الرخيصة.
إنها الحياة التي يشعر الإنسان فيها بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ الهابط، وسموه إلى الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله.
ومن سماتهم أنهم لا يشهدون الزور، لما في ذلك من إضاعة الحقوق، والإعانة على الظلم، ويفرون من مجالس الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعًا منهم عن شهود مثل هذه المجالس القذرة.
وهم كذلك يصونون أنفسهم وألسنتهم عن اللغو والرفث والهذر، ويوفرون أوقاتهم لما كلفهم الله به:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} [الفرقان: 72].
ومن سماتهم أنهم سريعوا التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، يتأملون آيات الله وما فيها من صدق:{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 73].
وعباد الرحمن لا تكفيهم تلك السمات والصفات، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على هديهم ونهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم، فتقر بهم عيونهم، ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74].
ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يوفون بعهد الله الذي عهده إليهم، والذي عاهدهم عليه، من القيام بحقوقه كاملة موفرة من الإيمان والتوحيد والأعمال الصالحة، ومن تمام الوفاء بها أنهم لا ينقضون الميثاق:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} [الرعد: 20].
ومن سمات عباد الرحمن: أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل من جميع أمور الدين، من الإيمان بالله ورسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الخلق إليه، وتعليمهم شرعه.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والعمل، وعدم عقوقهم.
ويصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولاً وفعلاً.
ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملاً موفرًا.
ومن سماتهم: أنهم يخشون ربهم ويخافونه، فيمنعهم خوفهم منه، والقدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به، خوفًا من العقاب، ورجاءً للثواب:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21].
ومن سماتهم الصبر على الإسلام الخالص، إسلام القلب والوجه لله، ومغالبة
الهوى والشهوة، وأعسر الصبر ما كان على الهوى والشهوة، والالتواء والانحراف.
والصبر على السخرية والاستهزاء بهم، فصبروا على الإيمان، وثبتوا على العمل، فلم تزعزعهم عن ذلك شبهة ولا شك، ولا ثناهم عن الإيمان رياسة ولا شهوة ولا مال ولا ولد.
وصبرهم ابتغاء وجه ربهم فقط، طلبًا لمرضاة ربهم، ورجاء القرب منه، والحظوة بثوابه، وهذا الصبر من خصائص أهل الإيمان.
ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخالق، ودوام ذكره وشكره والثناء عليه، ودوام ذلك بالصلاة التي يؤدونها كاملة بشروطها وأركانها.
ومن سماتهم حسن علاقتهم بالخلق، ومواساتهم بما يحتاجون إليه من المال وسائر المنافع، يفعلون ذلك سرًا لكمال إخلاصهم، وعلانية ليُقتدى بهم.
ومن صفاتهم: أنهم يدرؤون بالحسنة السيئة، وذلك أشد من مجرد الصبر على الإيذاء والسخرية، إنه الاستعلاء على كبرياء النفس، ورغبتها في دفع السخرية، ورد الأذى، والشفاء من الغيظ، بالصعود إلى أفق أعلى، ودرجة أسمى، درجة السماحة الراضية، التي ترد القبيح بالجميل، وتقابل الجاهل الساخر بالطمأنينة والهدوء، والرحمة والإحسان.
وذلك أفق من العظمة لا يبلغه إلا المؤمنون الصادقون.
فمن أساء إليهم بقول أو فعل لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم، ويصلون من قطعهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم.
وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بما يقابلون به المحسن؟.
إن هؤلاء بصفاتهم العالية، رحمة تجري على وجه الأرض، وشمس تجري في جو السماء:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد: 22].
ومن سماتهم أنهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، واللغو فارغ الحديث الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه، وهو الهذيان الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب والعقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة، وهو البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان، سواء وجه إلى مخاطب، أم حكي عن غائب.
فالقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو، ولا تستمع إلى ذلك الهذر، ولا تعنى بهذا البذاء، فهي مشغولة بتكاليف الإيمان، مرتفعة بأشواقه، متطهرة بنوره.
ينزهون أنفسهم عن اللغو، ويصونونها عن الخوض فيه:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55].
فأما جزاء الرحمن، تلك الخلاصة الصافية للبشرية، الذين هم لب العالم وصفوة بني آدم، أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، والأخلاق العالية.
فما جزاء أولئك على صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم؟.
أولئك الكرام يُستقبلون في الجنة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 75، 76].
فلهم تحية وسلام من ربهم، ومن ملائكته الكرام، ومن بعضهم لبعض، وهم سالمون من جميع المكروهات والمنغصات.
أولئك الكرام لهم عقبى الدار، جنات عدن يقيمون فيها إقامة دائمة، ولا يبغون عنها حولاً، لأنهم لا يرون فوقها غاية، لما اشتملت عليه من النعيم الذي لا يزول، وليس فوقه نعيم.
ومن تمام نعيمهم وسرورهم وقرة أعينهم، أنهم يدخلون الجنة، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
والملائكة يسلمون عليهم، ويهنئونهم بالسلامة، وكرامة الله لهم، ويقولون لهم صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية والنعيم
الأبدي.
فيا سعادة هؤلاء: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 22 - 24].
فحقيق بكل عبد نصح نفسه، وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح، الجامعة لجميع اللذات والأفراح.
ألا ما أعظم منة الله على عباده .. حيث بين لهم أوصاف من يحب .. ونعت لهم أوصافهم، ووصف هيئاتهم، وبين لهم همهم .. وأوضح أجورهم .. وكشف عن منازلهم في الجنة .. ليشتاقوا إلى الاتصاف بأوصافهم .. ويبذلوا جهدهم في الاقتداء بهم .. ويسألوا ربهم أن يهديهم كما هداهم .. ويتولاهم كما تولاهم.
فلله ما أعلى هذه الصفات، وما أرفع هذه الهمم، وما أزكى تلك النفوس، وما أطهر تلك القلوب.
ولله ما أصفى هؤلاء الأخيار الأبرار، وما أتقى هؤلاء السادة الأئمة.
ولله در هذه الأنفس ما أعزها، وهذه الأخلاق ما أحسنها، وهذه الهمم ما أرفعها.
ولله فضل الله عليهم ونعمته التي جللتهم، ورحمته التي وسعتهم، ولطفه الذي أوصلهم إلى هذه المنازل العالية:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17، 18].
وما قيمة البشرية كلها لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله، وتتضرع إليه، وتوقره وتحبه، وتعبده وتطيعه؟.
وما هذه الأرض الواسعة التي تضم البشر جميعًا؟.
إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل، والبشرية كلها إن هي إلا نوع واحد من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض، والأمة واحدة من أمم
هذه الأرض، والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم، لا يعلم عدد صفحاته إلا الله العليم الخبير.
وما قيمة الإنسان بلا إيمان؟.
إنه لقي ضائع لا يعبأ الله به، لو وضع نوعه كله في الميزان، ما رجحت به كفة الميزان:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان: 77].
والفقراء هم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام، الذين لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة، أو وضع اجتماعي، أو مكانة أو رياسة، ومن ثم فهم الملبون السابقون.
ومن بيوت الفقراء نبت العلماء والفقهاء، والحكماء والقادة، وهم الصف الأول في إجابة الرسل والإيمان بهم:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} [الحشر: 8].
فأما الملأ الكبراء، فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم القائمة على الأوضاع المزيفة، والقائمة على احتقار من دونهم، ومن ثم يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بعامة الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح.
ترفع قومًا .. وتضع آخرين .. تعز قومًا .. وتذل آخرين.
وهذا ما يصد كثيرًا من الكبراء عن الإيمان كما قال الكفار لنوح صلى الله عليه وسلم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)} [الشعراء: 111 - 115].
وقالوا لصالح صلى الله عليه وسلم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)} [هود: 27].
فما أجهل هؤلاء بربهم .. وما أضلهم عن معرفة سنة الله في خلقه.
إن الفقر والغنى من سنة الله في عباده، فالفقر له أوامر وله أهل، والغنى له أوامر وله أهل، والله يعلم من يصلح لهذا، ومن يصلح لهذا، ولكل منهما عبودية، فعبودية الفقر الصبر، وعبودية الغنى الشكر.
أما الإيمان فهو حق للجميع، وواجب على الجميع، وحاجة الجميع، يحتاجه الغني كما يحتاجه الفقير، ويجب على الغني كما يجب على الفقير، ويستطيعه الفقير كما يستطيعه الغني:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 53، 54].
فما أسمج هؤلاء، وما أسخف عقولهم، وما أقل فقههم.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6].
إن الله تبارك وتعالى اصطفى آدم على مخلوقات الأرض .. واصطفى الأنبياء على البشر .. واصطفى المؤمنين على الكفار.
والله عز وجل يريد إقامة عالم رباني خالص، عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين كلهم إلى هذا المحور، بعروة واحدة لا انفصام لها، ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى:
عصبية القوم .. أو الجنس .. أو الأرض .. أو العشيرة .. أو القرابة .. أو اللون .. أو اللسان.
ليجعل مكانها عقدة واحدة هي عقيدة الإيمان بالله، والوقوف تحت راية لا إله إلا الله مع حزب الله.
إن العالم الذي يريده الله عالم رباني، يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله، يشمل الجنس الإنساني كله، ويجمعه في رحاب العقيدة، في رحاب الإيمان، في رحاب الشريعة.
وتذوب فيه جميع فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب، وسائر ما يميز إنسانًا عن إنسان عدا عقيدة الإيمان.
وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله.
ودون إقامة هذا المجتمع الفاضل المتميز تقف عقبات كثيرة منذ فجر الرسالة.
وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتصعب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض.
كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس، وأهواء القلوب من الحرص والشح، وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية، والالتواءات النفسية، وغيرها مما تكنه الصدور، ويوغر القلوب.
والإسلام يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة.
إنه يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة، ليخرج بها من هذا الضيق المحلي النفسي الحيواني، إلى الأفق العالمي الإنساني.
والله تبارك وتعالى يخلق لهذا الدين من يحمله، ويهتدي بهديه، ويعتز به، ويشعرهم أنهم رجاله وحزبه.
ومن ثم فهم يوسمون بسمته، ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة، وتلك السمة بين الأقوام جميعًا في الدنيا والآخرة:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} [البقرة: 138].
والله عز وجل يشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه، فهم رجاله المنتسبون إليه، الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أولياؤه وأحباؤه، يعاديهم من يعاديه، فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه.
والله يدعوهم باسم الإيمان الذين ينسبهم إليه، يدعوهم ليحذرهم من حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عواتقهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1].
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة، والوشيجة التي تربطه بغيره هي الدين،
والأقارب والأرحام والأولاد إذا كانوا كفارًا، قد تجر القلوب جرًا إلى المودة، وتنسى تكاليف الدين، وتضطر المسلمين إلى مودة أعداء الله وأعدائهم وقاية لها.
فهذه المودة لا تنفع، لأن العروة التي تربط المسلم بغيره مقطوعة وهي الإيمان:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)} [الممتحنة: 3].
فإذا انتفى العداء والعدوان من الكفار، فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل ولو كانوا كفارًا، فعسى هذا البر يكون سببًا في إسلامهم، ويعود الجميع إخوة مؤتلفي القلوب:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 7، 8].
إن الإسلام دين سلام، ودين محبة وأمن ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، ويصبغهم بصبغته، وأن يقيم فيهم منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الإسلام إخوة متحابين.
ونهى الإسلام أشد النهي عن الولاء لمن قاتل المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وحكم على المؤمنين الذين يتولونهم بأنهم ظالمون:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة: 9].
إن القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي مسألة العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة، وحرية العقيدة، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله عز وجل.
فالعقيدة هي الراية الجامعة التي يقف تحتها المسلمون أين كانوا، ومن كانوا. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم .. ومن قاتلهم من أجلها فهو عدوهم.
ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم
وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.
ولكن أنى للكفار أن يسالموا أحدًا أو يرعوا عهدًا؟.
إن من البلاء العظيم أن العالم الطبيعي لا يخلص من الطبيعة إلى رب الطبيعة، وأن لا يرتقي الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده وقيمته ورسالته.
ومن العجب كذلك أن يعلم الإنسان أنه جهاز له عمل وإنتاج، ولكن لا يدري من يدير هذا الجهاز، لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه، والعاقل يعلم أن خالق هذا الكون هو الذي يدبره.
ألا ما أخطر العلم الذي يقبع في سجن المادية وجدرانها، ولا علاقة له بفاطر السموات والأرض، ولا صلة له بدينه وشرعه.
إن أرباب هذا العلم يعيشون في تخلف عقلي عن العلم، وفي تخلف روحي عن الدين، وفي تخلف إنساني عما يليق بالإنسان الذي كرمه الله وفضله على ما سواه.
إن هذا الإنسان عظيم، وخلق لأمر عظيم، وإن هذا الدين عظيم، وإن هذا القرآن عظيم، وإن شأن من عمل به لعظيم:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} [الزخرف: 44].
فهل يفقه البشر هذا؟.
وهل يفرغون من كل لغو، وينتهون إلى التسبيح باسم الرب العظيم؟.
إن الله سبحانه أكرم البشرية بالدين الذي ينظم حركة الحياة في الكون، فحركة الحياة ميدان كل إنسان سواء كان مؤمنًا أو كافرًا.
فكل أحد يريد أن يتحرك في الحياة ليحصل على رزقه وقوته، وما يحتاجه مما
يعينه على أمور معاشه.
لذلك كان المؤمن متحركًا في الحياة .. والكافر متحركًا في الحياة.
فلا بدَّ من منهج يسير عليه البشر، ولا بدَّ أن يكون المنهج موحدًا، حتى لا يقع التصادم بين البشر، ويهلك الناس بعضهم بعضاً.
فأنزل الله الدين الكامل ينظم الحياة فقبله المؤمن، ورده الكافر.
فالمؤمن يتحرك في حياته وفقًا لمنهج الله المرسوم، فيسعد في الدنيا والآخرة بامتثال أوامر الله سبحانه، في علاقته مع ربه، وفي علاقته مع غيره من المخلوقات:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30].
وأما الكافر فيتحرك في الحياة وفق هواه وشهواته، لا يعرف حلالاً ولا حرامًا، ولا طيبًا ولا خبيثًا، يأخذ ما شاء، ويتمتع بما شاء ويفعل ما شاء، ولا تحكم حركته حدود ولا قيود:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].
وقد خلق الله السموات والأرض، والشمس والقمر، والجبال والبحار، والنبات والحيوان، ثم خلق آدم آخر المخلوقات.
فلما أعد الله السكن وهيأه سبحانه، خلق من يسكنه.
وكأن هذا الكون شجرة، والإنسان ثمرة لهذه الشجرة.
ثم إن الإنسان في هذه الحياة انخدع بهذه المخلوقات لحاجته إليها، فاشتغل بها وغفل عن الله الذي خلقها، ففسدت أحوال الإنسانية واضطربت أحوالها، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، لهداية الناس ونجاتهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وجهد الإنسان في هذه الحياة لا يخلو من شيئين:
أحدهما: جهد على الأموال والأشياء والشهوات، وهذا الجهد له أثره على القلب، يولد فيه الحرص والطمع، والجشع والحسد، والظلم والكذب،
ويجعل صاحبه لا يحب الله ولا رسوله ولا المؤمنين، ولا يرغب في الطاعات، ولا يحجز نفسه عن المحرمات.
وكلما كثرت الأموال والأشياء عنده زاد حبه لها، وتعلق قلبه بها، وزاد جهده وشقاؤه، ثم يزداد كبره وإعراضه عن الدين، حتى يكمل عذابه وشقاؤه بعد الموت في النار.
فما أخسر هؤلاء الناس، وإن نالوا شيئًا من النعيم الزائل في صورة عذاب:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
الثاني: جهد على الإيمان والأعمال الصالحة، وهو جهد الأنبياء والصالحين، وهو جهد الدين.
وأثره على القلب أنه يولّد فيه محبة الله ورسوله والمؤمنين، وأعمال الدين، فيسعد القلب ويطمئن، ويزداد فرحه وسروره بربه.
وكلما اجتهد المسلم للدين أكثر زاد إيمانه، وارتفعت درجاته، وزادت سعادته في الدنيا ثم في القبر ثم في الحشر ثم تبلغ كمالها في الجنة دار النعيم والخلود.
وهذا الإنسان المؤمن يرجح بالسموات والأرض، لأنه حقق مراد الله عز وجل، وقدمه على شهواته ومحبوباته، والله سبحانه يكمل له شهواته ومحبوباته في الجنة كما أكمل محبوبات الله في الدنيا:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
فعلى المسلم أن يأخذ من الدنيا فقط بقدر الضرورة، ويتفرغ لما خلق له من عبادة ربه، والدعوة إليه، والعمل بشرعه، والمسارعة إلى الخيرات.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.