المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌22 - فقه الشكر

‌22 - فقه الشكر

قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].

وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)} [النحل: 114].

الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، والاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، والثناء على المحسن بذكر إحسانه، ورؤية النعم والمنعم، واستفراغ الطاقة في الطاعة، وأن لا تعصي الله بنعمه.

والشكر والصبر في محل الاستواء، فالشكر وظيفة السراء، والصبر وظيفة الضراء.

والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح:

فالقلب للمعرفة والمحبة .. واللسان للثناء والحمد .. والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور .. وكفها عن معاصيه.

والشكر مبني على خمس قواعد وهي:

خضوع الشاكر للمشكور .. وحبه له .. واعترافه بنعمه .. وثناؤه عليه بها .. وأن يستعملها فيما يحب لا فيما يكره.

وأقوى الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة.

وأكمل الشكر: رؤية النعمة والمنعم، وكلما كان شهود النعمة أتم كان الشكر أكمل.

وحقيقة الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً .. وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.

والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه،

ص: 1962

وجعله سبباً للمزيد من فضله.

والشاكرون قسمان:

فشكر العامة: على المطعم، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب ونحوها.

وشكر الخاصة: على ما سبق، وعلى التوحيد والإيمان والهداية.

وهذا أكمل، وأعلى، وأتم، وأشمل.

والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، وما يُّحمد الرب تعالى عليه أتم مما يُشكر عليه، فإنه يُّحمد على أسمائه وصفاته، وأفعاله ونعمه، ويُشكر على نعمه.

وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان.

وكل من الصبر والشكر داخل في حقيقة الآخر، لا يمكن وجوده إلا به، فإن الشكر هو العمل بطاعة الله، وترك معصيته، والصبر أصل ذلك، فالصبر على الطاعة وعن المعصية هو عين الشكر.

وإذا كان الصبر مأموراً به فأداؤه هو الشكر.

وحقيقة الشكر إنما تلتئم من الصبر والإرادة والفعل.

وصبر الطاعة لا يأتي به إلا شاكر، ولكن اندرج شكره في صبره، فكان الحكم للصبر، كما اندرج صبر الشكور في شكره، فكان الحكم للشكر.

ومقامات الإيمان لا تعدم ولا تزول بالتنقل فيها، بل تندرج ويطوى الأدنى في الأعلى كما يندرج الإيمان في الإحسان، وكما يندرج الصبر في الرضا، ويندرج الرضا في التفويض، لا أن ذلك يزول والمقدور الواحد يتعلق به الشكر والصبر، سواء كان محبوباً أو مكروهاً.

فالفقر مثلاً يتعلق به الصبر، وهو أخص به؛ لما فيه من الكراهة.

والغنى يتعلق به الشكر؛ لما فيه من النعمة، فمن غلب شهود نعمته في الفقر

ص: 1963

وتلذذ به عده نعمة يشكر عليها، ومن غلب شهود ما فيه من الابتلاء والضيق عده بليّة يصبر عليها، وعكسه الغنى.

والله تبارك وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وعد كل ذلك ابتلاء فقال:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35)} [الأنبياء: 35].

والله سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار.

وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، والعافية والبلاء.

والابتلاء بالنعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة أعظم الابتلائين، والنعمة بالفقر والمرض وفيض الدنيا وأسبابها، وأذى الخلق له، قد يكون أعظم النعمتين، وفرض الشكر عليها أوجب من الشكر على أضدادها.

فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه، وقضائه وقدره، لا يستغني عنهما طرفة عين.

والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الطعام والشراب أيهما أفضل؟ وكالسؤال عن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل؟

فالمأمور لا يؤديه العبد إلا بصبر وشكر، والمحرم لا يترك إلا بصبر وشكر.

وأما المقدور الذي يقدَّر على العبد من المصائب فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره.

والله عز وجل امتحن كل عبد بنفسه وهواه، وأوجب عليه جهادها في الله، فهو في كل وقت في مجاهدة نفسه حتى تأتي بالشكر المأمور به، وتصبر عن الهوى المنهي عنه، فلا ينفك العبد عنهما غنياً أو فقيراً، معافى أو مبتلى.

والله سبحانه لم يفضل أحداً بالفقر والغنى، كما لم يفضل أحداً بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى كما قال سبحانه:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13].

ص: 1964

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَاّ بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ:«أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ، «قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، (قَالَ: وَلَا أَدْرِي قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ أَمْ لَا) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَبَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» أخرجه أحمد (1).

والناس من آدم، وآدم خلق من تراب، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والتقوى مبنية على أصلين:

الصبر .. والشكر .. وكل من الغني والفقير لا بدَّ له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فأتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله هو الأفضل.

فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره.

والفقراء وإن كانوا يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فهذا لا يدل على فضلهم على الأغنياء في الدرجة وعلو المنزلة، وإن سبقوهم بالدخول إلى الجنة.

فقد يتأخر الغني والسلطان العادل في الدخول لحسابه، فإذا دخل الجنة كانت درجته أعلى ومنزلته أرفع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» أخرجه مسلم (2).

وقد جمع الله سبحانه لرسوله بين المقامين: الصبر والشكر على أتم الوجوه،

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (23489)، انظر السلسله الصحيحة رقم (2700).

(2)

أخرجه مسلم برقم (1827).

ص: 1965

فكان سيد الأغنياء الشاكرين، وسيد الفقراء الصابرين.

فحصل له من الصبر على الفقر ما لم يحصل لأحد سواه، وحصل له من الشكر على الغنى ما لم يحصل لغني سواه.

فكان صلى الله عليه وسلم أصبر الخلق في مواطن الصبر، وأشكر الخلق في مواطن الشكر، وربه عز وجل كمل له مراتب الكمال، فجعله في أعلى مراتب الأغنياء الشاكرين، وفي أعلى مراتب الفقراء الصابرين.

فصلوات الله وسلامه عليه عدد المخلوقات والذرات والأنفاس.

وقد جعل الله نبيه غنياً شاكراً بعد أن كان فقيراً صابراً كما قال له سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 - 8].

والشكر مبني على ثلاثة أركان:

الأول: معرفة النعمة وقدرها.

الثاني: الثناء على الله المنعم بها.

الثالث: استعمالها فيما يحب موليها ومعطيها وهو الله سبحانه.

فمن كملت له هذه الثلاثة فقد استكمل الشكر.

وبمشاهدة النعمة يتولد في القلب الحب والتعظيم للمنعم، ويخبت لطاعة من أنعم بها عليه، وكلما ازداد العبد علماً ومعرفة بحقيقة النعمة ومقدارها ازداد طاعة ومحبة، وإنابة وإخباتاً، وشكراً وتوكلاً.

والشكر قيد النعم، فإن شُكرت قرّت، وإن كُفرت فرت، كما قال سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} [إبراهيم: 7].

وأعظم الشكر لله سبحانه هو توحيده، والإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له.

والله تبارك وتعالى غني عن كل ما سواه، فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، والمنتفع

ص: 1966

بالشكر هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر كما قال سبحانه:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40].

ولكنه سبحانه يحب أن يحمد ويشكر، ويكره أن يكفر به وبنعمته كما قال سبحانه:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].

والكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112].

والله حكيم في عطائه، وحكيم في منعه، وله الحمد على هذا وهذا، وهو الحكيم العليم.

ومن أسماء الله عز وجل الشاكر والشكور كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].

وقال سبحانه: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغابن: 17].

وشكر الرب تعالى ليس كشكر المخلوق، بل له شأن آخر كشأن صبره سبحانه، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة.

فإنه يعطي العبد، ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء، فلا يستقله أن يشكره.

ويشكر الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.

ويشكر عبده بأن يثني عليه في الملأ الأعلى، وبين ملائكته.

ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك شيئاً لله أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً، رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو سبحانه الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وعلى هذا.

فسليمان صلى الله عليه وسلم لما عقر الخيل التي أشغلته عن ذكر ربه أعاضه عنها متن الريح.

ولما احتمل يوسف صلى الله عليه وسلم ضيق السجن شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض

ص: 1967

يتبوأ منها حيث يشاء.

ولما بذل الرسل والمؤمنون أعراضهم في الله لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته.

ولما ترك الصحابة رضي الله عنهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاته أعاضهم عنها أن ملَّكهم الدنيا، وفتحها عليهم.

ومِنْ شكره سبحانه أن يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا بأن يخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه.

ومن شكره سبحانه أنه غفر للمرأة البغي بسقيها كلباً قد جهده العطش حتى أكل الثرى، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق الناس.

وهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه، وأعظم من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه، وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة.

فهو سبحانه المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه؟.

وشكره سبحانه يأبى تعذيب عباده بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يضيع أجر محسن، ولا يعذب غير مسيء كما قال سبحانه:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].

ومن شكره سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من إيمان، ولا يضيع عليه هذا القدر.

ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاماً يرضيه بين الناس فيشكره وينوه بذكره، كما شكر لصاحب ليس مقامه، ودعوته إليه.

ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلق إليه من اتصف

ص: 1968

بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها، واتصف بضدها، وهذا شأن أسمائه الحسنى كلها.

أحب الخلق إليه من اتصف بموجبها .. وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها.

ولهذا يبغض سبحانه الكفور والظالم، والجاهل والبخيل، والجبان واللئيم.

وهو سبحانه جميل يحب الجمال، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، عفو يحب العافين.

وكل ما عرفه الخلق كلهم من نعم الله تعالى بالإضافة إلى ما لم يعرفوه أقل من قطرة في بحر كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} [النحل: 18].

والخلق لم يقصروا في شكر النعمة إلا للجهل والغفلة، فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها.

ثم إن عرف العباد نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه: الحمد لله، والشكر لله فقط، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها، وهي طاعة الله وعبادته، ولله تعالى في كل موجود حكمة ونعمة فليشكر العبد ربه عليها.

والشكر على ثلاث درجات:

الأولى: الشكر على المحاب، فكل الخلق في نعم الله، وكل من أقر بالله رباً، وعلم تفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه، لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر، وهو الاستعانة بها على مرضاته.

الثانية: الشكر في المكاره، وهو أشد وأصعب من الشكر على المحاب، ولهذا كان فوقه في الدرجة، فالمسلم لا يحب المكروه، ولا يرضى بنزوله به، فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه، فكان شكره كظماً للغيظ الذي أصابه، وستراً للشكوى.

وهذا الشاكر قابل المكاره الذي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوسطهم

ص: 1969

بالصبر، وأقلهم بالرضا، قابلها هو بأعلى من ذلك كله، وهو الشكر والحمد.

الثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم، فهو مشغول بمراده منه عن غيره، وواقف مع مراد الملك منه، لا مع مجرد حظه من الملك، وعبادة النفس أن يقف الإنسان مع مراده من الله، لا مع مراد الله منه.

ودرجات الشكر وأنواعه كثيرة:

فحياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر .. ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر .. والمعرفة بعظيم حلم الله وستره شكر .. والمعرفة بأن النعم ابتداء من الله بغير استحقاق شكر .. والعلم بأن الشكر نعمة من نعم الله شكر.

وحسن التواضع في النعم والتذلل فيها شكر .. وشكر أهل الجود والإحسان من الخلق شكر، فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله .. وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر.

وتلقي النعم بحسن القبول، واستعظام صغيرها شكر، واستعمال النعمة في طاعة الله شكر، والثناء على الله بها شكر.

والنعمة: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وكل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى.

والنعمة على ثلاثة أقسام:

أحدها: نعمة تفرد الله بإيجادها نحو أن خلق ورزق.

الثانية: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة أنها وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة .. والخالق لذلك المنعم .. والخالق لداعية الإنعام في قلب ذلك المنعم، إلا أنه لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد، كان ذلك العبد مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى، ولهذا قال سبحانه:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان: 14].

فبدأ بنفسه تنبيهاً إلى أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله.

ص: 1970

الثالثة: نعم وصلت إلينا بسبب طاعاتنا، وهي أيضاً من الله؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وفقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأزاح الأعذار عنا، وإلا لما وصلنا إلى شيء منها.

والمدح: يحصل للعاقل وغير العاقل كمدح الإنسان العاقل على حسن خلق، ومدح اللؤلؤ لجماله.

والحمد: لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام، والإحسان، سواء وصل إليك أو إلى غيرك.

والشكر: عبارة عن تعظيم المنعم وشكره على الإنعام الواصل إليك.

فالمدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر.

والله سبحانه هو الذي أنعم على البشر بالأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي أعطاهم إياها، وجعل ينميها فيهم شيئاً فشيئاً إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك لأجل أن يشكروا الله باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، خاصة السمع والبصر والعقل كما قال سبحانه:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: 78].

فلله الحمد والشكر على ما أعطانا من كل خير .. وله الحمد على ما صرف عنا من الشر .. وله الحمد والشكر على ما أنعم به علينا وعلى غيرنا .. وله الحمد والشكر أن ابتدأنا بالنعم قبل أن نسأله .. وله الحمد والشكر على دوام النعم خاصة نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة.

«اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» أخرجه مسلم (1).

(1) أخرجه مسلم برقم (478).

ص: 1971

«اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [وَمَنْ فِيهِنَّ]، وَلَكَ الْحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ» متفق عليه (1).

اللهم لك الحمد كله .. ومنك الفضل كله .. وإليك يرجع الأمر كله .. أوله وآخره .. علانيته وسره .. كبيره وصغيره .. لك الحمد لا أحصى ثناءً عليك.

أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد.

وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد.

وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد.

وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد.

وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد.

وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد.

وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد.

وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد.

وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد.

وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد.

(1) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1120) واللفظ له، ومسلم برقم (769).

ص: 1972