الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 - فقه الحزن
قال الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139].
وقال الله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34].
الحزن: هو الانخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة، لتأسف على فائت، أو توجع لممتنع.
فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله كشفها ودفعها، وهو من عوارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين إلى الله، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه جزاءً ولا ثواباً، بل نهى عنه في غير موضع كما قال سبحانه:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل: 127].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» أخرجه البخاري (1).
فالهم والحزن قرينان، وهو الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم.
فالحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن كما قال سبحانه:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 10].
فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى بها العبد بغير اختياره كالألم والمرض ونحوها.
(1) أخرجه البخاري برقم (2893).
وأما أن يكون الحزن عبادة مأمور بها فلا، ولكن يحمد في الحزن سببه، ومصدره، ولازمه، لا ذاته.
فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في طاعة ربه وعبادته، وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته، وضياع أيامه وأوقاته.
وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه، وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه.
ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك، ولم يحزن، ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه.
بل الذي ينفعه أن يستقبل السير، ويجد ويشمر، ويبذل جهده.
وأخص من هذا الحزن حزن العبد على جزء من أجزاء قلبه، كيف هو خال عن محبة الله؟ وحزنه على جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؟
ويدخل في هذا الحزن كل معارض يشغل العبد عن ربه من خاطر، أو إرادة، أو شاغل من خارج.
فهذه المراتب من الحزن لا بدَّ منها في الطريق، ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكره فيما يدفعها به.
فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به، فأوردتها الحزن.
وإن كانت نفساً شريفة كبيرة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن كان منه مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه، وإن كان ذلك عوضاً لها من الحزن فلا فائدة في الحزن أصلاً.
ومن عرف الله أحبه ولا بدّ، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب.
فإنه لا حزن مع الله أبداً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في الغار وحكاه الله في القرآن: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فدل هذا على أنه لا حزن مع الله، وإنما الحزن لمن فاته الله، فمن حصل له الله فعلى أي شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأي شيء يفرح؟
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58].
فمعرفة الله تعالى جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة، وزال بها كل حزن، وحصل بها كل فلاح وسعادة، فبذلك فليفرحوا.
وإنما أمر الله بالفرح بفضله ورحمته؛ لأن ذلك يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى وقوتها، وهذا فرح محمود.
أما الفرح بلذات الدنيا وشهواتها، أو الفرح بالباطل فإن هذا مذموم كما قال سبحانه عن قوم قارون أنهم قالوا له:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)} [القصص: 76].
وكما قال سبحانه في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)} [غافر: 83].
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين لا نسبة بينها وبين جميع ما في الدنيا مما هو مضمحل زائل عن قريب.