الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - فقه حقيقة العبودية
1 -
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
2 -
وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].
3 -
الله تبارك وتعالى هو الملك الذي لا يخرج عن ملكه أحد، الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته لا ينفك عنه أبداً.
والله سبحانه هو الصمد، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.
والإنسان يذنب دائماً، ويقصر دائماً، فهو فقير مذنب مقصر، وربه تعالى يرحمه ويغفر له؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
ولولا رحمة الله لعباده وإحسانه إليهم، لما وجد العبد خيراً أصلاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وليست سعادة الإنسان في أن يكون عالماً بالله، مقراً بما يستحقه، دون أن يكون محباً له، عابداً له، مطيعاً له.
بل أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأشقاهم حياة في الدنيا، عالم لم ينفعه الله بعلمه.
فإذا علم الإنسان الحق، وأبغضه وعاداه كان مستحقاً من غضب الله وعقابه ما لا يستحقه من ليس كذلك كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} [الشورى: 16].
والله عز وجل هو المستحق للعبادة وحده دون سواه.
فهو سبحانه أعظم من خلق .. وأكرم من سئل .. وأرحم من ملك .. وأحق من عُبد .. لا إله غيره، ولا رب سواه.
فكمال الأدب مع الله يكون بالإيمان به، وتوحيده، وطاعته، والقيام بدينه، والتأدب بآدابه ظاهراً وباطناً.
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء:
معرفة الله بأسمائه وصفاته .. ومعرفة دينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه .. ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق، والعمل به والدعوة إليه، والصبر عليه.
ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا بأمرين:
اليقين .. والعافية.
فاليقين: يدفع عن العبد عقوبات الآخرة.
والعافية: تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين عافيتي الدين والدنيا بقوله: «اسْأَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَداً لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ» أخرجه الترمذي (1).
ولله سبحانه على كل إنسان عبودية خاصة بحسب مرتبته وقدرته، سوى العبودية العامة التي سّوَّى الله بين عباده فيها.
فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره.
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما.
(1) صحيح: أخرجه الترمذي برقم (3558)، صحيح سنن الترمذي رقم (2821).
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه، وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك، والجهاد عليه، ما ليس على المفتي.
وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير.
وعلى القوي بدينه من عبودية الجهاد ما ليس على الضعيف
…
وهكذا.
وقد غر إبليس أكثر الخلق فحسّن لهم القيام بنوع من الذكر، أو قراءة القرآن، أو الصلاة والصيام، أو الزهد في الدنيا والانقطاع عن الناس، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها.
وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً وفقهاً.
فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك الحقوق التي تجب عليه لله أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي.
فإن ترك الأمر أعظم عند الله من ارتكاب النهي.
ومن له بصيرة وخبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، رأى أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً وفقهاً.
وأي دين؟ وأي خير؟ وأي علم؟ وأي فقه؟ فيمن يرى الكفر يملأ الأرض وهو صامت ساكن لا يدعو إلى الله، ويرى الجهل قد عمّ وطمّ، ويرى تفشي البدع وهو ساكن لا يتحرك، ساكت لا يأمر ولا ينهى.
ويرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وهو بارد القلب، صامت اللسان، ساكن الجوارح.
وهل بلاء الدين إلا من هؤلاء، الذين إن سلمت لهم وظائفهم ورياستهم ومآكلهم فلا مبالاة لهم بما جرى على الدين وأهله.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهي موت قلوبهم.
فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله ودينه أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه.
ولهذا كان الواجب على الأنبياء والرسل أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على العلماء أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته وقدرته تكون مسئوليته وعبوديته.
وكمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة، والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية.
وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان، وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} [العنكبوت: 2 - 4].
فالجنة غالية الثمن، لا ينالها المؤمنون إلا بالجهاد والصبر، فَخَلْق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين.
فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله، يحبون في الله، ويبغضون لله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله.
ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاء والفلاح إلا بذلك.
ولما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة النفس والشيطان وبني جنسه، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده لا يشركه فيه غيره كان أتم اجتهاداً وأوفر سعياً كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ
عَنِ الْعَالَمِينَ (6)} [العنكبوت: 6].
ولما كان زمن التألم والعذاب والمجاهدة قصيره طويل، سلَّى الله أهله بأن له أجلاً ثم ينقطع، وضرب لأهله أجلاً للقائه سبحانه، ليهون عليهم أثقاله، ويخف عليهم حمله واحتماله كما قال سبحانه:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)} [العنكبوت: 5].
وعبادة الله تبارك وتعالى أصل السعادة في الدنيا والآخرة، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميزه بمزاج لطيف عجيب، وجعل فيه ميل الانتخاب، وميل الأحسن، وميل الزينة.
ولأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه وملبسه إلى الامتزاج مع أبناء جنسه، ليستفيد كل من الآخر في سائر المعاملات والحاجات.
وذلك يحتاج إلى أوامر من الله يسير عليها العباد في معاملاتهم ومعاشراتهم؛ لئلا يقع بينهم الظلم والعدوان.
ثم لتأسيس إطاعة الأوامر واجتناب النواهي احتاج العبد إلى إدامة تصور عظمة الخالق ومالك الملك في الأذهان، وذلك هو التوحيد والإيمان بالله عز وجل.
ثم لإدامة هذا التصور ورسوخ العقيدة في القلب، يحتاج العبد إلى مذكِّر مكرَّر، وعمل متجدد.
وما المذكر المكرر إلا العبادة من صلاة وصيام وذكر ونحوها.
فالعبادة لتوجيه القلوب والجوارح إلى الخالق الحكيم العليم القدير، والتوجه لتأسيس الانقياد، والانقياد للوصول إلى النظام الشامل لشعب الحياة كلها، والذي شرعه الله لمصالح عباده.
والإنسان كما أن له علاقة مع نفسه، ومع أبويه، ومع أقاربه، ومع جيرانه، ومع من يستفيد منه ويتعامل معه في مأكله وملبسه ومركبه ومسكنه ونحو ذلك، فكذلك له علاقة مع ربه، ومع كتابه، ومع رسوله.
والله سبحانه جعل لكل علاقة مما سبق تعليمات وإرشادات، وسنناً وآداباً، وأصولاً وأحكاماً، وأعطى على ذلك الأجر والثواب.
وهذا هو الدين الذي أكرم الله به البشرية، والذي ينبغي أن يدخل في كل شيء؛ لأن به صلاح كل شيء كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} [البقرة: 208].
وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2].
فالعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وحاجة العباد إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، فالدين إذا خرج من حياة الأمة أصابها بلاء عظيم، وعوقبت بأمرين هما: الجهل والغفلة.
فيصير الإنسان جاهلاً بالحقوق والحدود، غافلاً عن القيام بالواجبات والحقوق والحدود، وكل حق له حد، فطاعة الوالدين حقها أن يطاعا ما لم يأمرا بمعصية الله عز وجل، وطاعة الحاكم حدها أن يطاع في كل شيء ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل.
وإذا كانت المعاملات والعلاقات على غير الدين جاء الفساد وكثر، ثم جاءت المصائب والعقوبات نقداً كما قال سبحانه:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم: 41].
والأسباب إنما هي للابتلاء، وهي مكان الأوامر، يبتلي الله بها العباد، ليعلم من يطيع أمره ممن يتبع هوى نفسه كما قال سليمان صلى الله عليه وسلم:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40].
وحقيقة الدين ليس معناها كيف نصوم ونصلي فقط؟، وكيف نؤدي العبادات رسوماً بلا روح، ونفعل ما نشاء، ونترك ما نشاء.
بل حقيقة العبودية:
التقرب إلى الله بالدين الكامل .. وامتثال أوامر الله في جميع الأحوال .. وكيف نشعر أن الله معنا .. وكيف يرضى عنا .. وكيف نرضيه .. وكيف نطمئن بذكره .. نحس بقربه ولطفه فنناجيه ونسأله .. ونقدم الشكوى إليه .. ونتيقن أن الله معنا .. يعلم جميع أحوالنا .. ويسمعنا ويرانا .. ويعلم ما في نفوسنا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
وهو سبحانه يعلم سرنا ونجوانا، وما نخفيه وما نبديه، والكل عنده سواء، وهو علام الغيوب.
وهو سبحانه الملك الكريم العزيز الجبار، وبيده كل شيء.
فنتأدب في عرض أحوالنا وحوائجنا عليه بذكر نعمه وإحسانه وآلائه على العباد، ونذكر عظمته وجلاله وغناه، ونحمده على جميل عفوه ومغفرته، وسعة حلمه ورحمته.
ونضع نواصينا وقلوبنا وجوارحنا بين يديه، معترفين بالتقصير والخطأ، والجهل والظلم، والنسيان والغفلة، واقتراف الذنوب.
فقد قصرنا في أداء العمل، وفي حسن العمل، وفي إكمال العمل، وفي إخلاص العمل.
وهذه ذنوب عظيمة، وليس لنا من يغفرها إلا الله، وليس لنا من يحفظنا إلا الله، وليس لنا من يرحمنا إلا الله، وليس لنا من يرزقنا إلا الله الذي تكفل بأرزاق الخلائق كلها كما قال سبحانه:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].
هذا هو الصراط المستقيم الذي يبلغ به الإنسان ويكمل ويصله بربه، فيوجه بركاته ورحمته إليه كما قال سبحانه:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}
[الأعراف: 96].
فالكائنات كلها بيد الله وحده.
فمن أطاع الله ورسوله، وعبد الله بما شرع رسوله، مخلصاً لربه، سخر الله له المخلوقات، وجعلها في خدمته ونصرته، كما سخر الماء لنوح وموسى، والنار لإبراهيم، والريح لهود، والصاعقة لصالح، والملائكة لمحمد ولوط، ونحو ذلك.
وهذا اليقين هو روح العبودية، وإذا عبدنا الله به بالقلب والقالب كان الله معنا، واستفدنا من خزائنه.
وكلما انصرف الإنسان عن الله وعن الدين تركه فسقط في أودية الهلاك مهما كان عنده من الأموال والأشياء كما حصل لقوم نوح وهود، وصالح وشعيب، وقوم لوط، وكفار مكة وغيرهم.
فهؤلاء أرسل الله إليهم الرسل بالتوحيد والإيمان، فلما أبوا واستكبروا وظلموا دمرهم الله وأهلكهم، وأنجى رسله والمؤمنين بهم سواء كانت معهم الأسباب أو لم تكن لأن الله معهم، ومن كان الله معه فمن ذا الذي يهزمه أو يخذله أو يقف في وجهه.
وكثير من المسلمين اليوم يرون أن فلاحهم في الملك والمال والأشياء وأن بها يقوم الدين، ويضيعون أوقاتهم وينفقون أموالهم للحصول عليها.
وهذا خطأ، فالذي نحتاج إليه لإقامة الدين في حياتنا وحياة الناس هو كيف يكون الله معنا، ولا يكون معنا بنصره وتأييده إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128].
فالله عز وجل ينصرنا بقدرته إذا أطعناه، سواء كانت عندنا الأشياء أو لم تكن.
فالنمرود جمع وقومه الحطب الكثير، وأشعل النار ليلقي فيها إ براهيم صلى الله عليه وسلم، وما خاف إبراهيم منه ولا من النار؛ لأنه يعلم أن النمرود وملكه وجيشه، ومن في السموات ومن في الأرض، كلهم ليس بأيديهم شيء، وأن الأمر كله بيد الله
وحده.
فلما ألقوه في النار، ولقوة يقين إبراهيم على ربه أمر الله الضار أن يكون نافعاً، وسلب النار خاصية الإحراق، جسد إبراهيم خاصية الاحتراق، وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم كما قال سبحانه:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء: 68، 69].
وكذا فعل الله بنوح ومن آمن معه فحملهم في السفينة، وجعل الماء الذي أغرق به أعداءه حاملاً لهم، مهلكاً لأعدائه في وقت واحد كما قال سبحانه:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)} [الفرقان: 37].
وطريق معية الله سهل، بأن يعيش الإنسان إنساناً مؤمناً بربه مستقيماً على أوامره:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
فهذا حق الله علينا أن نعيش كما أراد الله، إنساناً عاقلاً يؤمن بربه، ويمتثل أمره، لا حيواناً يفعل ما يشاء، ويأكل ما يشاء.
وكثير من الناس يعيش حيواناً لا إنساناً، بل أضل من الحيوان كما قال سبحانه:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].
وأعظم منصب يناله الإنسان، وأعلى مقام يصل إليه، وأفضل درجة يرقى إليها، هي مقام العبودية، بأن يكون عبداً لربه ومولاه مالك الملك، وجبار السموات والأرض، الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، كما وصف بها سيد الأنبياء والرسل في مقام الوحي كما قال سبحانه:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 10].
وفي مقام الإسراء بقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
[الإٍسراء: 1].
والعبد إنما يفخر ويعتز بمالكه وسيده ومولاه كما قال إبراهيم للنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
والحر يفتخر ويعتز بما يملك من الأموال والأشياء.
وماذا يملك الإنسان .. وماذا بيده .. وماذا يملك الرب .. ؟: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120].
ولا يكون العبد عبداً لله حقاً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً حتى لا يكون عبداً لما سواه.
فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، وفيه من الشرك بقدر محبته له، وعبادته لذلك الغير زيادة.
ومن عرف ربه، وعرف جلاله وجماله وكماله، وجد لذة عبادته، وطاب له الاشتغال بها، وثقل عليه الاشتغال بغيرها لوجوه:
أحدها: أن الكمال محبوب بالذات، وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بعبادة ربه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإنه يستنير قلبه بنور الإلهية، ويتشرف لسانه بشرف ذكر الله، وتتجمل أعضاؤه بجمال سنن الله.
الثاني: أن العبادة أمانة، وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً، وأداء الأمانة من أحد الجانبين سبب لأداء الأمانة من الجانب الثاني، فمن حفظ أوامر الله وحدوده حفظه الله وأكرمه، ومن أضاع أوامر الله وحدوده أهلكه الله وأهانه.
الثالث: أن الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى عالم السرور، ومن الاشتغال بالخلق إلى الاشتغال بطاعة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة.
والله تبارك وتعالى هو الملك الحق المبين، وكل ما سواه عبد مملوك، والله سبحانه بيده كل شيء، وما سواه ليس بيده شيء كما قال عز وجل:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
والناس في العبودية قسمان:
الأول: عبيد الطاعة، وهم أهل الإيمان، والعبيد ليس لهم إلا باب سيدهم، يسألونه من فضله وإحسانه، ويلوذون به ويستعينون به، وإضافتهم إليه كإضافة البيت الحرام إليه كما قال سبحانه:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63].
الثاني: عبيد القهر والربوبية، وإضافتهم إليه كإضافة سائر المخلوقات إليه، وهذه العبودية يدخل فيها عموم الخلق كما قال سبحانه:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93].
وعبادة الله عز وجل تقوم على أصلين:
المحبة .. والخوف.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر .. وبالخوف يكون اجتناب النهي.
وينبغي أن يكون خوف العبد ورجاؤه سواء، فأيهما غلب هلك صاحبه، وعند الموت يُغلِّب جانب الرجاء على الخوف.
والله حكيم عليم، وله في خلقه شئون، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذنه.
ومن سنة الله التي لا تتخلف أنه سبحانه كما أودع الماء حكمته في إزالة أوساخ الجسم به، وجعل ذلك سنة لا تتبدل، فكذلك أودع ما شرعه من أقوال العبادة وأفعالها حكمته التي تطهر النفس وتزيل عنها أدرانها.
فكما يزيل الماء الوسخ الظاهر، فكذلك العبادة تزيل الدرن الباطن، وكلاهما موضوع للتطهير، سنة الله التي لا تتبدل، وهو الحكيم الخبير:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23].
وكما أن الماء إذا لم يحسن الإنسان استعماله في غسل الأجسام والأشياء فإنه لا
يؤثر في تطهيرها، لا سيما إذا خالطه شيء لا يتلاءم مع طبيعته، فكذلك العبادة إذا أداها العبد أداءً ناقصاً، أو لابسها شرك أو رياء، فإنها تفقد خاصيتها بالتطهير والتزكية للروح، ومن ثم لا تقبل:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
والنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توحيداً وإيماناً، وأكملهم عبودية لله، وأكملهم محبة له، وأكملهم افتقاراً إليه، وأكملهم توبة واستغفاراً لله عز وجل.
فهو أفضل الخلق عند الله، وأكرمهم منزلة، وهو سيد ولد آدم، والخير كله من الله، والخلق كله لله، والأمر كله لله، وليس للمخلوق منه شيء، بل المخلوق فقير إلى الله من كل وجه، والله غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
وقال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53].
والعبد إذا أصبح أو أمسى وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه.
وفرَّغ قلبه لمحبته .. ولسانه لذكره .. وجوارحه لطاعته.
وإذا أصبح أو أمسى والدنيا همه، فرَّق الله عليه شمله، ووكله إلى نفسه، وحمله هموم الدنيا وأنكادها.
فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق .. ولسانه عن ذكره بذكرهم .. وجوارحه عن طاعته بطاعتهم وخدمتهم وتنفيذ أوامرهم .. فهو يكدح كدح الوحش والحيوان في خدمة غيره.
وسنة الله جارية أن كل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق، ومحبته وخدمته وطاعته ولو كان في معصية الله، فهو إما عبد لخالقه ومولاه، أو عبد لهواه.
ومن أحب الله أنس به، ومن أحب غير الله عُذب به، وأصابه الخذلان من جهة ما تعلق به:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
وتمام العبودية وكمالها يكون بتكميل نوعين من أنواع التذلل والتعبد:
أحدهما: ذل المحبة لله، بأن يشهد العبد عزة محبوبه وجلاله وعظمته، فيحمله ذلك على التقرب إليه، والتودد إليه، والتملق له، وإيثار ما يرضيه، والصبر على أوامره، والرضى بأقداره، والحمد على نعمه، والتلذذ بطاعته.
الثاني: ذل المعصية، فإذا وقع العبد في معصية أحدث له ذلك الذل والانكسار.
فإذا انضاف هذا إلى ذاك لم يبق إلا شهود عزة الله وجلاله وكبريائه، وضعف الإنسان وعجزه، وفقره وذله لربه.
ومتى شهد العبد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، فإذا ابتلي بالذنب تصاغرت نفسه وذل وخضع لربه.
ولكل اسم من أسماء الله عز وجل وصفاته عبودية خاصة تظهر على القلب والجوارح.
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالنفع والضر، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكل على الله سبحانه.
وعلم العبد بسمع الله تعالى وبصره، وعلمه بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله.
ويجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء، ويثمر له الحياء الإكثار من الطاعات، واجتناب المحرمات.
ومعرفة العبد بغنى الله، وجوده وكرمه، وبره وإحسانه، وعفوه ورحمته يوجب له ذلك سعة الرجاء، والتضرع إلى الله، والوقوف ببابه، وسؤاله ودعائه.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وكبريائه وعزته يثمر له الخضوع لربه، والاستكانة إليه، والمحبة له، والاعتماد عليه.
وعلم العبد بكمال الله وجماله، وجمال أسمائه وصفاته وأفعاله، يوجب له محبة خاصة.
فالمحبة نوعان:
محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً.
ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى، وعبادة الله عز وجل هي طاعته بامتثال أوامره في جميع الأحوال والأوقات.
فالعبادة: هي الغاية من خلق الخلق كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56 - 58].
وبعث الله بها كل رسول إلى قومه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36].
ودعا إليها كل رسول بقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85].
وأمر الله بها الناس جميعاً بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21].
والعبادات والشعائر كالصلاة والصيام ونحوهما رباط وثيق بالله .. ولقاء كريم بين العبد ومولاه .. وضيافة عزيزة عند الله
…
ومعراج للنفس البشرية إلى الملكوت الأعلى.
إذ كيف يكون حب من الله لعبده ولا يكون لقاء؟.
وكيف يكون ود من الله لعبده ولا تكون ضيافة؟.
وكيف تكون رحمة من الله لعبده ولا تكون طاعة من العبد لربه؟.
وفي العبادة تجرد لله من كل شيء، لتدريب النفس على عدم التعلق بأحد سوى الله.
وللعبودية منازل:
الأولى: اليقظة والانتباه من النوم، فإذا استنار قلبه بعد الانتباه أوجب له ملاحظة نعم الله الظاهرة والباطنة.
ثم شاهد عظمتها وكثرتها وتنوعها، ثم يئس من عدها، ثم شاهد منَّة الله بها من غير استحقاق ولا دفع ثمن، فيرى تقصيره في شكرها، فيلهج بذكر الله وحمده.
الثانية: مطالعة الجناية بالنظر إلى ما سلف من الإساءة، فيشمر لتخليص نفسه من رق الجناية بالاستغفار والندم، ويمحص نفسه من خبث الجناية بالتوبة والاستغفار، وفعل الحسنات الماحية.
الثالثة: الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيتدارك ما فاته في بقية عمره، ويستغل أوقاته فيما يقربه إلى الله عز وجل.
إن الإسلام ميلاد جديد للإنسان، يخضع فيه العبد لربه، ويتوجه إليه في جميع أحواله، ويمتثل أمر من خَلَقه، ويشكر من رَزَقه، ويتشرف بطاعته.
فالعبودية لله مرتبة عالية، ومنزلة سامية، ورتبة كريمة، ولا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء.
والله سبحانه لا يريد من عباده أن يقروا له بالعبودية وأن يعبدوه وحده لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى، ولكنه سبحانه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الربوبية، وحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية.
فلا يمكن أن تستقر التصورات، ولا أن تستقر الحياة وتنتظم إلا بهذه المعرفة الشاملة.
يريد الله تبارك وتعالى أن يستقر الإيمان في نفوس الناس وفي حياتهم، ليخرجوا
من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ليعرفوا مّنْ صاحب السلطان في هذا الكون، وفي هذه الأرض.
فلا يخضعوا إلا له، وإلا لمنهجه وشريعته، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه.
يريد سبحانه أن يعرف الناس أن العبيد كلهم عبيد فقراء، ليس فيهم رب ولا إله.
ألا ما أجمل الحياة إذا تعلقت نفوس البشر بالله وحده، وتعلقت قلوبهم برضاه، وتعلقت أعمالهم بتقواه، وتعلق نظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.
وأما ما يجزيهم به في الآخرة فهو كرم منه وفضل وفيض من عطاء الله.
والذين يستنكفون عن عبادة الله يذلون لعبوديات أخرى في هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة .. أو عبودية الوهم والخرافة .. ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم .. ولهم في الآخرة عذاب أليم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60].
فالعبادة حق لله وحده، وقد وضعوها في غير موضعها، وصرفوها لغير مستحقها، وهذا ظلم عظيم، وعقوبته أشد عقوبة كما قال سبحانه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72].
والاعتصام بالله ثمرة ملازمة الإيمان به، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعرف عبودية الكل له، وعرف جلاله وجماله وكماله، فلا يبقى أمامه إلا أن يعتصم بالله وحده:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
ولا تسكن النفوس ولا تطمئن القلوب إلا بالاعتصام بالله وحده دون سواه.
وإذا اعتصم الناس بالله وحده، وقام شرعه في عباده، عرف كل إنسان مكانه على
حقيقته، عبدٌ لله، وسيد مع كل من عداه، فالمعبود واحد، والخلق كلهم سواء في العبودية، لكنهم فريقان:
مطيعون .. وعصاة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء: 175].
فهؤلاء الذين أطاعوه، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} [النساء: 173].
والله سبحانه هو الإله الواحد الذي لا شريك له في ألوهيته، وهو الخالق الواحد الذي لا شريك له في خلقه، وهو المالك الواحد الذي لا شريك له في ملكه.
فوجب بذلك أن لا يقضى شيء إلا بشرعه وإذنه.
فهو جلَّ وعلا صاحب الحق، ومالك الملك، وصاحب السلطان في تقرير المنهج الذي يرتضيه لملكه ولخلقه.
هو سبحانه الذي يملك أن يشرع لخلقه، وهو الذي يجب أن يطاع شرعه، وينفذ حكمه، وإلا فهو الخروج والمعصية والكفر الموجب للعذاب الأليم.
وهو سبحانه وحده العليم الحكيم الذي يقرر الاعتقاد الصحيح للقلب، كما يقرر النظام الصحيح للحياة سواء بسواء.
والمؤمنون هم الذين يؤمنون بالعقيدة التي أمر بها، ويتبعون النظام والشرع الذي يرتضيه لهم، هذه كتلك سواء بسواء.
وهم يعبدونه سبحانه بإقامة الشعائر، ويعبدونه باتباع الشرائع، فكلاهما من عند الله، هذا أمره، وهذا أمره، ولا سلطان لأحد في ملكه وعباده معه.
وهو وحده الذي يستحق أن يعبد، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، ولا يستحق العبادة أحد سواه:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
وقد حرم الله الخمر والميسر؛ لأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة التي تصل المسلم بربه.
ويصرفان العبد عن امتثال أوامر الله والنهوض بما أمر الله به، فالخمر تنسي، والميسر يلهي، وغيبوبة السكر واللهو تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم، ليكون موصولاً بالله في كل لحظة، مراقباً لله في كل خطوة.
ثم ليكون كذلك بهذه اليقظة عاملاً إيجابياً في نماء الحياة وتجددها، وفي صيانتها من الضعف والفساد، وفي حماية نفسه وماله وعرضه، وحماية أمن الجماعة المسلمة، ودينها وشريعتها من كل اعتداء.
فالمسلم سلعة غالية، ولهذا اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وأعطاهم على ذلك الجنة.
فللمسلم وظائف وأعمال، وجهد وبناء، وليس متروكاً لذاته ولذّاته وشهواته، فعليه في كل لحظة حيث كان ومن كان تكاليف وأوامر من ربه تستوجب اليقظة الدائمة:
تكاليف لربه .. وتكاليف لنفسه .. وتكاليف لأهله .. وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها .. وتكاليف للإنسانية كلها يدعوها إلى ربها، ويهديها إلى خالقها.
ومجموع هذه التكاليف والأوامر هي الدين، وهي العبادة التي يتقرب بها إلى ربه، يؤديها خالصةً لربها، وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
والناس ليسوا وحدهم في هذا الكون، حتى يكون وجودهم مصادفة، وحتى تكون حياتهم سدى وفوضى.
إن حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم، ومخلوقات أخرى لا يحصيها إلا الله، وكلها تعبد الله وتسبحه سامعة مطيعة لفاطرها كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
وذلك كله يدل على عظمة الخالق، وحسن تدبيره، وسعة رحمته التي عمت كل خلقه، وما ترك الله شيئاً من خلقه بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها، فيقضي في أمرها بما شاء:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38].
والله على كل شيء قدير، وقد شاء أن يجعل في الإنسان الاستعداد المزدوج للهدى والضلال عن اختيار وحكمة لا عن قهر وإلزام.
وكذلك الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، بمشيئته تلك التي تعين من يجاهد، وتضل من يعاند، ولا تظلم أحداً من العباد.
والله سبحانه هو الإله الذي يستحق أن يعبد ويخضع له، ويطاع أمره، فهو خالق خلقه ومالكهم، وهو كذلك الرازق الذي يرزقهم من ملكه الذي ليس لأحد شريك فيه.
فكل ما يقتاته الخلق وكل ما يأكلونه فإنما هو من هذا الملك العظيم الخالص لله.
فإذا تقرر أن الله وحده هو الخالق المالك الرازق تقرر أن تكون الربوبية له سبحانه، وأن تكون الألوهية له سبحانه، وأن تكون العبودية خالصة له سبحانه.
فلا يُعبد ولا يطاع ولا يُشَرِّع إلا هو سبحانه، ومن له الأسماء الحسنى والصفات العلا والكمال المطلق والجلال والجمال كيف يليق بالإنسان العاقل أن يعرض عنه، ويعبد غيره؟:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)} [الأنعام: 164].
أغير الله أبغي رباً ناقصاً عاجزاً يحكمني ويصرف أمري؟.
أغير الله أبغي رباً وهذا الكون كله في قبضته، والخلائق كلها تحت قهره
وربوبيته؟.
أغير الله أبغي رباً وإليه مرجع العباد فيحاسبهم على نياتهم وأعمالهم، وعلى طاعاتهم ومعاصيهم؟.
أغير الله أبغي رباً وهو الذي خلق الناس، واستخلفهم في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في الجسم والعقل، والعلم والرزق، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟.
أغير الله أبغي رباً فأجعل شرعه شرعاً وأمره أمراً وآيات الكون وآيات القرآن كلها ناطقة شاهدة بأن الله وحده هو الرب الواحد القادر على كل شيء؟.
أغير الله أبغي رباً وهو العزيز الجبار سريع العقاب لمن عصاه، الملك الغفور الرحيم لمن تاب إليه؟.
ألا ما أظلم الإنسان وما أسفهه، وما أوحشه إذا أعرض عن ربه ومولاه، وتولاه عدوه الشيطان، وأطاع نفسه وهواه:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 50].
فسبحان العظيم الذي لا أعظم منه، وسبحان الكبير الذي لا أكبر منه، القوي الذي لا أقوى منه، الكريم الذي لا أكرم منه، الحليم الذي لا أحلم منه.
أحق من عبد، وأجود من سئل، وأرحم من ملك.
هو الملك وكل ما سواه عبد، هو الغني وكل ما سواه فقير، هو القوي وكل ما سواه ضعيف.
ومن هذه أسماؤه وهذه صفاته وهذه أفعاله أيليق بالعاقل أن يتركه ويعرض عنه، ويعبد غيره من طاغوت عاجز أو حجر أو نبات لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً؟:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64].
إن الكون كله عابد لربه يسبح بحمده، السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والرياح الدائرة في الجو وكافة المخلوقات في السموات والأرض كما قال سبحانه:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
وإذا كان الكون كله عابداً لربه وبارئه وفاطره كما قال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
فإن استكبار الإنسان عن هذه العبودية التي تؤديها جميع المخلوقات لربها، استكباره نشاز وشذوذ في الوجود، يجعل الناشز غريباً شاذاً شائهاً في الوجود، مع ما أنعم الله عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، وفضّله على كثير من خلقه:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8].
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإيمان به، والإنابة إليه، وطلب مرضاته.
وأخلى لسانه من ذكر ربه، والثناء عليه، وأخلى جوارحه من شكره وطاعته، فلم يرد من نفسه ذلك ونسي ربه لم يرد الله سبحانه أن يعيذه من ذلك الشر، ونسيه كما نسيه، وقطع الإمداد الواصل إليه منه، كما قطع العبد العبودية والشكر
والتقوى التي تنال الله من عباده كما قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 37].
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، وخلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل والسوء كما قال سبحانه:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19].
وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41].
فعدم إرادة الله تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم، أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
فالذي إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير بأنواعه التي لا يحصيها إلا هو، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه.
فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة، وبعقوبته لهم به تارة، وإليهم انتهت غايته ووقوعه.
فسبحان من له الملك والحمد، العدل في قضائه، الحكيم في أفعاله.
وإذا كان الإنسان إنما يعبد ربه وحده ويستعين به وحده فقد تخلص الإنسان من استذلال غيره، وفي ذلك كمال العزة والغنى له.
والله يريد لعبده مع غيره هذا الكمال، ويريد لعبده معه الذلة والافتقار كما قال سبحانه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
فكمال المسلم بأمرين:
ذلته وافتقاره إلى ربه .. وعزته وغناه عما سواه.
والقوى الإنسانية بالنسبة للمسلم نوعان:
الأولى: قوة مهتدية تؤمن بالله وتتبع منهج الله، فهذه يجب أن يؤازرها ويتعاون
معها على نشر الحق والخير والصلاح، وهم المؤمنون بالله.
الثانية: قوة ضالة لا تؤمن بالله ولا تتبع منهجه، فهذه يجب أن يدعوها إلى الحق، فإن أبت وآذت حاربها وقاتلها كما قال سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} [البقرة: 193].
ولا يضر المسلمين ولا يخيفهم أن تكون قوة هؤلاء ضخمة أو عاتية، فهي بضلالها عن مصدر قوتها تفقد قوتها، تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها، وتخدع بأشباحها من لا إيمان له، والمخلوقات كلها في قبضة الله، ينجي بها من يشاء ويهلك بها من يشاء:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249].
وفي خلق الإنسان عجائب في ظاهره وباطنه، وفي أسراره وميوله.
فالنفس الإنسانية فيها ميل فطري إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة.
فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ ولا تسكن ولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وتطمئن به، يتم في الحس كما يتم في النفس، فحينئذ تهدأ وتستريح، وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً.
وعلى هذا الأساس الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه، شرع الله الشعائر التعبدية كلها كالصلاة والصيام والأذكار ونحوها.
فهذه الشعائر لا تؤدى بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلاً ظاهراً كالقيام والركوع والسجود والتكبير والقراءة في الصلاة، والإحرام من الميقات واللباس المعين والطواف والسعي والدعاء والتلبية والنحر والحلق في الحج، والنية، والامتناع عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم.
وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف الله بين ظاهر الإنسان وباطنه، ويلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد
الذات الإلهية عن كل تصور حسي.
وكذلك النهي عن التشبه بالكفار كاليهود والنصارى وغيرهم في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن مشاعرهم الباطنة.
فنهى الله عز وجل عن التشبه بهم في مظهر أو لباس أو حركة أو سلوك؛ لأن ذلك يجر إلى التشبه بهم في الباطن.
ثم الله عز وجل نهى عن التلقي من غير الله، ونهى عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم في الأرض، فالهزيمة الداخلية هي التي تندس في النفس لتقلد هذا المجتمع.
وقد أخرج الله المسلمين وبعثهم ليكونوا في مكان قيادة البشرية، فعليهم أن يستمدوا طريقة حياتهم كما يستمدوا عقيدتهم من المصدر الذي خلقهم واختارهم للقيادة:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
والمسلمون هم الأعلون، وهم الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس، فلا يليق بهم أن يأخذوا من الأقل منهم، ويقلدوا الأدنى الذي جاءوا ليرفعوه، فالإيمان لا يطيق له في القلب شريكاً، ولا يقبل شعاراً له غير الشعار الذي جاء عن الله ورسوله، وجعله الله مميزاً لهذه الأمة عن غيرها في الشعائر والشرائع، والآداب والأخلاق.
ومعرفة المسلم بأن غاية وجوده هو العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله، من شأنه أن يرفعه إلى الأفق الأعلى، والأدب الأسنى مع أوامر ربه، فهو يسمع ويطيع لأن الله وعده على ذلك الجنة.
فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله .. وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض.
فالأولى به أن لا يطغى ولا يتجبر، وأولى به أن لا يتعسف ولا يستعجل، وأن لا يركب الصعب من الأمور.
فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب المسنون في حدود طاقته.
فلا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، ولا يستبد به القلق، فكل شيء بقدر، وهو يعبد ربه في كل خطوة، ويحقق غاية وجوده في كل خطرة كما قال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
والخلق جميعاً يقفون أمام الرب وأمام الإله موقف العبودية، لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يتقدم بين يدي ربه، ولا يجرؤ على الشفاعة عنده إلا بإذنه.
فالعبودية لازمة لكل مخلوق في العالم العلوي وفي العالم السفلي: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93].
أما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد، فإن القرآن يسكبها في النفس سكباً، ويملأ بها قلب المؤمن، ويفيضها عليه، ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة: محباً لربه، شاكراً له، معظماً له، مسروراً بقربه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [البقرة: 186].
والله جل جلاله وحده هو الملك العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، العلي العظيم، القوي القدير.
وما يتطاول أحد إلى هذا المقام العظيم إلا ويرده الله إلى الخفض والهون، وإلى العذاب والهوان في الآخرة.
ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم، والافتقار إليه في جميع الأحوال والأوقات.
وإذا علم العبد أن ربه الملك القوي العزيز العليم، وإلهه العلي العظيم الكبير، ثاب إلى مقام العبودية، واقفاً بين يدي ربه، ساجداً له، معظماً له، شاكراً له، محباً
له، خاشعاً منكسراً بين يديه لما يراه من عظمته وجلاله وجماله وإحسانه، وتطامن كبرياؤه وطغيانه، ورده ذلك إلى مخافة الله ومهابته، وإلى الشعور بجلاله وعظمته، وإلى الأدب في حقه، والتحرج من الاستكبار عن عبادته وطاعته.
فما أعظم مقام العبودية، وما أسعد أهلها، وما أوفر وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، وذلك لا ينال إلا بالإيمان والتقوى كما قال سبحانه:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 15 - 17].
ولا قيمة لعمل ولا جزاء على بذل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان، وإلا أن يكون باعثه الإيمان كما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39].
وما كان الخلاف على مدار الزمن بين الجاهلية والإسلام، ولا كانت المعركة بين الحق والباطل على ربوبية الله سبحانه للكون، وتصريف أموره، وتدبير أحواله كما قال سبحانه:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31، 32].
إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس؟ ومن يكون ملك الناس؟ ومن يكون إله الناس؟.
لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذه الحقوق، ويزاولونها في حياة الناس، ويذلونهم بهذا الاغتصاب والاعتداء على حق الله، ويجعلونهم
عبيداً لهم من دون الله.
وكانت الرسل تجاهد دائماً لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت، ورده إلى صاحبه ومالكه الشرعي وهو الله سبحانه الذي له الخلق والأمر في الكون كله.
إن العبادة: هي الدينونة لله وحده في كل شأن من شئون الدنيا والآخرة، فإن (عبد) معناها:(دان وخضع وذل) سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس.
ولما بهت مدلول الدين والعبادة في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الكفر هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان والقبور مثلاً، وأن الإنسان متى تجنب ذلك فقد بعد عن الشرك والجاهلية، وأصبح مسلماً لا يجوز تكفيره، وهذا وهم باطل، وتبديل وتغيير لمفهوم العبادة التي هي الدينونة الكاملة المطلقة لله في كل شأن، ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن.
كما جاء ذلك صريحاً في كتاب الله في قوله سبحان: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162، 163].
والفعلة العظيمة التي استحقت بها الأمم السابقة الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن فقط هي مجرد أداء الشعائر التعبدية لغير الله، فهذه صورة من صور الشرك الكثيرة التي جاء نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ليخرجوا الناس منها إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
إنما كانت الفعلة النكراء التي استحق بها الكفار العذاب هي جحود آيات الله، وعصيان رسله، والكفر به، واتباع أمر الجبارين والطغاة من عبيده كما قال سبحانه عن عاد: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ (59)} [هود: 59].
ومتى عصى أقوام أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله، بأن لا يدينوا لغير الله، فدانوا للطواغيت، فقد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك.
وقد بين الله ذلك مفصلاً في سورة الأنعام عن مشركي قريش، وبين فيها أن إقامة الحياة على غير منهج الله، واتباع الطواغيت في التحليل والتحريم، واتباع شرع لم يأذن به الله، وعبادة الأصنام والتوجه إليها بالعبادة كله ضلال وشرك:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} [الأنعام: 140].
فهذا كله من الشرك الذي حذر الله منه.
كما حكى الله سبحانه في سورة الأعراف وهود أحوال الأمم المكذبة للرسل، والتي أشركت مع الله غيره سواء في الشعائر التعبدية، أو الشرائع التي تنظم حياة الناس كما قال سبحانه:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} [الأعراف: 65].
إن توحيد الربوبية .. وتوحيد الألوهية .. وتوحيد مصدر الشريعة .. وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة .. هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، حتى يكون الله وحده هو المعبود، وهو المطاع دون سواه، وهو الذي يستحق أن تبذل في سبيله الأنفس والأموال والأوقات والجهود؛ لأن الله في حاجة إلى ذلك، فالله سبحانه غني عن العالمين، وغناه وصف لازم لذاته.
ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم، ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في صلاح الحياة البشرية في كل
زمان وفي كل مكان، وهم أحوج إليه من الطعام والشراب.
وما ينال الأمم من العذاب والهلاك، والتدمير واللعنة إلا بسبب ترك التوحيد وترك عبادة الله عز وجل، ومزاولة الشرك في الحياة.
لقد هلكت عاد؛ لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد، هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا والآخرة:{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 60].
وثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61].
فلم يؤمنوا، فابتلاهم الله بالناقة فقتلوها مستهزئين ساخرين، وعقروها غير مبالين كما قال سبحانه:{وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)} [هود: 64].
فجاءهم عذاب الله فأهلكوا بالصيحة، ونجى الله صالحاً والمؤمنين معه:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66].
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن التوحيد لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.
حتى إن الحق الواضح الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها، بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى فطرة أو عقل أو حس.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5].
فأي حماقة وأي جهل وأي سفه وراء هذا القول؟
ونوح وهود وصالح دعوا أقوامهم إلى لا إله إلا الله، فقال ملؤهم لكل نبي: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ (66)} [الاعراف: 66].
والأمم السابقة واللاحقة كلهم فطرهم الله على التوحيد: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30].
فلم يكونوا يجحدون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9].
ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله، بما ينبغي أن يتبع من عبادة الله وحده، والدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع، وهو ما يدعوهم إليه كل نبي بقوله:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)} [هود: 84].
وما تستقيم عقيدة الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض.
فلا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد أبداً.
والشرك بالله ألوان، منه هذا اللون الذي يعيشه كثير من الناس اليوم، وهو يمثل أصل الشرك الذي يلتقي عليه المشركون في كل زمان ومكان.
إن العبادة من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة لله، وإن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ونبذ ما يعبد من دونه، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شريعة الله في كل شأن من شئون الحياة .. والتعامل .. والتجارة .. وتداول الأموال وغيرها.
فلا بدَّ من طاعة الله في كل ذلك وتنفيذ أمره كما قال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)} [هود: 84، 85].
والشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي يزاوله كثير من الناس اليوم وقبل اليوم، فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر التعبدية والشرائع والتعامل.
وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} [البقرة: 85].
لقد انحسر مفهوم الدين .. ومفهوم التوحيد .. ومفهوم العبادة .. عند كثير من المسلمين .. بسبب جهلهم وغفلتهم .. وزحزحة شياطين الإنس والجن لأوامر الله من حياتهم.
فهم يستنكرون لهذا وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، ووجود صلة بين التوحيد والمعاملات، فيتساءلون في استنكار:
ما للإسلام والسلوك الشخصي؟.
ما للإسلام وحرية اللباس؟.
ما دخل الإسلام في لباس المرأة؟.
ما للإسلام والمعاملات الربوية؟.
وما للدين والمهارة في الغش والاحتيال؟.
إن جهالة هؤلاء أشد جهالة من جاهلية أهل مدين الذين أرسل الله لهم شعيباً، ليعبدوا الله وحده فتكون حياتهم لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن العبادة عن شرائع الحياة.
فكلها تابعة لأمر الله وشرعه وحكمه، وبتنفيذها تتحقق العبودية الكاملة لله وحده.
وجاهلية اليوم تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين
العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود كما قال قوم شعيب له متهكمين ساخرين به:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} [هود: 87].
فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق.
إن صلاح الحياة والمجتمع أن يعيش الإنسان آدمياً مؤمناً بربه، عابداً له، مطيعاً له في جميع أحواله.
وقد يخيل لبعض الناس أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ويضيع بعض الفرص، وهذا ليس بصحيح، بل إنه يفوت الكسب الخبيث ويضيع الفرص القذرة النجسة، ويعوض عنهما كسباً طيباً ورزقاً حلالاً، ومجتمعاً متآخياً متعاوناً، لا حقد فيه ولا غدر ولا خصام.
إن العبادة هي الحكم من جانب الله، والعبودية والطاعة من جانب البشر في كل أمر، وهذا وحده هو الدين القيم كما قال سبحانه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40].
إن العبودية لله لا تستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم كالدينونة القهرية لله في القدر، فكلاهما من العقيدة اللازمة.
والله الواحد القهار في غنى عن العالمين، فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح، والعمل وعمارة الأرض وفق منهجه، فيعد لهم هذا كله عبادة يؤجرون عليها.
وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريد بها إصلاح قلوبهم ومشاعرهم؛ لأصلاح حياتهم وواقعهم، ليسير الناس في جميع أمورهم وفق أمر الله عز وجل، وهذا هو مفهوم العبادة الشامل الكامل.
إنها الدينونة لله وحده في كل شيء .. والخضوع لله وحده .. واتباع أمره وحده ..
سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية .. أو تعلق بتوجيه أخلاقي .. أو تعلق بشريعة في الحياة .. فالدينونة في هذا كله لله وحده لا شريك له هو مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف: 40].
فالكون كله يسبح الله عبودية وطاعة لله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الاسراء: 44].
إن كل ذرة في هذا الكون الكبير تنتفض روحاً حية، تسبح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة ترتفع في جلال ودوام إلى الخالق الكبير المتعال.
وإنه لمشهد كوني فريد حين يتصور القلب كل حصاة، وكل حجر، وكل ذرة، وكل حبة، وكل ورقة، وكل زهرة، وكل ثمرة، وكل نبتة، وكل شجرة، وكل حشرة، وكل زاحفة، وكل طير، وكل حيوان، وكل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابح في الماء، وكل طير في الهواء، وكل مختبئ في الأرض، ومع هؤلاء سكان السماوات، وكلها تسبح الله، وتتوجه إليه في علاه ناطقة بحمده، مسلمة لأمره:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الجمعة: 1].
وإن القلب ليرجف، وإن الوجدان ليرتعش، وهو يستشعر الحياة تدبُّ في كل ما حوله فيما يراه وفيما لا يراه.
وكلما همت يده أن تلمس شيئاً، وكلما همت رجله أن تطأ شيئاً، وكلما همت عينه أن ترى شيئاً، سمعه يسبح الله، وينبض بالحياة، ويدين لربه بالطاعة: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الاسراء: 44].
ألا ما أجهل البشر، وما أعظم غفلتهم، وما أشد تقصيرهم.
إن كل ذرة في هذا الكون تسبح الله عز وجل.
فأين البشر في ظل هذا الموكب العظيم من الكائنات والمخلوقات العظيمة الهائلة التي تسبح بحمد الله؟
إن البشر في جحود .. وفي غفلة .. وفيهم من يكفر بالله .. وفيهم من يشرك بالله .. وفيهم من ينسب له البنات .. وفيهم من لا يقدر الله حق قدره .. وفيهم من يغفل عن تسبيحه وحمده.
إن البشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد، والمعرفة والتوحيد، لما أكرمهم الله به من العقول، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووافر النعم، فماذا يريدون فوق ذلك؟.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} [المرسلات: 50].
ولولا حلم الله وعفوه ومغفرته لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر، ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم إنه كان حليماً غفوراً.
إن الروح حيث تشف وتصفو، فتسمع لكل متحرك أو ساكن، وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح لبارئه وفاطره، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار الوجود ما لايدركه الغافلون.
إن العبادة في الإسلام ليست هي مجرد الشعائر فقط، إنما هي كل عمل .. كل نشاط .. كل حركة .. كل خالجة .. كل نية .. كل اتجاه .. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه، وأن يتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات.
وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، وإلا بالصبر عليها.
إنها مشقة تحث إلى الصبر والاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط
الأرض إلى السماء، خالصاً من أوشاب الأرض، وأوهاق الحاجات، وشهوات النفس، ومطالب الحياة.
إنه منهج حياة كامل يعيش الإنسان وفقه وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله، فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهرة.
وإنه لمنهج عال يحتاج ويستحق الصبر والمجاهدة والمعاناة، ليرتقي الإنسان سامعاً مطيعاً إلى أفق المثول بين يدي الرب المعبود في جميع أحواله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65].
وإنه لمن العجيب حقاً أنه مع ظهور الدلائل والبراهين في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، لا يزال هناك من يجادل في الله، والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريباً مستنكراً، فكيف إذا كان جدالاً بغير حق، وبغير علم، لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين؟.
هذا المستكبر المتعجرف لا يكتفي بأن يَضل، إنما يحمل غيره على الضلال، هذا المستكبر الضال المضل لا بدَّ أن يقمع، ولا بدَّ أن يحطم.
فله في الدنيا خزي وهو المقابل للكبر، وقد يمهله الله أحياناً ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع، أما عذاب الآخرة فهذا أشد وأوجع:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)} [الحج: 10].
ومن الناس كذلك فرقة سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل أهل الحق، وهؤلاء في غاية الجهل، وليس عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} [الحج: 3، 4].
وهذا نائب إبليس حقاً، فقد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع لكل شيطان مريد.
ويدخل في هؤلاء جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم ولا هدى.
ومن آيات الله العجيبة أنك لا تجد داعياً من دعاة الكفر والضلال إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة والبغض، والذم والكره ما هو حقيق به، وكل بحسب أحواله وأعماله وفجوره.
كما أن كل داع من دعاة الحق والهدى له من الإجلال والإكرام والاحترام والمحبة والمودة ما هو جدير به، وكل بحسب علمه وجهده وصلاحه وتقواه كما قال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96].
ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان في قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه إما خوفاً وإما عادة، على وجه لا يثبت عند المحن كما قال سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} [الحج: 11].
فهذا إن استمر رزقه رغداً، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب ارتد على وجهه وترك دينه فخسر الدنيا، فلم يحصل له ما أمله بالردة وخاب سعيه، وخسر الآخرة فحرم الجنة وأدخل النار.
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو عليها، فهي الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند إليه، يأوي إليها ويطمئن بها فهو موصول بالله دائماً.
أما من يجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة، إن أصابه خير اطمأن به، وقال:
إن الإيمان كله خير، فها هو يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة.
وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه.
وخسر الآخرة بردته وانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسراً له.
والمؤمن يعبد ربه شكراً له على هدايته له، وعلى اطمئنانه للقرب منه، والأنس به، ولمعرفته بجلاله وجماله وكماله يتوجه إليه بالعبادة وحده دون سواه.
فإن كان هناك جزاء من الرب لعبده فهو فضل من الله ومنة، لا استحقاقاً على الإيمان والعبادة، فإن الإنسان كغيره عبد لله، والعبد مملوك لسيده، ومنعم عليه بجزيل النعم، وماذا عساه أن يؤدي شكر نعمة من النعم التي لا تحصى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [ابراهيم: 34].
والمؤمن لا يجرب إلهه فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء، وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، وهناك السعادة والسلامة:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)} [البقرة: 112].
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب، يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو غيرها مما يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.
ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان، فيا له من خسران، بل ذلك هو الخسران المبين.
فما أضل من يرتد على وجهه عند حصول الفتن، حيث أعرض عن ربه الذي
بيده كل شيء، النفع والضر، والعطاء والمنع، وأقبل على مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب فما أضله .. وما أخسره .. وما أشد حسرته:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} [الحج: 12، 13].
إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر إلا بالاستعانة بالله.
فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء.
وأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة، فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} [الحج: 15].
وإذا كان كثير من الناس ضالين عاصين، مستكبرين عن طاعة ربهم، مخالفين لأمره، غافلين عن آيات ربهم، فإن هذا الكون العظيم الهائل ما عداهم يتجه بفطرته إلى خالقه، خاضعاً لربه، ساجداً لوجهه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18].
وإذا تدبر الإنسان وتفكر .. فإذا حشد عظيم من الخلائق في السماوات والأرض، مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وإذا حشد من الأفلاك والأجرام مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، وإذا حشد كذلك من الجبال والأشجار والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان، إذا بتلك الحشود من
الخلائق كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله وتتجه إليه وحده دون سواه إلا ذلك الإنسان، فهو وحده الذي افترق ما بين مؤمن وكافر، وشاكر وجاحد للحق:{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء: 55].
وإذا استقر الإيمان في قلب الإنسان حرك جوارحه للعمل والطاعة، وكلما قوي الإيمان قويت العبادات، وزادت الطاعات.
ولم يشرع الله أمراً فوق طاقة البشر، ولم يكلفهم إلا بما يستطيعون، وقد شرع سبحانه التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس، وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة.
لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون، ولا يبخسهم شيئاً مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها:{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)} [المؤمنون: 62].
وإنما يغفل الغافلون من البشر؛ لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسها نوره المحيي؛ لأنشغالها عنه، واندفاعها في غمرة النية وسط غمرة من الجهل والظلم، والإعراض تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن والانتفاع به:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون: 63].
إن الكون كله يسبح الله .. سماواته وأرضه .. إنسه وجنه .. أملاكه وأفلاكه .. أحياؤه وجماده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41].
إن الإنسان ليس وحده في هذا الكون الفسيح، بل حوله، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال خلائق لا يحصيها إلا الله.
لها طبائع شتى، وصور شتى، وأحجام شتى، ووظائف شتى.
ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده.
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى ما
حوله من خلق الله، وهم يسبحون بحمده وتقواه، كل قانت لربه، عابد له، كل قد علم صلاته وتسبيحه.
والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه، وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح، والعبودية والطاعة.
إن الله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وكتابه عظيم، ورسوله عظيم، ودينه أعظم الأديان وأحسنها، وهذه الأمة عظيمة ما آمنت بربها، وتمسكت بكتابه، وأطاعت رسوله، واهتدت بهديه.
إن الإسلام الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ليس فقط مجموعة إرشادات ومواعظ .. ولا مجموعة آداب وأخلاق .. ولا مجموعة شعائر وشرائع .. إنه يشتمل على هذا كله .. ولكن هذا كله ليس هو الإسلام.
إنما الإسلام هو الاستسلام لله، والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه، واتباع المنهج الذي أنزله، دون الالتفات إلى أي توجيه آخر، ودون الاعتماد كذلك على أحد سواه.
وهو الشعور بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للرب الواحد، الذي يصرفهم كما يصرف هذا الكون كله، كما يصرف العالم العلوي والسفلي وما بينهما من الكائنات والمخلوقات، ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما لا تدركه.
وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله، والانتهاء عما ينهاهم عنه، والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله تعالى.
هذه هي القاعدة والأصل الذي يقوم عليه كل شيء.
ثم يأتي بعد ذلك العمل ممثلاً في الشعائر والشرائع .. والآداب والأخلاق .. والسنن والأحكام، بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في القلب، والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة.
فالإسلام عقيدة، ينبثق منها شريعة، يقوم على هذه الشريعة نظام، فهذه الثلاثة مجتمعة هي الإسلام الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة.
ولتحقيق هذا الإسلام لا بدَّ من تقوى الله، فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق القلب على التشريع والتنفيذ.
وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.
والتوجيه الثاني: النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم الاستماع إلى رأيهم، أو اتباع توجيههم كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)} [الأحزاب: 1].
وهذا الأمر .. وهذا النهي .. باق في كل بيئة .. وفي كل زمان .. وفي كل مكان.
فعلى المؤمنين أن يتقوا الله في كل حال، وعليهم أن يحذروا من اتباع آراء الكافرين والمنافقين إطلاقاً، سواء في أمر العقيدة، أو أمر التشريع، أو في منهج الحياة.
ليبقى منهجهم خالصاً لله، غير مشوب بتوجيه سواه.
لا ينخدع أحد بما عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف، فإن الله سبحانه هو العليم الحكيم، وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته، وما عند البشر شيء، وليس بأيديهم شيء.
أما التوجيه الثالث المباشر فهو: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)} [الأحزاب: 2].
فهذه هي الجهة المأمونة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الجدير بالاتباع، فهو سبحانه العليم الذي يوحي عن خبرةٍ بكم وبما تعملون، وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون، ودوافعكم للعمل.
أما التوجيه الأخير فهو: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} [الأحزاب: 3].
فلا يهمنك أكانوا معك أم عليك؟، ولا تحفل بكيدهم ومكرهم، وألق بأمرك كله إلى الله يصرفه بعلمه وقدرته كما يشاء.
وهذه القواعد الثلاث:
تقوى الله .. واتباع وحيه .. والتوكل عليه .. مع مخالفة الكافرين والمنافقين .. هي العناصر التي تزود المسلم بالرصيد، وتقيمه في مجال العبادة والدعوة والتعليم والجهاد، متقياً لربه، متبعاً لوحيه، متوكلاً عليه.
إن قلب الإنسان واحد فـ {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الاحزاب: 4].
إنه قلب واحد، فلا بدَّ له من منهج واحد يسير عليه، ولا بدَّ له من تصور كلي واحد للحياة يستمد منه، ولا بدَّ من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوم به الأحداث والأشياء، وإلا تمزق وتفرق، ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.
ولا يملك الإنسان، ولا يليق به، لا يحق له، ولا يحسن منه أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين .. وأن يستمد شعائره من معين آخر .. وأن يستمد شرائعه من معين ثالث .. وأن يستمد تنظيم أو صناعة في شئون الحياة من معين رابع .. وأن يستمد تصوراته من معين خامس.
فهذا الخليط المشروب من جهات شتى .. لا يكوِّن إنساناً له قلب مستقيم.
إن صاحب العقيدة لا يتجرد من مقتضياتها في موقف واحد من مواقف حياته كلها صغيراً كان هذا الموقف أو كبيراً.
فلا يتكلم كلمة ولا يتحرك حركة، أو ينوي نية إلا حسب عقيدته؛ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد الثمين يعيش فرداً، ويعيش في الأسرة، ويعيش في المجتمع، ويعيش في الدولة، ويعيش في العالم، ويعيش سراًَ وعلانية، ويعيش عاملاً، ويعيش صاحب عمل، ويعيش حاكماً أو محكوماً، ويعيش في السراء والضراء.
فلا تتبدل موازينه .. ولا تتبدل قيمه .. ولا يتغير تصوره.
فهو قلب واحد، يؤمن بإله واحد، ويعمل بوحي واحد، ويسير على منهج واحد، ويستسلم لرب واحد، وهو الله وحده.
فالقلب الواحد لا يعبد إلهين، ولا يخدم سيدين، ولا ينهج منهجين، ولا يتجه اتجاهين.
وما يفعل شيئاً من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق، ويتحول إلى أشلاء وركام، وذلك هو الضلال البعيد.
فهل بعد هذا من بيان؟ وهل فوق هذا من برهان؟
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].
إن الله خلق الجن والإنس لغاية معينة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وهذه وظيفة عظيمة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده، ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد.
هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بخالق الكون هي عبادة الله، بأن يكون هناك رب وعبد، وأن تستقيم حياة العبد على أوامر الرب سبحانه في جميع الأحوال.
فمدلول العبادة أوسع من مجرد إقامة الشعائر، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر فقط، والله لا يكلفهم هذا وهو يكلفهم ألواناً أخرى من النشاط تستغرق معظم أوقاتهم.
أما الإنس فنعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان من القرآن من قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
فالخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني، وهي تتطلب ألواناً من النشاط في عمارة الأرض، والتعرف على قواها وطاقاتها، وتحقيق مراد الله في الانتفاع بها، وتنفيذ أوامره عند استخدامها.
كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، وتنفيذها في عباده.
فالعبودية تقوم على أمرين:
أحدها: استقرار معنى العبودية لله في النفس، والشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد.
الثاني: التوجه إلى الله بكل هاجس في القلب، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر.
وبهذا وذاك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد، والرضى بقدر الله، كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه مخلوق للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له، لا أرب له فيها ولا غاية من ورائها إلا الطاعة لربه ومولاه.
وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة، ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً، وفضلاً عظيماًَ.
فهو يقوم بالخلافة في الأرض وينهض بتكاليفها، وفي الوقت ذاته ينفض يديه منها خالص القلب من جواذبها.
ذلك أنه لم ينهض بالخلافة ويحقق ثمراتها لذاته هو ولا لذاتها هي، ولكن لتحقيق معنى العبادة فيها ثم الفرار إلى الله تعالى منها.
ومن مقتضيات معنى العبادة أن تصبح قيمة الأعمال في النفس مستمدة من بواعثها لا من نتائجها، فالإنسان غير معلق بالنتائج، إنما هو معلق بأداء العبادة، في القيام بهذه الأعمال وتنفيذ تلك الأوامر، ولأن الجزاء ليس في نتائجها، إنما جزاؤه في العبادة التي أداها، ومن ثم يتغير موقف الإنسان تغيراً كاملاً تجاه الواجبات والتكاليف والأعمال.
فينظر فيها ابتداءً إلى معنى العبادة الكامن فيها، ومتى تحقق هذا المعنى انتهت
مهمته، وتحققت غايته.
أما النتائج فأمرها إلى الله، ومتى نفض الإنسان قلبه من نتائج العمل والجهد، وشعر أنه أخذ نصيبه وضمن جزاءه بمجرد تحقق معنى العبادة في الباعث على العمل، فلن تبقى في قلبه بقية من الأطماع التي تدعو إلى التكالب على أعراض هذه الحياة.
فلا يكون حافز المسلم على العمل هو الحرص على تحصيل الرزق فهو مضمون، بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة في طلب الرزق بامتثال أوامر الله فيه.
وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق، أفق العبادة في كل أمر، بتحقيق العبودية لله فيه، ويستقر عليه، فإن نفسه تأنف من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله، وجعل كلمة الله هي العليا.
فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة العالي الكريم، ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ الغايات، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات، تحقيقاً لمعنى العبادة في الأداء، أما الغايات فموكولة إلى الله، ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله.
وبهذا يستمتع العبد براحة القلب وطمأنينة النفس، وصلاح البال في جميع الأحوال، سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها، فهو قد أنهى عمله وضمن جزاءه، عند تحقق معنى العبادة.
وقد علم أنه عبد، وعلم أن الله رب، فلم يعد يقتحم فيما هو من شئون الرب، ولا يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد، واستقرت مشاعره عند هذا الحد.
إن هذا الكون العظيم كله مرتبط ارتباط العبودية بخالقه المبدع، والكون خليقة حية ذات روح، روح يختلف مظهرها وشكلها ودرجتها من كائن إلى كائن، ولكنها في حقيقتها واحدة.
ولقد أدرك العقل البشري منذ عهود بعيدة حقيقة هذه الحياة السارية والكون كله، وحقيقة اتجاه روحه إلى خالقه.
إنه يتجه إلى مبدعه بحركة روحه، وهي الحركة الأصيلة، محركة ظاهره إنما هي تعبير عن حركة روحه، وهي حركة العبودية لله، والتي تمثلها في القرآن آيات كثيرة منها:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الاسراء: 44].
وقوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن: 6].
وتأمل هذه الحقيقة، وتأمل الكون في عبادته وتسبيحه، مما يمنح القلب البشري متاعاً عجيباً، وأنساً ولذة، وفرحاً وسروراً، وهو يشعر بكل ما حوله حياً يعاطفه، ويتجه معه إلى خالقه، وهو في وقفته بين أرواح الأشياء كلها، وهي تدب فيها جميعاً، وتحيلها إخواناً له ورفقاء، يؤدون وظائفهم معاً، ويعبدون ربهم معاً.
إن كل من في السماوات والأرض متوجه إلى ربه بالعبادة، يسبح الله في كل حين:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} [الحديد: 1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أبْعَثَ، إِنِّي لأعْرِفُهُ الآنَ» أخرجه مسلم (1).
فسبحان من له العزة الغالبة، والحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والقدرة القاهرة، والإحاطة التامة، والعلم الشامل.
وهو المهيمن على كل شيء بقوته، وهو جاعل كل شيء وفق حكمته، إن كل شيء في السماوات والأرض يسبح الله تسبيح المملوك لمالكه المتفرد، الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)} [النور: 41، 42].
فحين نقول في الصلاة: (الله أكبر) فإننا نستحضر كبرياء الله وعظمته وجلاله،
(1) أخرجه مسلم برقم (2277).
ونراه مهيمناً على هذا الكون، متفرداً بالتصريف والتدبير.
وحين نقول: (الحَمْدُ لِلّهِ) فإننا نستحضر مستوجبات الحمد، وهي نعم الله الظاهرة والباطنة في العالم العلوي وفي العالم السفلي.
وحين نقول: (رَبّ العَالمين) فإننا نستحضر نعم الربوبية من خلق وإيجاد من عدم، إلى كون مليء بالنعم التي تعطى بلا مقابل، إلى إخضاع لقوى الكون لخدمة الإنسان، إلى منهج إلهي يحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة.
وحين نقول: (الرَّحْمن الرَّحِيم) فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وفتح باب التوبة، وكل ما وضعه الله سبحانه من رحمة وسعت كل شيء في هذا الكون.
وحين نقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} فإننا نستحضر يوم الحساب، وكيف أن الله سبحانه سيجزينا خير الجزاء، ويعطينا نعيماً وجنة وفق ما يريد.
فإذا استعرضنا ذلك كله، واستحضرناه، وعرفنا هذه النعم، وهذا الرب الرحيم، فما المطلوب منا؟
المطلوب هو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
أي أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والعبادة: هي الخضوع، والصلاة عبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.
والله عز وجل أمرنا بالخضوع له أمام الناس علناً، أن أسجد وأضع رأسي مكان قدمي، وأعلن خضوع ذاتي لله أمام البشر كلهم، أعلن عبوديتي لله، وذلك حتى لا أستكبر.
والله سبحانه يريد الناس جميعاً عبيداً له وحده لا شريك له.
لذا يستوي في العبودية وفي إعلان الخضوع لله الغني والفقير، والكبير والصغير، والملك والعبد، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى، والقوي والضعيف.
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون مثلاً أعلى للبشرية كلها في كل شيء،
في العبادة لله عن حب وإيمان، وذل وخضوع.
وخضوعنا للرب الملك القادر والقاهر شرف لنا، بل هو قمة الشرف لنا، فالله بعظمته وجلاله وجماله وكماله يجعل الخضوع له شرفاً لنا، فنحن لا نخضع لمساوٍٍ لنا، ولا لمن فوقنا درجة، ولا لمن فوقنا درجات، ولا لأي مخلوق في الكون مهما كان.
بل نخضع لخالق الكون كله، ومهما بلغت القوى التي فوقنا، فإن لكل قوة في الكون قدرة لا تتجاوزها.
ولكن الله سبحانه وتعالى فوق كل قدرة، وفوق كل قوة، وفوق كل شيء، والأصل في الحياة أن يخضع الأدنى للأعلى، ولكن الله سبحانه وتعالى حررنا من هذه العبودية، بأن جعلنا لا نخضع لسواه، فله الحمد والشكر على هذه النعمة.
ولجهل الإنسان بربه فقد عبد مخلوقات يعتقد أنها تنفعه، وتدفع عنه ما يضره، كالشمس والقمر، والنار والريح، والأصنام، والملائكة، والجن والقبور وغيرها.
وينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى، يصور له جهله أشياء، ويصور له خوفه أشياء، ويصور له حبه أشياء .. وهكذا.
فخضع الإنسان للإنسان، وخضع للحيوان، وخضع للجماد.
وفي كل خضوعه كان يعطي ولا يأخذ، ويعطي الذهب والفضة للمعابد ولا يأخذ شيئاً، ويدعو وينادي ويستغيث ولا مجيب له.
والله يريد منه أن يتحرر من عبادة تلك المخلوقات الهزيلة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].
ويريد منه أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)} [الفرقان: 58].
فالله عز وجل بعبادته يريد أن ينجيك من عبادة ما سواه، والتي ليس وراءها نفع ولا طائل، بل فيها أعظم الضرر على القلوب والأبدان والحياة.
والله تبارك وتعالى وحده هو الذي إذا طلبته وجدته، وإذا سألته أجابك، فهو القائم على كل نفس، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم.
وهو القوي، وقوته أزلية مطلقة .. وهو القادر وقدرته لا تزول .. وهو الحاكم وحكمه لا ينتهي .. وكلمته هي النافذة في كل وقت .. وفي كل عصر .. وفي كل زمان .. وفي كل مكان .. وهو الباقي حين يزول الجميع .. وهو القوي حين يضعف كل شيء .. وهو القادر حين تزول القدرة عن الدنيا كلها، وهو الغني وكل ما سواه فقير.
وهو الذي يبدل العسر يسراً .. والظلام نوراً .. والضيق فرجاً .. والذلة عزة .. والمرض صحة .. والبلاء عافية.
ولا يطلب لذلك كله ثمناً ولا جزاءً، بل يعطينا الأجر الجزيل إذا سألناه ذلك وطلبناه منه.
فكل ما سوى الله وكل ما دون الله هو سراب وأوهام وشيء ضائع وزائل، ولكن الباقي هو الله، والملك الذي لا ينازعه أحد في ملكه هو الله، والذي بيده كل شيء هو الله:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26].
ومن كانت هذه صفاته وهذه أفعاله فعلينا أن نتوكل عليه وحده دون سواه: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل: 79].
وما دام الله يأمرنا أن نتوكل عليه وحده، وهو حسبنا ونعم الوكيل، فعلى العبد إذا قصد حاجة أن يقول: اللهم أعني، وإذا أراد أن يعمل عملاً أن يقول: اللهم يسِّر لي، وإذا كان هناك ما يؤرقك فقل: اللهم أذهب عني هذا الهم والبلاء؟.
وإذا كنت تواجه شيئاً عسيراً فاطلب العون من الله، وتوكل على الحي الذي لا يموت، فإنه يراك ويسمعك، والذي لا يعتمد على الحي الذي لا يموت يعيش في ذل وشقاء دائم، وخوف دائم مما قبل الموت، ومما بعد الموت، وهذا الخوف يدفع الإنسان إلى حياة بائسة بغيضة.
والذين يتمسكون غالباً بالدين وبمنهج العبادة هم الضعفاء، ولكن لماذا؟.
لأن ضعفهم نشأ من اغتيال حقوقهم وكسبهم من الأغنياء، الذين يريدون بقاء السيادة لهم، ويريدون أن يُعبدوا من الناس.
فهناك دائماً إنسان قوي في الظاهر لا يريد منهج (إياك نعبد) ولكن يريد كل شيء له، يريد أن يتميز عن الناس جميعاً.
وهناك إنسان ضعيف في الظاهر يتمسك بمنهج (إياك نعبد) لأنه يعيد إلى الضعفاء حقوقهم.
ومن ثم سوف ينشأ صراع بين ضعفاء ومتمسكين بمنهج الله، وأقوياء في الظاهر يرفضون منهج الله.
والله جل جلاله يثبت الذين آمنوا ويطمئنهم لئلا يحسوا بالرعب والفزع من أولئك الذين يملكون الأسباب في الدنيا، ذلك أنه إذا عجزت الأسباب فالله سبحانه موجود، وهو قادر على أن يحمي المؤمنين به المطيعين له فليطلبوا المعونة منه بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].
وطلب المعونة معناه أنه استنفذ الأسباب التي عنده في أن يقوم بالعمل، فلما عجز استعان بغيره.
فإذا بذلنا الأسباب الممكنة كبشر أمام عدونا وهو أقوى أسباباً، فنقول يا رب فرغت أسبابنا والباطل أمامنا قوي. فأعنا على عدونا، واكفناهم بما شئت، وهنا لا يمكن أن يخذل الله من يخصه بالعبادة، بل يعينه وينصره، وهنا تأتي نصرة الله للمؤمنين، ولكن يجب أن نبذل أسبابنا الممكنة أولاً: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ (110)} [يوسف: 110].
والعبد دائماً في كل نية وفي كل عمل محتاج إلى الهداية .. إلى الطريق الذي ارتضاه الله لعباده، فهو دائماً يطلب الهداية من ربه؛ لأنه ارتضاه رباً وإلهاً ومشرعاً، فلا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، ولا يطلب الهداية إلا منه كما قال سبحانه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].
إن جوارح الإنسان خاضعة له بالتسخير في الحياة الدنيا، فإذا أمرها بطاعة استجابت، وإذا أمرها بمعصية فهي تؤديها كارهة؛ لأنها مسخرة لا تستطيع أن تعصي للإنسان أمراً.
فإذا جاءت الآخرة، وزال التسخير نطقت الجوارح بما كان الإنسان يعمله من خير وشر:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [النور: 24].
إن كل حي سوى الله فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلا بدَّ من أمرين:
أحدهما: المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به، ويستأنس به.
والثاني: المعين الموصل لذلك المقصود، والمانع من حصول المكروه، والدافع له بعد وقوعه.
والله عز وجل هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره.
وكل ما سواه هو المكروه المطلوب بعده، وهو سبحانه وحده المعين للعبد على دفعه.
والله سبحانه وتعالى هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً.
والرب هو الذي يربي عبده، فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه.
وبذكر الله سبحانه تطمئن قلوب المؤمنين، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ورضوانه عليهم.
ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له.
وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 71].
وحق الله عز وجل على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم إذا قدموا عليه.
وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه، وبه سروره ولذته ونعيمه، فهو أيضاً محبوب الرب من عبده، ومطلوبه الذي يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته.
وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له، وليس في الكون ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه.
ومن عبد غيره وأحبه ففساده ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم.
بل قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، ولو تألهت غيره لفسدت كل الفساد؛ لانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأله الإله الحق، فهي فقيرة إلى الله وحده في وجودها وبقائها فـ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء: 22].
وحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الخضوع له، أعظم من حاجة الجسد إلى الروح. بل أعظم وأكبر، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها.
وكل ما يحصل للإنسان من اللذات والسرور بغير الله فلا يدوم له، بل ذلك في
الحقيقة غير منعم ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به وقربه منه، ووجوده عنده.
فإن القلب يتألم ويتعذب بمحبة ما سوى الله، وهذا كله مبني على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته، بل لمجرد الامتحان والابتلاء، أو لأجل التعويض بالأجر، أو لأجل تهذيب النفس.
بل الأمر أعظم وأجل من ذلك كله، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، وبها كمال النعيم.
فقرة عين المحب في الصلاة والذكر والصيام وتلاوة القرآن أيما سرور ونعيم، وأما الصدقة فعجب من العجب.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والصبر على أذى أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر، لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه.
وكل من كان به أقوم كان نصيبه من اللذة والسرور به أعظم:
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
الأصل الثاني: أن كمال النعيم في الدار الآخرة به سبحانه: برؤيته، ورضوانه، وسماع كلامه، وقربه.
فالنعيم واللذة في الآخرة بالمخلوق من مأكول ومشروب، وملبوس ومنكوح ومسكون.
لكن اللذة الكبرى والنعيم التام في رؤية الخالق جل جلاله، وسماع كلامه، وحصول رضوانه في الجنة.
كما أن عذاب الحجاب في النار من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به الله أعداءه، ثم عذاب النار.
ولا بدَّ للإنسان بعد الإيمان من العمل، والعمل لا يكون إلا بعلم، وإلا فهو مردود.
وصحة العبادة تكون بعلمين:
علم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وعلم بأوامر الله، والعلم بأوامر الله نوعان:
علم الفضائل .. وعلم المسائل.
وعلم الفضائل مقدم على علم المسائل؛ لأنه يهيئ الإنسان لقبول المسائل كما تهيئ التربة لقبول البذر، فالبذر هو المسائل، والتهيئة هو علم الفضائل الذي يحرك مع الإيمان الجوارح للطاعات، ويقيدها عن المعاصي والمحرمات، ويدفعها للمنافسة في الخيرات، والإكثار من الطاعات.
والله عز وجل لم ينزل الأحكام إلا بعد أن أنشأ الاستعداد للقيام بها في القلوب، فلما جاء الإيمان، جاءت الأعمال محبوبة خفيفة على النفوس، ففي مكة فترة الدعوة والجهد لتحصيل الإيمان، ومعرفة الفضائل، والترغيب في أحسن الأخلاق.
وفي المدينة فترة الأحكام والتشريعات والأوامر والسنن.
والأوامر تنزل من ذات الله سبحانه، والأعمال تخرج من ذوات العباد فإذا تطابقت أفعال العباد مع أوامر الله جاء الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا اختلفت جاء الهلاك في الدنيا والآخرة.
وإذا جاء الإيمان في القلب جاء أمران:
الطاعة والعبودية .. والرغبة في هداية الناس.
والدافع والمحرك لهما الإيمان، والعلم نورهما اللذان يسيران به.
وكل واحد من البشر بين أمرين:
الأول: أمر يفعله الله به: كالهداية التي أكرمه الله بها، والنعم التي تنزل عليه كل يوم من ربه، فذلك يحتاج إلى الشكر ليزيد ويبقى.
الثاني: أمر يفعله هو: إما خير وإما شر، فالخير يفتقر إلى معونة الله له، فيحتاج إلى الاستعانة، والشر يفتقر إلى الاستغفار ليمحو أثره.
والأعمال التي تصدر من العباد متفاوتة، ومجرد كون الفعل محبوباً إلى الله لا يكفي في كونه قربة إلى الله، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً لله، أو تفويت أمر هو أحب إلى الله من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قربة.
فمثلاً: إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وإن كان محبوباً إلى الله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله، وإن كان غنياً غير مستحق.
والتفرغ لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد باللسان والسنان الذي هو أحب إلى الله من تلك النوافل، وحينئذ لا يكون قربة في هذه الحال وإن كان قربة في غيرها.
وكذلك الصلاة وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله ويكرهه من التشبه بأعداء الله الكفار الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت وهكذا.
فالشريعة مبنية على تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
والنية سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، فالنية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد.
فكما أن الجسد إذا فارقه الروح فموات، فكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث.
ومعرفة أحكام القلوب، وأحكام الجوارح، كلاهما مطلوب، إلا أن معرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها، وأحكام الجوارح متفرعة عليها.
ولله على العبد عبوديتان في كل عمل:
عبودية باطنة .. وعبودية ظاهرة.
فله على قلبه عبودية .. وله على لسانه وجوارحه عبودية.
والناس في العبودية على أربعة أقسام:
الأول: من قام بعبودية القلب، وعطل عبودية الجوارح.
الثاني: من قام بعبودية الجوارح، وعطل عبودية القلب.
فهؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبودية جوارحهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم، ففسدت عبودية قلوبهم.
الثالث: من قام بعبودية القلب، وعبودية الجوارح.
وهؤلاء هم العارفون بالله، وبأمر الله، فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود سبحانه.
وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأدوم، فهي واجبة في كل وقت حتى الممات.
الرابع: من لم يقم بعبودية القلب ولا عبودية الجوارح، وهؤلاء شر الناس وأجهل الناس، وأخسر الناس.
والعبادة أعظم مقامات العبد، فهي مقام عالٍ شريف، بها يزول ضيق القلب، ويكمل انشراح الصدر؛ لأنها توجب الرجوع من الخلق إلى الحق.
وزوال ضيق الصدر يتم بأربعة أشياء أمر الله بها رسوله في كتابه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99].
والعبودية لها ثلاث درجات:
الأولى: أن يعبد الله طمعاً في الثواب، أو هرباً من العقاب.
وهذه أدنى الدرجات؛ لأن معبوده ذلك الثواب، وقد جعل الحق وسيلة إليه.
الثانية: أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته، أو يتشرف بقبول تكاليفه، أو
الانتساب إليه، وهذه أعلى من الأولى.
الثالثة: أن يعبد الله لكونه إلهاً وخالقاً، ولكونه عبداً له، والإلهية توجب الهيبة والعزة، والعبودية توجب الخضوع والذلة، وهذه أعلى المقامات، وأشرف الدرجات للعبد.
ومنازل العبودية متفاوتة، والناس فيها متفاوتون:
فالمهابة والتعظيم أعلى من المحبة؛ لأنها نشأت عن معرفة جلال الرب وتعلقت بالذات والصفات، ثم يليها المحبة الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإحسانه، ثم التوكل؛ لأن منشأه ملاحظة التوحد بالأفعال، ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والإحسان والانتقام وشرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما، إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يخاف من لا يقدر على الضير .. وهكذا باقي الصفات.
وعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإمانة، يثمر له عبودية التوكل عليه وحده.
وعلم العبد بسمع الله وبصره وعلمه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وتعلقها بما يحبه الله ويرضاه.
فيثمر له ذلك الحياء، يثمر له الحياء الإقبال على الطاعات، واجتناب المحرمات والقبائح.
ومعرفته بغناه وجوده سبحانه، وكرمه وإحسانه، وبره ورحمته، يوجب له ذلك كله سعة الرجاء، وطلب الحاجات كلها منه ومحبته.
ومعرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستعانة والإجلال لربه.
وعلمه بكماله وجلاله وجماله يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية.
والعبادة عاطفة قد مزجت بدم الإنسان بحكم الفطرة، فكما أن الإنسان يمسه
الجوع فيلتمس لإزالته الغذاء .. وكما أنه يشعر بالحر والبرد فيلتمس لاتقائهما الظل واللباس .. وكما يجول في فكره شيء فيبحث عن الألفاظ والإشارات للتعبير عنه.
فهكذا عاطفة العبادة تنشأة في الإنسان من جهة الفطرة فيلتمس لتهدئتها وإبرازها إلهاً ثم يعبده: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].
والعبودية: أن يقر الإنسان بالكبرياء والعظمة والجبروت في قوة أعلى ثم يطيعها ويسلس لها قياده، ويطأطئ لها رأسه، مع كمال التعظيم، وكمال الحب وكمال الذل، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.
وكل شيء في هذا الكون من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جسم في الكون، كله مسخر بنظام مهيمن لا قبل له بمخالفته، ولو خالفه وأبى الانقياد له فسد وفني، ولكن أنى له المخالفة، فكلٌ عابد مطيع يؤدي الوظيفة التي فوضت إليه، فلا تهب الرياح، ولا ينزل المطر، ولا يسيل الماء، ولا تنبت الأرض، ولا تجري الشمس، ولا تتحرك الكواكب، إلا بأمر الله وإذنه سبحانه.
فهذا الكون وما فيه كله يعبد الله تعالى ويطيعه، وهذه العبادة والطاعة هي قوام بقائه، ومناط حياته، وما من شيء في الكون يصدف عن عبادة الله طاعته ولو للمح البصر، وإذا صدف لا يتأخر فناؤه ولا لطرفة عين:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15].
فالقنوت لله يغشى كل شيء في الكون، ومكافأة هذه المخلوقات على حسن العبادة والطاعة هي نعمة الوجود وقابلية البقاء والحياة والرزق، فكل شيء يعبد الله ينعم بالحياة، ويمكث في الكون، وينال وسيلة البقاء وهي الرزق والإمداد.
والله عز وجل يشمل بنعمة الوجود والرزق والحراسة الذين ينكرونه ويشركون به، ويأبون أن يعبدوه ويطيعوه، كما يفيض بها على الذين يؤمنون به، ويوحدونه
ويعبدونه، ولا يشركون به شيئاً.
فالأجر الذي يناله الإنسان على عبوديته الإجبارية منقطع محدود في الحياة الدنيا ينعم به كغيره إلى أجل مسمى، وأما الأجر الذي يناله الإنسان مكافأة على عبوديته الاختيارية فهو نعمة دائمة كاملة لا خلل فيها ولا نقصان، ورزق لا خوف من انقطاعه.
فلا بدَّ للإنسان أن يعرف ربه ومولاه معرفة خالصة لا يشوبها شرك أو كفر أو شك، ولا يخاف معها أحداً غيره، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه فهذا هو الإيمان.
وأن يطيع ربه فيما يختص بحياته الاختيارية بامتثال أوامر هذا المعبود كما يطيع حكمه وأمره فيما يختص بحياته الإجبارية، حتى تصير حياته بناحيتيها تابعة لإله واحد وحاكم واحد، وهذا هو العمل الصالح.
وليست العبادة فقط هي الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والذكر والتسبيح والتهليل، بل هذه جزء من العبادة الشاملة، وهي تمرينات تزكي روح الإنسان، وتعده للعبادة الرئيسية التي تسمو بحياته من أدنى درجات الحياة الحيوانية إلى أعلى وأرفع ما يكون من درجات الحياة الإنسانية، وتعده لامتثال أوامر الله في كل حال، وتجعله في كلا حالتيه الإجبارية والاختيارية خادماً مطيعاً وفياً لربه ومولاه في كل لحظة من لحظات حياته، بكل قدراته الجسدية والروحية.
والإنسان بهذا ينال الشرف الذي لا قِبَل لمخلوق في الكون أن ينازعه فيه، فيكون خليفة الله في الأرض، ويحكم أرض الله بأمره الكريم كما قال سبحانه:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26].
وللجسد لذة، وللسان لذة، وللسمع لذة، وكل ملذوذ إنما له لذة واحدة إلا العبادة فلها ثلاث لذات:
إذا كنت فيها .. وإذا تذكرتها .. وإذا أُعطيت ثوابها.