المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الباب الخامسكتاب التوحيد

- ‌1 - فقه التوحيد

- ‌2 - خطر الجهل

- ‌3 - خطر الكفر

- ‌4 - خطر الشرك

- ‌5 - خطر النفاق

- ‌6 - فقه التوفيق والخذلان

- ‌7 - فقه حمل الأمانة

- ‌8 - حكمة إهباط آدم إلى الأرض

- ‌الباب السادسفقه القلوب

- ‌1 - خلق القلب

- ‌2 - منزلة القلب

- ‌3 - صلاح القلب

- ‌4 - حياة القلب

- ‌5 - فتوحات القلب

- ‌6 - أقسام القلوب

- ‌7 - غذاء القلوب

- ‌8 - فقه أعمال القلوب

- ‌9 - صفات القلب السليم

- ‌10 - فقه سكينة القلب

- ‌11 - فقه طمأنينة القلب

- ‌12 - فقه سرور القلب

- ‌13 - فقه خشوع القلب

- ‌14 - فقه حياء القلب

- ‌15 - أسباب مرض القلب والبدن

- ‌16 - مفسدات القلب

- ‌17 - مداخل الشيطان إلى القلب

- ‌18 - علامات مرض القلب وصحته

- ‌19 - فقه أمراض القلوب وعلاجها

- ‌20 - أدوية أمراض القلوب

- ‌1 - علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

- ‌2 - علاج مرض القلب من وسوسة الشيطان

- ‌3 - شفاء القلوب والأبدان

- ‌البَابُ السَّابعفقه العلم والعمل

- ‌1 - أهل التكليف

- ‌2 - وظيفة العقل البشري

- ‌3 - فقه النية

- ‌4 - العلوم الممنوحة والممنوعة

- ‌5 - أقسام العلم

- ‌1 - العلم بالله وأسمائه وصفاته

- ‌2 - العلم بأوامر الله

- ‌6 - فقه القرآن الكريم

- ‌7 - فقه السنة النبوية

- ‌8 - قيمة العلم والعلماء

- ‌9 - فقه العلم والعمل

- ‌10 - فقه الإفتاء

- ‌الباب الثامنقوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌1 - فقه قوة الإيمان والأعمال الصالحة

- ‌2 - قوة التوحيد

- ‌3 - قوة الإيمان

- ‌4 - قوة الإخلاص

- ‌5 - قوة العلم

- ‌6 - قوة طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌7 - قوة ذكر الله عز وجل

- ‌8 - قوة الدعاء

- ‌9 - قوة العبادات

- ‌10 - قوة الجهاد في سبيل الله

- ‌11 - قوة المعاملات

- ‌12 - قوة المعاشرات

- ‌13 - قوة الآداب

- ‌14 - قوة الأخلاق

- ‌15 - قوة القرآن الكريم

- ‌الباب التاسعفقه العبودية

- ‌1 - فقه حقيقة العبودية

- ‌2 - فقه الإرادة

- ‌3 - فقه الرغبة

- ‌4 - فقه الشوق

- ‌5 - فقه الهمة

- ‌6 - فقه الطريق إلى الله

- ‌7 - فقه السير إلى الله

- ‌8 - فقه المحبة

- ‌9 - فقه التعظيم

- ‌10 - فقه الإنابة

- ‌11 - فقه الاستقامة

- ‌12 - فقه الإخلاص

- ‌13 - فقه التوكل

- ‌14 - فقه الاستعانة

- ‌15 - فقه الذكر

- ‌16 - فقه التبتل

- ‌17 - فقه الصدق

- ‌18 - فقه التقوى

- ‌19 - فقه الغنى

- ‌20 - فقه الفقر

- ‌21 - فقه الصبر

- ‌22 - فقه الشكر

- ‌23 - فقه التواضع

- ‌24 - فقه الذل

- ‌25 - فقه الخوف

- ‌26 - فقه الرجاء

- ‌27 - فقه المراقبة

- ‌28 - فقه المحاسبة

- ‌29 - فقه المشاهدة

- ‌30 - فقه الرعاية

- ‌31 - فقه الذوق

- ‌32 - فقه الصفاء

- ‌33 - فقه السر

- ‌34 - فقه القبض

- ‌35 - فقه البسط

- ‌36 - فقه الحزن

- ‌37 - فقه الإشفاق

- ‌38 - فقه الخشية

- ‌39 - فقه الغيرة

- ‌40 - فقه الثقة بالله

- ‌41 - فقه التفويض

- ‌42 - فقه التسليم

- ‌43 - فقه الرضا

- ‌44 - فقه الزهد

- ‌45 - فقه الورع

الفصل: ‌13 - فقه التوكل

‌13 - فقه التوكل

قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23].

وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3].

التوكل من أعظم مقامات الدين وأجلها وأفضلها.

وقد أمر الله أنبياءه ورسله وعباده بالتوكل عليه، وحثهم عليه في جميع أحوالهم، وفيما أمرهم به، وفيما تعبدهم به.

وأخبر سبحانه أنه يحب المتوكلين عليه، كما يحب الشاكرين والمحسنين وأخبر سبحانه أن كفايته للناس مقرونة بتوكلهم عليه، وأنه كاف من توكل عليه.

وجعل سبحانه لكل عمل من أعمال البر جزاء معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

ثم قال في التوكل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 3].

فالتوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه، والتوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة .. والإنابة هي العبادة.

وقد خاطب الله بالتوكل أحب الخلق إليه، وأقربهم إليه، وأكرمهم عليه وهم المؤمنون، وأمرهم به، وجعله شرطاً في صحة إيمانهم، فمن لا توكل له لا إيمان له فقال سبحانه:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23].

وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2].

وأخبر سبحانه عن رسله أن التوكل على الله ملجؤهم ومعاذهم في جميع أحوالهم فقال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

ص: 1851

مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)} [يونس: 84، 85].

فالتوكل أصل لجميع مقامات الدين من الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، ومنزلته منها منزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.

وينشأ التوكل من علم العبد أن الأمور كلها بيد الله، والخلائق كلها في قبضة الله، وهي موكولة إليه سبحانه.

وأن العبد لا يملك شيئاً منها، فهو لا يجد بداً من اعتماده عليه، وتفويض أمره إليه، وثقته به من الوجهين:

من جهة فقر العبد إلى ربه وعدم ملكه شيئاً البتة .. ومن جهة كون الأمر كله بيد الله، والتوكل ينشأ من هذين العلمين.

ومقصود التوكل على الله تسليم الأمر إلى من هو له، وعزل نفسه عن منازعة مالكه واعتماده عليه فيه، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه كما قال سبحانه عن رسله:{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} [إبراهيم: 12].

فالأنبياء وأتباعهم يتوكلون على ربهم في جلب مصالحهم، ودفع مضارهم؛ لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعموم إحسانه، وسعة رحمته.

وتوكل الأنبياء في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهي التوكل على الله في إقامة دينه ونصره .. وهداية عبيده .. وإزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.

ومجموع الدين أمران:

أن يكون العبد على الحق .. وأن يكون متوكلاً على الله.

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل: 79].

ص: 1852

والإنسان آفته: إما من عدم الهداية .. وإما من عدم التوكل.

فإذا جمع مع الهداية التوكل فقد جمع الإيمان كله.

والناس في التوكل متفاوتون:

فمن متوكل على الله في حصول الملك .. ومن متوكل على الله في حصول رغيف .. ومن متوكل عليه في جلب مصلحة دينية أو دنيوية .. أو دفع مفسدة دينية أو دنيوية.

ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله.

فإن كان محبوباً لله مرضياً له كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً مبغوضاً كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه.

وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، إلا إذا استعان به على طاعته.

والتوكل عمل القلب، وعلم القلب بكفاية الرب للعبد، وانطراح القلب بين يدي الرب يقلبه كيف يشاء.

والمتوكل من رضي بالله وكيلاً، ورضي بكل ما يفعل الله، وتعلق بالله في كل حال.

والتوكل: أن لا يظهر في العبد انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقته إليها، ولا يزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفه عليها.

والتوكل على الله لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد.

والتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، فمن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان.

والتوكل درجته أن يكون بعد التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ

ص: 1853

حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

فالتوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه مع فعل ما أمر به، والتفويض إليه في كل حال، وقطع علائق القلب بغير الله.

وسر التوكل:

هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه.

فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء آخر، فقول العبد توكلت على الله مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله تبت إلى الله وهو مصر على معصيته مرتكب لها.

والتوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.

فإن قيل: المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدَّر حصل، توكل أو لم يتوكل، دعا أو لم يدعُ؟.

وإن لم يقدَّر لم يحصل، توكل أو لم يتوكل، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدِّر له؟.

فيقال: بقي قسم ثالث وهو الواقع، وهو أن يكون قد قضى الله بحصول الشيء عند وجود سببه من التوكل والدعاء، فنصب سبحانه التوكل والدعاء سببين لحصول المطلوب، وقضى الله بحصوله إذا فعل العبد سببه، فإذا لم يفعل السبب لم يحصل.

كما قضى سبحانه بحصول الشبع إذا أكل، وحصول الري إذا شرب، فإن لم يفعل لم يشبع ولم يرو، وقضى بحصول الولد إذا جامع الرجل المرأة، فإن لم يجامع لم يخلق الولد، وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض، وإلقاء البذر فيها، فإذا لم يفعل ذلك لم يحصل إلا الخيبة.

ص: 1854

وقضى سبحانه بدخول الجنة لمن أسلم وأتى بالأعمال الصالحة، فإذا لم يسلم ولم يعمل صالحاً لم يدخلها أبداً.

فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.

ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها، وحال بدنه قيامه بها.

فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره.

فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية.

ومن نفى الأسباب فالبهائم أفقه منه؛ لأنها تسعى في السبب بالهداية العامة.

ولا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل:

توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل.

فإن العبد متى التفت قلبه إلى غير الله نقص من توكله بقدر ذلك الالتفات.

ومن هنا ظن بعض الناس أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، وهذا حق، لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح.

فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلق الجوارح بها، فيكون منقطعاً عنها بقلبه، متصلاً بها ببدنه، وتلك سنته صلى الله عليه وسلم، وفعله وأمره.

فخلع الأسباب من القلوب توحيد، وتعطيل الأسباب إلحاد وزندقة، فخلعها عدم اعتماد القلب عليها وركونه إليها مع قيامه بها، وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح.

فالذي أمر بالتوكل بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23].

هو الذي أمر بأخذ الحذر بقوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)} [النساء: 71].

ص: 1855

ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع كما قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159].

أما أركان التوكل:

فالتوكل حال مركبة من عدة أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها: وأول ذلك معرفة العبد بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع فيها العبد قدمه في مقام التوكل.

والثاني: إثبات الأسباب على الجوارح، ورفضها عن القلوب، ومن نفاها فتوكله مدخول.

والثالث: اعتماد القلب على الله وسكونه إليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب، ولا سكون إليها.

وعلامة هذا: أن لا يبالي بإقبالها وإدبارها، ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره؛ لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها.

الرابع: حسن الظن بالله، فحسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به، ولا التوكل على من لا ترجوه.

والخامس: استسلام القلب لله، والانقطاع عما سواه، بأن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد ولا يمتنع منه، ولا يكون له حركة ولا تدبير، بل يستسلم لتدبير الرب، وهذا في غير باب الأمر والنهي، بل في باب القضاء والقدر، أي فيما يفعله الرب بالعبد، لا فيما أمرك الرب بفعله .. فتنبه.

وروح التوكل ولبه وحقيقته:

تفويض الأمور كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً،

ص: 1856

كتفويض الابن العاجز الضعيف كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته، وحسن ولايته وتدبيره، فهو يرى أن تدبير أبيه له وقيامه بمصالحه خير له من تدبير نفسه، فلا يجد أصلح له وأرفق به من تفويض أموره كلها إلى أبيه.

فإذا وضع العبد قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل وأعظمها فائدة.

فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.

وباستكمال هذه الدرجات يستكمل العبد مقام التوكل، وتثبت قدمه فيه.

والتوكل له تعلق بعامة أسماء الله وصفاته كالغفار والعزيز، والرحمن والتواب، والفتاح والرزاق، والقوي والقدير، والمعطي والمانع ونحو ذلك.

وبحسب معرفة العبد بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، يصح له مقام التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله على ربه أقوى.

وكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:

الأول: من عنده الأشغال الكسبية، وهؤلاء عامة الصحابة رضي الله عنهم.

الثاني: من ليس عنده الأشغال الكسبية، كأصحاب الصفة رضي الله عنهم.

ومن كان عندهم الأشغال الكسبية كان في توكلهم شيئان:

الأول: أنهم لا ينظرون إلى زيادة المال، بل ينظرون إلى تنفيذ أوامر الله ورسوله فيه ولو قل المال.

الثاني: أنهم كانوا متهيئين مع شغلهم ومستعدين للخروج في سبيل الله في أي وقت طلبهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ومتى لزم الأمر، ولا يتفكرون في أموالهم، وبذلك أعطاهم الله البركة في أموالهم.

أما من ليس عنده الأشغال الكسبية ففي توكلهم ثلاثة أشياء:

أنهم كانوا لا يسألون الناس باللسان ولا بالحال .. وليس في قلوبهم إشراف لما عند الناس .. وإذا جاءت عليهم المشقة لا يخبرون أحداً بل يتوجهون إلى الله

ص: 1857

وحده ويبكون أمام الله، وبذلك يأتيهم الفرج، وتنزل عليهم نصرة الله.

وقد وكل الله عز وجل بدينه أنبياءه ورسله، ومن آمن بهم، ووفقهم للإيمان به والقيام بحقه، والذب عنه، وجهاد أعدائه.

وهو توكيل رحمة وإحسان، وتوفيق واختصاص، لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجته إليه.

فمن آمن بهم أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن كذبهم وأعرض عن هديهم فالرسل قائمون بها، مؤدون لها، مستقيمون عليها:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)} [الأنعام: 90].

والتوكل على ثلاث درجات:

الأولى: التوكل على الله مع الطلب وفعل السبب، على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والشهوات، فإنه إن لم يشغل النفس بما ينفعها شغلته بما يضره.

وكذلك يقوم بالسبب على نية نفع النفس، ونفع الناس بذلك.

وكذلك يقوم بالسبب ليتخلص من إشارة الخلق إليه، الموجبة لحسن ظنه بنفسه، الموجب لدعواه، فالسبب ستر لحاله ومقامه، وحجاب مسبل عليه.

ومن وجه آخر، وهو أن يشهد به فقره وذله، وامتهانه امتهان العبيد والفعلة، فيتخلص من رعونة دعوى النفس.

وأعظم من هذا كله أن القيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية، وحق الله على عبده، الذي توجهت به نحوه المطالب، وترتب عليه الثواب والعقاب، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض.

الدرجة الثانية: التوكل مع إسقاط الطلب من الخلق، فإن الطلب من الخلق في الأصل محظور، ولا يباح إلا عند الضرورة، فلا يطلب من أحد شيئاً.

فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والله تعالى غني حميد، يحب

ص: 1858

من يسأله، وقبيح بالإنسان أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (1).

الدرجة الثالثة: أن يعلم أن ملك الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة لا يشاركه فيها أحد، فهي ملكة قوة وامتناع وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك.

فهو سبحانه العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه، كما هو المتفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك.

وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وقدرته على كل شيء، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله.

فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة لم يجد بداً من اعتماد قلبه عليه سبحانه وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وجميع مصالحه كلها بيد الله وحده، لا بيد غيره.

وعلة التوكل:

التفات القلب إلى ما سوى الله، إلى من ليس له شركة في ملك الحق، ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فهذه علة توكله، وعلة أخرى وهي رؤية توكله، فإنه التفات إلى عوالم نفسه.

وعلة ثالثة وهي صرف قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه.

والتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.

(1) صحيح: أخرجه أحمد برقم (2669).

وأخرجه الترمذي برقم (2516)، صحيح سنن الترمذي رقم (2043).

ص: 1859

وحال العبد في توكله على الله درجات:

الأولى: أن يكون حاله مع ربه وثقته بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل عادة.

الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع ربه كحال الطفل مع أمه، فهو لا يعرف غيرها، ولا يفزع لأحد سواها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها، وطلب منها كل ما يريد.

الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، يرى تدبيره وتصريفه بيد مالكه الذي يدبر الكون، فهو مثل صبي علم أنه إن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه ولا تتركه.

وهذا المقام في التوكل سببه المعرفة والثقة بكرم الله وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يُسأل، ويقتضي الشكر له، وسؤاله وعدم سؤال غيره.

ووجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} [هود: 6].

وقوة التوكل مبنية على كمال التوحيد، فمن كان توحيده أكمل كان توكله على الله أعظم.

فإذا آمن العبد بالله رأى كل شيء صادراً عن الواحد، ومتى علم أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون الخوف منه، والرجاء له، وبه الثقة، وعليه التوكل وحده؛ لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، والكل مسخرون له.

فلا يعتمد على المطر أو الماء في خروج الزرع .. ولا يعتمد على الريح في سير السفينة .. ولا على العين في الرؤية .. ولا على الأذن في سماع الأصوات .. ولا على الطعام في الشبع .. ولا على الدواء في الشفاء. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه .. شكر الكاتب دون القلم.

وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب.

ص: 1860

فسبحان مسبب الأسباب، الفعال لما يريد، الذي لا تتحرك ذرة إلا بإذنه.

فالتوكل هو اعتماد القلب على الوكيل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء يحبها ويطمئن إليها كالشفقة والقوة، والمعرفة والغنى، والهداية والأمانة، وحسن التدبير، وحسن الخلق.

وإذا عرفت هذا فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة، واسع الرحمة، عظيم الحلم، جزيل العطاء، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه من الوجوه.

وإذا لم يجد العبد هذه الحالة في نفسه فذلك إما لضعف اليقين بإحدى هذه الخصال، وإما لضعف القلب باستيلاء الجبن عليه.

فلا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً.

وليس معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل والقلب، والسقوط على الأرض، فهذا فعل الجهال، وهو محرم في الشرع.

وقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين وأعلن محبته لهم.

وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده.

وسعي العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب .. أو لحفظ موجود كالادخار .. أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل .. أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض.

فحركات العبد لا تعدو هذه الأربعة.

فالأول: جلب المنافع، وتجلب إما بأسباب مقطوع بها كالأسباب التي أمر الله بها شرعاً وجعلها سبباً كأن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع فلا تمد يدك إليه، وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، فهذا جنون وسفه محض، ليس من التوكل في شيء.

ص: 1861

وكذلك لو لم تزرع وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون وجهل بسنة الله، وليس من التوكل.

وإنما التوكل أن تعتمد على الله في كل شيء، وتباشر الأسباب التي أمر الله بها ببدنك.

والثاني: أسباب ليست متيقنة كمن يسافر بغير زاد متوكلاً على الله، فهذا مجرب على الله، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به.

الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل.

الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر، فليس من التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في أرض مسبعة، أو مجرى السيل، أو تحت جدار خراب، فكل ذلك منهي عنه.

ولا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال، ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضياً بكل ما يقضي الله عليه.

ومتى عرض له أنه إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه فقد بان أن توكله مدخول، وأنه بعيد عن التوكل.

الرابع: السعي في إزالة الضرر كمداواة المريض ونحو ذلك.

فالسبب المزيل للضرر إما مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا تركه ليس من التوكل في شيء، بل تركه جنون وسفه.

وإما أن يكون السبب مظنوناً كالفصد والحجامة، وشرب المسهل ونحو ذلك فهذا لا يناقض التوكل.

وقد تداوى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالتداوي.

وإما أن يكون السبب موهوماً كالكي والرقية زمن العافية لئلا يمرضوا، فهذا ينافي التوكل، وإنما تكون الرقية والكي بعد المرض.

ص: 1862

وليس معنى التوكل أن نترك العمل، بل الله عز وجل أمرنا بأمرين:

أمرنا أن نعمل .. وأمرنا ألا نعتمد على العمل.

أمرنا أن نكتسب، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الرزاق وحده .. وأمرنا أن نتداوى، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الشافي وحده .. وأمرنا أن نعد للعدو ما نستطيع، وأمرنا أن نعتمد عليه وحده .. وأمرنا أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد عليه وحده.

فمن أعد وعمل ولم يتوكل عليه سبحانه فقد أخل بأحد الأمرين، ومن توكل ولم يستعد فقد أخل بأحد الأمرين.

فلا بدَّ من الإيمان بالله، والإيمان بالأسباب التي بثها الله في الكون، فمن أنكر الأسباب وعطلها كفر، ومن جعل لها تأثيراً أشرك.

فالأسباب نؤمن بها ونفعلها، ولكن لا نعتمد إلا على الله وحده لا شريك له:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} [الأنعام: 102].

ص: 1863