الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضية الثواب والعقاب بين مدارس الإسلاميين بيانا وتأصيلا
المؤلف/ المشرف:
جابر زايد عيد السميري
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
الدار السودانية للكتب - الخرطوم ̈الأولى
سنة الطبع:
1416هـ
تصنيف رئيس:
فرق وملل ونحل
تصنيف فرعي:
حسنات وسيئات
الخاتمة
تبين لنا من خلال البحث ما يأتي:
أولاً:
إن دعوى الصراع بين العقل والنقل في الإسلام مصطنعة، حيث ابتدأه أعداء الإسلام، واستمروا يحركونه خلال العصور الإسلامية المختلفة، وهؤلاء الأعداء ينتظمون في سلسلة تتمثل أطرافها في مستشرقين يهود ومسيحيين وفي أتباع وتلامذة مخلصين لهم من أبناء المسلمين، أما أطراف السلسلة البعيدة فترتد خلال القرون عبر الباطنية والإسماعيلية وإخوان الصفا حتى تصل إلى اتباع ابن سبأ.
والحقيقة أنه ليس بين القرآن الكريم وبين أحكام العقل الصريح الراشد أدنى ذرة من التعارض، كذلك، ليس ثمة أدنى ذرة من تعارض أو إختلاف بين السنة المحققة الصحيحة وبين أحكام العقل الصريح الراشد، وإذا بدأ أي اختلاف أو تعارض بين نصوص الوحي وبين العقل فإنما يكون ذلك لأحد الأسباب الآتية:
1 -
تفسير خاطئ للنص يؤدى إلى مفهوم غير صحيح ينسب إليه.
2 -
خطأ مقررات العقل التي يحاكم إليها المفهوم الصحيح للنص.
3 -
مفهوم غير صحيح للنص يحاكم مقررات عقلية خاطئة.
أما إذا استقام مفهوم النص، وسلمت مقررات العقل وأحكامه فإنه يستحيل أن يند بينها أدنى تعارض أو اختلاف. فالصراع إذن ليس بين النص والمنطق، أو بين النقل والعقل، فهما متفقان تماماً، وهذه إحدى بديهيات الإيمان بالله والرسل، لأن الله – عز وجل – هو الذي خلق العقل السليم الراشد في الإنسان، ووضع فيه أحكامه وقوانين تفكيره بالحق، وهو الذي أنزل الوحي بالحق، والحق واحد لا يختلف ولا يتعدد وهذا يقتضى بالضرورة مطابقة الحق الذي جاء به الوحي على الحق الذي تعرفه العقول.
وأما الصراع الذي نشأ في تاريخ الفكر الإسلامي وفي تاريخ الفكر الديني عامة، فإنما هو بين أهل النقل وأهل العقل، تمسكت الفئة الأولى بالنص من خلال مفاهيم خاطئة لا تعبر عن النص في ذاته، وأهملوا موافقة هذه المفاهيم مع صريح المعقول، والفئة الثانية تمسكت بمقررات عقلية خاطئة مستخلصة من ثقافات أجنبية وعلوم قاصرة غير صحيحة، وجاءوا إلى القرآن والسنة يحاكمون نصوصها إلى هذه المقررات الخاطئة، وهم يعتقدون أنها صحيحة فوجدوا اختلافاً بين العقل والنقل.
فلجأوا – البعض بحسن نية دفاعاً عن الإسلام حسب ظنه، والبعض بسوء نية هدماً للإسلام حسب فهمه – إلى تأويل النص حتى تستقيم مع مقررات العقول الخاطئة، والتي يعتقدون أو يزعمون أنها صحيحة، ومن ثم أولوا فخرجوا من القرآن والسنة مفاهيم باطلة، وأحكاماً خاطئة ليست منها أو فيها ولا تمت إلى الوحي بصلة، أو تمت له بصلة، ولكنها محرفة وليست مطابقة لما جاء به تماماً من هؤلاء الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأصحاب منهج التأويل العقلي بعامة وعند هؤلاء وبهم قامت معركة النقل والعقل.
أما أهل السلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث والفقه فلم يجدوا أدنى تعارض أو اختلاف بين نصوص الوحي ومقررات العقل، وذلك بسبب منهجهم الفكري السليم الذي مكنهم الله به من استنباط المفاهيم الصحيحة من النصوص فجاءت ربانية خالصة، ومن ثم طابقت مقررات العقول الصريحة الراشدة.
ولذلك يمكننا القول: أن الصراع بين النقل والعقل لا يعبر عن حقيقة تاريخية إسلامية خالصة، وإنما هي تعبير عن أحد وجوه الانحرافات في الفكر الإسلامي وهو في نفس الوقت علة كثير من الانحرافات الفكرية التي أصابته.
ثانياً:
لا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح، كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء، وليس الجزاء من الله – سبحانه – على سبيل المعاوضة والمقابلة، كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا، فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة، إن زاد زاد أجرته، وإن نقص نقص أجرته، وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن، فنفى – صلى الله عليه وسلم – أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة، والمقابلة والمعادلة، وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا، وهذا غلط من وجوه:
الأول: أن الله – تعالى – ليس محتاجاً إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره، بل هو سبحانه كما قال في الحديث الصحيح:(إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)، والعباد إنما يعملون لأنفسهم، كما قال تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} .
وأما العباد فإنهم محتاجون إلى من يستعملون لجلب منفعة أو دفع مضرة، ويعطونه أجرة نفعه لهم.
الثاني: أن الله هو الذي مَن على العامل: بأن خلقه أولاً وأحياه ورزقه، ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل إليه الكتب، ويسر له العمل، وحبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره، فكيف يتصور أن يكون للعبد على الله عوض وهو الذي خلقه وأحدثه، وأنعم على العبد به؟! وهل تكون إحدى نعمتيه عوضاً عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما؟!
الثالث: أن عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلاً له ومعادلاً حتى يكون عوضاً، بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل.
الرابع: أن العبد قد ينعم ويمتع في الدنيا بما أنعم الله به عليه، مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة، وإذا كان كذلك لم يبالغوا في الاجتهاد مبالغة من يضره الاجتهاد، كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وزال عنهم العجب، وشهدوا إحسان الله بالعمل.
الخامس: أن العباد لابد لهم من سيئات، ولابد في حياتهم من تقصير، فلولا عفو الله لهم عن السيئات، وتقبله أحسن ما عملوا – لما استحقوا ثواباً، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – (من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: يا رسول الله، أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ {7} فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب). ولهذا قال في الحديث لما قيل له ولا أنت يا رسول الله؟! قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه). فتبين بهذا الحديث أنه لابد من عفو الله وتجاوزه عن العبد، وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء قال الله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} .
وإذا تبين ذلك أفاد هذا ألا يعجب العبد بعمله، بل يشهد نعم الله عليه، وإحسانه إليه في العمل، وأنه لا يستكثر العمل، فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يرحمه الله ويعف عنه ويتفضل عليه، لم يستحق به شيئاً، وأنه لا يكلف من العمل ما لا يطيق ظاناً أنه يزداد بذلك أجره، كما يزداد أجر الأجير الذي يعمل فوق طاقته فإن ذلك يضره، إذ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى وأحب العمل ما داوم عليه صاحبه، فإن الأعمال بالخواتيم، بخلاف عمل الأجراء في الدنيا، فإن الأجرة تتقسط على المنفعة، فإذا عمل بعض العمل استحق من الأجرة بقدر ما عمل ولو لم يعمل إلا قليلا. فمن ختم له بخير استحق الثواب، وكفر الله بتوبته سيئته ومن ختم له بكفر أحبطت ردته حسناته، فلهذا كان العمل الذي داوم عليه صاحبه إلى الموت خيراً ممن أعطى قليلا ثم أكدى وكلف نفسه ما لا يطيق، كما يفعله كثير من العمال.
فلابد من العمل المأمور به، ولا بد من رجاء رحمة الله وعفوه وفضله، وشهود العبد لتقصيره، ولفقره إلى فضل ربه، وإحسان ربه إليه.
وقد قال سفيان بن عيينة وغيره: (كانوا يقولون: ينجون من النار بالعفو، ويدخلون الجنة بالرحمة، ويتقاسمون المنازل بالأعمال) فنبه على أن مقادير الدرجات في الجنة تكون بالأعمال وأن نفس الدخول هو الرحمة، فإن اله قد يدخل الجنة من ينشئه لها في الدار الآخرة بخلاف النار، فإنه أقسم أن يملأها من إبليس وأتباعه.
ثالثاً: اتفاق السلف وأهل السنة على مفهوم واحد للكسب، وتبين أن الغموض الذي اكتنف تعريف الأشعري للكسب والذي سبب له اتهامات عديدة، كان سببه:
أولاً: متابعة الأشعري للسلف الأوائل حيث أنه لم يثبت عنهم عند الأشعري أنهم خاضوا في مثل هذه المسألة الدقيقة فلم يثبت أنهم نفوا تأثير قدرة الإنسان في أفعاله بل سكتوا عن الكلام فيها جملة وتفصيلا فوسع الأشعري السكوت عن الكلام فيها.
ثانياً: انتقال الأشعري من عقيدة المعتزلة إلى عقيدة السلف جعله يتحفظ من الخوض في مسائل خاضت فيها المعتزلة، وإن صح بعضها – لأن السلف يكرهون إحداث أمور لم تكن قد حدث فيها الكلام – كقضية تأثير قدرة العبد في أفعاله – وحرص الأشعري على تنقية نفسه مما علق فيها من سمعة الانتماء إلى المعتزلة، فرض عليه السكوت وعدم النفي لقدرة إحداث العبد لأفعاله بإذن الله. أو أنه نفى ما ذهبت إليه المعتزلة من القول بإطلاق قدرة العبد بالأحداث. فعلى الرأيين لم يخالف الأشعري العقيدة الحقة.
ومما يؤكد ما ذهب إليه الأشعري، ما ذهب إليه الإمام الجويني وهو في مدرسة الأشعري.
رابعاً: توسط مدرسة السلف وأهل السنة بين الجبر وحرية الاختيار. فلا هم جبرية خالصة ولا هم مفوضون كل التفويض، هذا الموقف الوسطي صبغهم بصبغة الاعتدال والاتزان حيث أنهم أصابوا في غالب استدلالاتهم بآيات القرآن والسنة والأدلة العقلية فيما راموا إثباته من المسائل العقدية، أو نفيه عنها .. ولهذا جنبوا القرآن والسنة الاختلاف وتضارب بعضه ببعض، وأبقوا للمجتمع مسئوليته التي أناطها الشارع به، فهو مأمور أن يعمل ويكد ويتقدم ويتطور وأنه سيوفق، أما أن آمن بأنه مجبور لا حول له ولا طول، وسلم للأمر الواقع فإنه حتماً مقضياً سيتأخر ويسقط تحت أقدام الآخرين وحينئذ لا يلوم إلا نفسه والله لم يأمره بالخنوع والانطواء بل أمره بالانطلاق والعمل، فإنه إن حوصر وهذه حاله فهذا من إبتلآت خالقه فعليه أن يصبر ويسلم ويعمل جاهداً للتخلص بالعودة إلى الله. فهكذا الإنسان لا هو مجبور مقهور على فعله، ولا هو مفوض مسيب في فعله بل له وجود بين هذين الأمرين فعليه ألا ينسى موطنه فيضل الطريق إما بالإفراط أو التفريط وكلاهما مرض عضال له مثالبه على الفرد والأمة.
خامساً:
كثير من الخلافات بين المسلمين قد تكون لفظية، ولكن لسبب ما وغاية غير حميدة، وسوء استخدام لهذا الخلاف. تكبر الفجوة وتتسع بين المختلفين مما يؤدي إلى تسطير الأسفار في التعييب والنقد والنقض مما يؤدي إلى هدر الجهود والطاقات وتمزيق الوحدة، وتجافي القلوب مما يترتب عليه ضعف الأمة وانهيارها ومن ثم تكالب العدو عليها فيستبيح أرضها وأعراضها.
ولهذا ينبغي الكشف عن المعاني الدقيقة، وإقامة الحوار الواضح الهادف الذي من شأنه يجمع ولا يفرق، يقوي ولا يوهن، يكسب المودة، ويبعد التجافي، ويمكن الاستعانة على ذلك بتأصيل ألفاظ القرآن الكريم والسنة حتى تكون العمدة في أي حوار ينشأ بين مدارس المسلمين المتنوعة، والبعد عن استخدام المصطلحات التي قد يشق على الباحث فهم مراميها ومقصدها.
سادساً:
إن ما يمكن أن نجعله علامات للفكر الإسلامي في هذه المرحلة من مراحل تطور مشكلة الحرية، وصراع الإرادة المختارة والفاعلية الإنسانية مع مفهوم القدر في أذهان المسلمين هو الآتي:
أولاً: لجأ ضعيفوا الإيمان وأصحاب القلوب المريضة إلى التمحل بالمشيئة والقول بالجبر المحض مع قلة التقوى وإقبالهم على المعاصي كما هي طبيعة الأمم السابقة حيال المشكلة مع اتخاذ الجبرية قاعدة لمنطلق سياسي.
ثانياً: هناك تيارات مشبوهة بالزندقة من خارج وداخل العالم الإسلامي ساعدت على تقوية هذا الاتجاه، ثم ساعدت على ظهور وتقوية الاتجاه المضاد وهو إنكار القدر، وذلك بين عامة المسلمين.
ثالثاً: كانت نشأة القدرية ومحاولة أصحابها تحرير الإرادات الإنسانية وإثبات فاعلية البشر والعدل الإلهي كرد فعل لانتشار الجبرية بين الناس، فقال به كثير من مخلصي المسلمين هروباً من شناعات القول بالجبر وتبريراً للخروج على السلطان من الخارجين.
رابعاً: لم يعرف القدريون من مفكري المسلمين حتى هذا العهد التفرقة بين الأمر الكوني والأمر الابتدائي، مما جعل أمامهم ذا شقين لا ثالث لهما، إما جبر، وإما تفويض ولا قدر.
خامساً: وقف السلفيون من صحابة وتابعين ومحدثين وفقهاء في وجه الاتجاهين: الجبر والتفويض يثبتون المشيئة الإلهية المطلقة، وأن كل شيء بقضاء وقدر، حتى معاصي العباد، كما أكدوا وجود الذات الإنسانية الحرة الفاعلة متبعين في ذلك الكتاب والسنة مع التوقف عن الجدل والبحث والكلام بإعتباره أمراً مستحدثاً.
سابعاً: أخطأ المعتزلة في تصورهم لعدل الله حين قالوا:
أولاً: إن من يدخل النار لا يخرج منها أبداً مع قولهم: إن مرتكب الكبيرة – ولو كان يشرب جرعة خمر واحدة – إن لم يتب قبل الموت فإنه مخلد أبداً في النار ولا يشفع له نبي ولا ملك مقرب ولا عمل طول العمر، بمعنى أن الكبيرة أحبطت سائر عمله.
ثانياً: إلحاقهم وعيد فساق المسلمين بوعيد الكفار وحملهم آيات الوعيد الواردة في الكفار المشركين على فساق المسلمين، وجعلهم في ذلك سواء فهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً علماً بأنهم يفرقون بينهم في أحكام الدنيا فيجوزون لفساق المسلمين مناكحتهم وغير ذلك مما لا يجوز أن يفعلوه.
ثالثاً: تغليبهم عقاب الله – وهو من غضبه – على ثوابه – وهو من رحمته – مع بيان أن الله قد أخبر أن رحمته سبقت غضبه وأن رحمته شملت كل شيء، وإنكارهم للشفاعة المخرجة لفساق المسلمين من النار وكذلك إنكارهم لعفو الله الشامل لمن دخل النار ممن يشاء الله خروجهم منها.
فعدل الله لا يعرف بدلالة العقل فقط بل ينبغي قراءة النصوص وفقه معناها فيها ندرك عدل الله وسعة رحمته وغيرته على أن ترتكب محرماته. فالنقل والعقل وسيلتان متلازمتان لمعرفة عدل الله، فإن عطلت إحداهما حصل الإخفاق وانتكست النتيجة.
رابعاً: قياسهم عدل الله على عدل الخلق مع إيمانهم بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
ثامناً: صح تسمية النعم التي يجعل الله بها للمؤمنين بسبب إيمانهم ثواباً، والنقم ابتلاء، وكذلك العذاب والهموم التي تصيب الناس عموماً بما كسبت أيديهم عقاباً، ولهذا قال السلف وأهل السنة بجواز حصول الثواب والعقاب في دار الدنيا، وخالف بعض المعتزلة هذا وزعموا أن لا ثواب ولا عقاب إلا في دار الآخرة!! وسبب الخلاف ناشئ عن الاختلاف في تعريف الثواب والعقاب، فمن اشترط خلوص الثواب من الكدر، قال: إن هذه المعاني لا تتحقق إلا في دار الآخرة، ومن لم يشترط ذلك، قال بتداخل الثواب والعقاب.
والذي نراه، أن الإجماع قائم على أن الآخرة بداريها الجنة والنار هي المقر الحقيقي لسرمدية الثواب والعقاب، وأنه لا مانع من تسمية نعيم الدنيا ثواباً، وهمومها وآلامها عقاباً، ومما يؤيد ذلك ويدعمه أن الله سبحانه سماه ثواباً فقال تعالى:{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} وقال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فسمى الله نعيم الدنيا ثوابا ولم يشترط سرمديته، إلا أن المعتزلة غالباً ما يطلقون الاصطلاحات على معاني تتلاءم مع منهجهم العقلي. ولو أنهم تأملوا معاني القرآن الكريم بجانب ما آتوا من عقول سامية لاتفقوا مع غيرهم، وجنبوا المسلمين بلاء كثيراً.
وكذلك سمى الله ما يصيب الناس في الدنيا عقاباً فقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وقال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} فسمى – سبحانه – ما أصابهم من عذاب في الدنيا عقاباً، وهذا بين ولله الحمد والمنة.
تاسعاً:
ويحق لنا أن نأخذ على جميع المدارس ما عدا السلف طبعاً عدم رجوعهم إلى الوحي بشقيه – الكتاب والسنة – جملة واحة بمنهج علمي أحصائي شامل، بدلاً من أخذه أحياناً وتركه أحايين، أو الرجوع إليه بناء على أصول عقلية سبق تقعيدها قبل النظرة الشاملة فأعطى نتائج غلب عليها الخطأ وعدم النضوج. وهذا ما حصل تماماً، عندما خاضت كل مدرسة غمار المشكلة قاصدة الوصول إلى الحقيقة، فمنهم من أصاب. ومنهم قارب، ومنهم من لم يحصل المقصود، وما سبيل النجاة عنهم ببعيد.